رغم جُهُود مُتوالية مَبذولة في إخراج إنتاج علماء ومُفكِّري الإسلام الأقدمين، والاعتناء به طبعًا وتحقيقًا ودرسًا؛ إلا أن مُشكلة عظمى تنخر في هذه الجهود، وتكاد تُجنِّبها تجنيبًا عن عموم الناس -بَلْهَ طبقات من المثقفين-؛ وهي تلك الحملات التي تسعى حثيثًا للتشكيك في ذلك الإنتاج، وزعزعة الثقة به. فصار المشهد الكُلِّيّ نهرًا بين شاطئين؛ أحدهما عليه أناس تحاول كل المُحاولة أن تُنقِّي هذا النهر، وتشذب مجراه، وتُسهِّل طريقه؛ وعلى الجانب الآخر أناس آخرون يلقون فيه المُستقذر، ويُشنِّعون على روائه، ويُضيقون مجراه يريدون سدَّه.
ولعلَّ جزءًا من الحلحلة لهذا الإشكال الذي نحن فيه واقعون؛ يكمن في نهج معالجة هذا الإنتاج وتقديمه للناس. فإن تقديم هذا الإنتاج محض التقديم؛ اكتفاءً بما فيه من أفكار ومعانٍ، مُجاوَرَةً ببعض التأسِّي والتوجيه الأخلاقي، لا يصمد في وجه تلك الهجمات الشنيعة التي تدبَّج ضدَّه، ولا يرأب الصدوع التي ينقبها ذلك الاتجاه الآخر في نفسيَّة وذهنيَّة العموم تجاهه. ولعلَّ الحلَّ يكمن في إظهار الجانب البنائي المنطقي الذي ينتظم إنتاج المسلمين، -أو الذي ينتظمه إنتاجُ المسلمين-، والارتكاز على النسق الفكري في تلك المؤلفات، وإبراز ما فيها من قوى إقناعية، ومنطق حجاجيّ؛ يقوم على مُخاطبة العقول البشرية مخاطبةً سويَّةً وانتزاعها من حال الشك أو الخلاء، إلى حال اليقين والملاء.
هذا النهج هو الأحقّ بالإشاعة والظهور، والأحرى بالارتكاز عليه في معالجة تراثنا، مُخاطِبين به الجمهور والمثقفين[1]. وصفة “الأحقيَّة” لا تنزع الفضل عن باقي مسالك المعالجة، بل تقتضي التقديم وحسب. ومن هنا حاولتُ في هذه التجربة أن أطبق هذا النهج على أحد المؤلفات صغيرة الحجم، ذات الأهمية في بابها؛ “الرسالة الشافية في الإعجاز”، للإمام عبد القاهر الجرجانيّ (ت 371). وما هذا الاختيار إلا لخصوصية موضوع إعجاز القرآن، ولخصوصية الإمام واصطراعه في أتون المعارك الفكرية التي نشبت في الوسط الإسلامي. وأقسم المعالجة في المقال قسمين: الأول دار حول درس ما يتعلق بالرسالة، وموضوعها، ومؤلفها، وسماتها، وفوائد على هامشها. والآخر وهو المنهج الخاص الذي أشرت إليه؛ أعرض فيه الرسالة الشافية، عرضًا مرتبًا كما كتبها صاحبها، مع تخصيص العرض بمناهج الاستدلال التي اتبعها عبد القاهر الجرجاني، من دون تصريح منه في رسالته. فآتي لأعيِّن ما استخدمه، وأصرح به، وأعرض بعض ما أتى به فيه. أيْ يقوم هذا الجزء بمَنْهَجَة الرسالة الشافية.
القسم الأول: مُدارسةٌ عن الرسالة الشافية في الإعجاز
· "إعجاز القرآن" بين الموضوع العلمي والفرع العلمي
ظلَّ القرآن الكريم أكبر مصادر نبوع العلوم، وأسباب تطورها طوال تاريخ المسلمين. فمن الرغبة في الحفاظ عليه بدأت نزعة التدوين تطغى على الأمة، وجرَّت وراءها نزعات لتدوين كافة أشكال المعرفة؛ ومن رغبة فهمه حرَّك الدواعي لقيام منظومات علمية كاملة، في مسارب علوم اللغة، والمناهج التفسيرية؛ ولكونه لُبّ الإسلام عقيدةً وشريعةً دفع دفعًا في تطوير هاتين المنظومتين في شعاب غير محصورة، ومن توجيهه بالانصياع لأمر الرسول حرَّك الصدور لحفظ السنة وتدوينها، وإنشاء منظومة العلوم الحديثية، وهكذا الأمر مسلوكًا في كافة منظومة الدراسات العربية والإسلامية.
لكن معركة فكرية وعلمية قامت حول القرآن نفسه، وتدعيم حُجيَّته، في إثبات إعجازه. وقد نشأ الصراع حول إعجاز القرآن منذ اللحظة التي واجه فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس به، وقرأ عليهم آيات التحدي الكثيرة المبثوثة في القرآن، والتي منها: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[2]. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فأتوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[3]. (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)[4]. (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[5].
أحدثت هذه الآيات زلزلةً في الأرض؛ فشكَّك به المشركون، وأرجف فيها المُرجفون بعدهم على مد الزمن، ودارت رحى المعركة دورانها؛ محفِّزةً المسلمين للاستدلال على قضية مَقولُها: “القرآن الكريم مُعجِز للبشر كافةً” بطرق الاستدلال المتاحة في نظر العقل. لِمَا لهذه القضية الإعجازية من تمركُز؛ فالقدح فيها مُودٍ بالإسلام كليَّةً.
وفي هذا تمظهرت موضوعات إعجاز القرآن، وتفرَّعتْ على جهات إعجازه التي حاول إبرازها المسلمون؛ من وجوه إخبار القرآن بالماضي، وإخباره بالمستقبل، والإعجاز اللغوي، والإعجاز البلاغي، وصولًا إلى الإعجاز العلمي الذي ظهر ظهورًا قويًّا في العقود الأخيرة. إلى الحد الذي حدا بالأستاذ محمود شاكر إلى اقتراح إفراد إعجاز القرآن بعِلم خاص دون العلوم[6]. بل فسَّر من قبلها صنيع الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابه “دلائل الإعجاز” أن الجرجاني أراد أن ينشئ علمًا جديدًا: “وأنه كان يوشك أن يُعيد النظر في كتابه ليجعله تصنيفًا في علم جديد اهتدى إليه، واستدركه على مَن سبقه”[7]. وبهذا تتحول قضية “إعجاز القرآن” من موضوع علميّ إلى حقل علميّ وحده. وبغضّ النظر عن هذا الاقتراح، فهو يلمح إلى دوام المناقشة في هذا الموضوع، وثرائه وتجدده.
والإعجاز البلاغي للقرآن -موضوعًا للدرس- قد شغل المسلمين كلَّ المَشغَلَة، وملك عليهم ألبابهم. وهو موضوع عسير، يتطلَّب لمناقشته الإلمام -على أقل تقدير ممكن- بمجموع علوم ومعارف؛ أستطيع أن أقسمها لثلاثة أقسام -وهو مجرد تقسيم لغرض التقسيم-: مجموع العلوم التي تتعلق بإقامة البنية اللغوية صحيحةً (الصرف، النحو، الدلالة..)، مجموع العلوم المتعلقة بجماليَّات النص وقدراته التعبيرية (علوم البلاغة العربية)، ومجموع العلوم والحِكمة التي تتعلق بالمعاني المصبوبة في القرآن؛ بوصفها محتوى حيز الكلام الوارد فيه، حيث لا يمكن الحُكم على جودة نظم القرآن؛ إلا بمعرفة -عمومية على الأقل- لمعانيه الواردة فيه. ولعل هذا التكوين هو ما قصد إليه الإمام الباقلاني، حينما تحدث عن متطلبات فهم مسألة إعجاز القرآن ونظمه، فقال: “إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه؛ مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، قد وقف على جُمَل من محاسن الكلام ومُتصرفاته ومذاهبه، وعرف جُملة من طرق المتكلمين، ونظر في شيء من أصول الدين”[8].
نمط "الرسائل" مَعلَمًا من معالم الدرس العربي
تعددت أشكال الكتابة العلمية والفكرية عند المُسلمين، وهذا من أسباب وعلائم ثراء العلوم والحراك الفكري عندهم. ومن أبرز هذه الأشكال؛ الرسالة. وقد بدأ تدشين هذا الشكل منذ رسالة الإمام الشافعي الشهيرة، “ثم غلبت كلمة الرسالة في عُرف المتأخرين على كل كتاب صغير الحجم، مِمَّا كان يُسمِّيه المتقدِّمون جُزءًا”[9].
وصارت الرسائل أحد الأوعية الرئيسة في الدرس العلمي العربي. فدُبِّجتْ رسائل في كافة صنوف المعارف، وكانوا يخصون الرسالة بموضوعٍ واحدٍ يناقشونه باستفاضة، أو بما يسمَّى الآن كُتيِّب، مما يضم عدد موضوعات في صفحات قليلة. ومن هذه الرسائل ما دُوِّن في إعجاز القرآن، مثل رسالة الخطابي، ورسالة الرماني، ورسالة عبد القاهر الجرجاني. ولهذه الرسائل فوائد عظيمة، فهي موجزة ومكثفة المحتوى.
عبد القاهر الجرجاني
هو عبد القاهر أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد الجُرجانيّ، من جُرجان. توفي 471هـ أو 474هـ. نحويّ ثبت؛ حتى لُقِّب في الكُتُب بالنحويّ، وكان شافعي المذهب، أشعريّ الطريق. رغم قوة تآليف الجرجاني، وأن الكثيرين يعدونه إمامًا من أئمة العربية؛ إلا أن كتب التراجم لم تورد عنه إلا النادر. ففي “سير أعلام النبلاء” -مثالًا- بضع سطور لا تسمن ولا تغني[10]. ويمكن مراجعة شيء من حياة عبد القاهر من كتاب “عبد القاهر الجرجاني” د/ أحمد أحمد بدوي، وصاحب الكتاب أورد مسألة نُدرة الحديث عنه في مصادر التاريخ التي استقصاها[11]. ويشكو من ندرة الحديث عن الجرجاني أيضًا؛ الأستاذ محمد رشيد رضا. يقول: “حتى ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي هذَّبَ الفنّ (يقصد هنا البلاغة) بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السَّكَّاكيّ. وما كان السكاكي إلا عيالًا على عبد القاهر”[12].
وقد يكون في هذه الندرة دلالة على أنه كان رجلًا جديًّا، عصاميًّا، من الذين لم يكن لهم علاقة بالسياسيين، ولا كانوا بذي صلة بأصحاب الأموال، ولا بذي التصادُق مع أعيان القوم -كما يفعل كثير من أكابر العلماء المذكورين في التاريخ-. ومن يراجع تأليفه الرصين البارع؛ يجد الرجل مُفكِّرًا لا عالمًا وحسب، ولا يتأتى هذا النمط الرهيف الدقيق من النظر إلا مع اعتزال الناس، والتوفُّر على الفكرة. وقد ألَّف الجرجاني كُتُبًا قيمة، منها: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، شرح الإيضاح في النحو، والجُمل في النحو، وغيرها.
وقد زادت العناية بالجرجاني في العصر الحديث بصورة ضخمة، وأنشئت حوله عديد الدراسات، وجهوده تُدرس في الأزهر ودار العلوم في مناهجهما الرئيسية، وسائر كليات ومعاهد الدراسات العربية والإسلامية. ويُعد الجرجاني من ركائز البلاغة العربية؛ “واضع علمَيْ المعاني والبيان، ومؤسسهما في العربية”[13].
أما الإنجاز الأعظم الذي انصبَّ فيه جهد الرجل، وتألَّقتْ فيه قريحته، فكان نظرية النَّظْم؛ التي مَحوَرَ فيها سبك الألفاظ وتعاضُد التراكيب، ومعرفة سر نظم الكلام. وهي باب واسع وفكرة متألقة يُرجع لها في مظانها[14]. ولعلَّ وصفه بالنحوي لا يتعلق بتأليفه في النحو بمفهومه المتعارف، ونسقه المعهود؛ بل كذا بهذه النظرية التي فهم بها النحو الفهم الأكمل، وضم فيها البلاغة لحمًا بعظم مع النحو؛ ليُنشئ الخلق الأكمل في تصور البنية اللغوية.
· ما هي الرسالة الشافية؟
هي رسالة من الرسالات التي كتبها مُفكِّرو الإسلام؛ تجليةً لأمر الإعجاز القرآني، فهي جهد مُكمل للسابقين عليها، مُضيف لهم. كتبها عبد القاهر الجرجاني تحت اسم “الرسالة الشافية في الإعجاز”. وقد سُطرت هذه الرسالة مع كتاب دلائل الإعجاز بنسخ واحد، كان محفوظًا في مكتبة حسين جلبي في تركيا. حتى طبعها محقَّقةً السيدانِ محمد خلف الله أحمد، ومحمد زغلول سلام، عام 1956م مع رسالتين أخريين للخطَّابيّ والرُّمانيّ، طبع دار المعارف تحت عنوان “ثلاث رسائل في إعجاز القرآن”. ثم أعاد تحقيقها السيد محمود شاكر طبع دار الخانجي، مع تحقيقه ونشره لكتاب “دلائل الإعجاز”.
والرسالة ذات حجم متوسط، بلغ في نسخة الأستاذين 41 صفحةً من القطع الكبير، وبلغ في نسخة شاكر 53 صفحة. الفارق بينهما هي التعليقات التي أثبتها السيد شاكر. وقد قرأتها في نسخة المعارف أولًا، وبان لي عوار أثناء القراءة، وصدوع لمْ يرأبها المحققان، ولا أريد أن أغمط حق أحد؛ لكنهما لم يستوليا على النص. ثم قرأتها ثانيةً في نسخة شاكر، فأكَّد لي ما شككت فيه بلفظه أولًا، ثم بعشرات التعليقات التي أثبت فيها نقص التحقيق الأول وقصوره عن أداء حق الرسالة. غير أن السيد “شاكرًا” ضبط النص ضبطًا كُليًّا، وبهذا تحددتْ بعض المعاني التي لا يحددها إلا الضبط من الثقة أو مُصاحبة السياق طويلًا.
وقد خط الناسخ على صفحة الرسالة جملة: “خارجة من كتابه الموسوم بدلائل الإعجاز”[15]. ولعلَّ المقصود أنها خارجة من معاني كتاب دلائل الإعجاز، وإلا فالمعنى الظاهر أنه ألَّف الدلائل أولًا، ثم أخرج منه هذه الرسالة اللطيفة، وأضاف ما أضاف. وبعض الباحثين الذين صاحبوا عبد القاهر طويلًا يرجحون أن الدلائل آخر ما كتب[16]. وفي الرسالة مقاطع تجدها بالنص في الدلائل[17]. وأيًّا كان منهما ألَّف أولًا؛ فلا ضير، وليس إشكالنا هنا. لكنا نفيد منها اتصال الكتاب بالرسالة؛ فكلاهما في موضوع إعجاز القرآن.
وقد تركَّزت الرسالة في موضوعين اثنين؛ هما: إثبات عجز العرب عند تحدي القرآن لهم، وإبطال القول بالصَّرفة التي أتى بها نفر قليل من فرقة المُعتزلة، كان أولهم “إبراهيم بن سيَّار النَّظَّام” (ت 231هـ). يقول د/ محمد عبد الهادي أبو ريدة: “وذهبت طائفة إلى أن إعجازه بالصرفة، بمعنى أن الله صرفهم عن مُعارضته والإتيان بمثله، قبل التحدي، مع قدرتهم على ذلك. واختلف هؤلاء في وجه الصرفة”[18]. ونقل الإمام الأشعري عن النظَّام قوله: “الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب. فأما التأليف والنظم؛ فقد يجوز أن يقدر عليه العباد، لولا أن الله منعهم بمنعٍ وعجزٍ أحدثهما فيهم”[19]. هذا هو مبدأ الصرفة والفكرة العامة لها؛ ثم جاء الاختلاف في كيفية صرف الله الناس عن القرآن؛ أهو بصرف الدواعي عن مُعارضة القرآن، أم بسلب العلوم والمعارف المُعينة لهم عن معارضته ومُجاراته. وقد ناقش عبد القاهر وجوه الصرفة جميعًا -كما سيأتي-. وفكرة الصرفة كانت شديدة الذيوع، نجد ذكرها في غالب الكتب والرسائل التي عالجت موضوع إعجاز القرآن؛ ولعلَّ هذا ما جعل عبد القاهر يخصص لها شطر الرسالة الشافية.
هذا، وهدف عبد القاهر من رسالته موزع على دحر آراء الملاحدة النافين لإعجاز القرآن بالكُليَّة، وخصص لهذا القسم الأول منها، وإبطال قول نفر من المعتزلة بالصرفة، لا محض قول النظَّام. أما عن مصادر الرسالة الشافية واستمدادات عبد القاهر فيها، فلا نعدم أن نجد ما كتبه المتقدمون عليه في مناقشة موضوع إعجاز القرآن، من الجاحظ والباقلاني وغيرهما. وهو هنا يستوعب موضوع بحثه، ويفيد من السابق ويتقدم خطوةً.
سمات الرسالة الشافية
تمتاز الرسالة الشافية بميزات منها:
1- أنها حملت خصائص المنافحة الكلامية والمدافعة عن القرآن، من قبل أحد المتكلمين الأشاعرة. وهي بذلك نموج حي لمعركة حقيقية -لا زائفة كبعض الموضوعات التي أثيرت في هذه القرون- دارت بين أطراف عدة؛ منهم الملاحدة، ومنهم المسلمون. تسلَّح فيها الإمام عبد القاهر بسلاحين: المُسلَّمات الدينية الإسلامية رُكنًا، والنزال العقلي بمُستوييه البرهاني والجدلي، أو القادح وغير القادح.
2- مُدافعة عقلية من طراز رفيع؛ ومن علائم ذلك أنْ راعى فيها عبد القاهر أن تكون مُختصرة. وهذا من سمات المُؤلَّف العقلي البارع الذي اختمرت في ذهن صاحبه الفكرة، وقلَّبها على وجوهها، فلم يبقَ إلى أن يعرض زبدة ما توصَّل إليه في عرض مُشرق. ويقتصر عبد القاهر على إيراد قول الخصم الذي سيدحضه، ثم يعقبه بالدحض دون زيادة. ولا أقصد هنا بالاختصار التقصير في المُدافعة، بل الاقتصار عليها دون غيرها، حتى إنْ وصل حجم الكتاب إلى آلاف الصفحات؛ فهو بهذا كتاب مختصر.
3- رسوخ قدم عبد القاهر في العلم والفكر، وأمانته العلمية في نقل أقوال المخالفين، بل اختيار أحسن وجوه القول لهم. وهنا يمثل عبد القاهر صورة مُثلى لرجل العلم المُسلم.
4- الرسالة الشافية رسالة مُفهِمة، غرضها إفهام القارئ الشبهة والرد عليها؛ لذا حرص عبد القاهر أن تكون واضحةً بيِّنةً، مُصرَّحًا بغرضها “وهذه جُمل من القول في بيان عجز العرب حين…”، مُصرَّحًا بنهجه فيها “وقد تحرَّيتُ فيها الإيضاح والتبيين، وحذوت الكلام…”[20].
5- ومن علائم الإيضاح التقسيم إلى قسمين واضحين، والتمثيل بالأمثلة المُفهمة، وخلو الكلام من الأسجاع والازدواج، بل النظم فيها مُرسل بلا تقيُّد؛ إلا في مواضع الاعتبار بعد حصول الإفهام[21].
فوائد على هامش الرسالة الشافية
مطالعة أي نص -قديم أو حديث- تُوقف قارئها المتأمل على معرفة ليست مقصود النص المُباشر، وقد لا تكون هدف القارئ الأول، بل هي من لازم عملية “القراءة الشاملة الحقَّة” لأي نص. ومن الفوائد التي على هامش الرسالة الشافية:
1- أنها تدل على ما كانت تصطرع به الساحة الفكرية الإسلامية من موجات إلحاد عابرة، وهجمات من أصحاب الديانات الأخرى. نرى عبد القاهر يصرح “واعلم أنه إن خُيل إلى قوم من جُهَّال المُلحِدَة…”[22]. ولا نغفل هنا أن بعض أهل العلم كانوا يطلقون صفة الإلحاد على بعض أفراد من الفرق المغايرة لأهل السنة[23]. ونرى في الرسالة مَن يقارن القرآن بشعر امرئ القيس، وخُطب غيره، كما تبادئنا الرسالة بالرد على النافين إعجاز القرآن كليةً. ونخلص من هذا؛ أن الصراع حول القرآن ما هدأ يومًا واحدًا منذ أنزل الله القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم-. ولعلَّنا نطالع الآن ساحةً تصطرع بمِثل ما اصطرعت به ساحة الأقدمين علينا. وهذا من شأنه بث الأمل فينا، بأنَّا لا نطالع جديدًا قد بدا من بعد خفاء، وتفحَّش من بعد انقطاع أمل -كما نسمع ونقرأ في خطابات كثيرة هذه الأيام-، بل هو صراع الحق مع الباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2- أن الكثير من الآراء التي قال بها المفكرون المسلمون على اختلاف مشاربهم كانت نابعة من الواقع المَعيش، وناتجة من معطيات واقعهم. وهذا الموضوع واسع جدًا، يُظلم على أساسه الكثيرون من المسلمين في وقتنا الحاليّ، عن طريق ذكر الآراء عاريةً عن ظروفها ومُلابساتها، فيخطئون بهذا الخطأ الفاحش غير المُغتفر، الذي لا يدرج إلا تحت باب التدليس المحض. وليس هنا محل النقاش، بل محل التنويه وحسب.
3- نقل عبد القاهر رأيًا لعمر بن الخطاب عن تفضيله زهير بن أبي سلمى من أمثاله الشعراء، قال: لأنه لا يتبع وحشي الكلام في شعره، ولا يعاظل بين القول. وهذه الشكوى الصريحة من سيدنا عمر -رضي الله عنه- تُحلَّل وحدها، وتُفرد بحديث واسع، وتردُّ أمورًا كثيرة إلى نصابها، ليس هذا محل التوسع فيها.
القسم الآخر: مناهج الاستدلال في الرسالة الشافية
تنوعت طرائق الاستدلال التي استخدمها عبد القاهر في الرسالة الشافية. وقد فرق في استخداماته بين القسم الأول والآخر؛ لهذا سأقسم العرض هنا كما قسم الرسالة.
- مُسلَّمة الجرجاني، وما نتج عنها:
بدأ الجرجاني استدلاله بالتسليم بقضية؛ هي أن “العرب الأقدمين هم الأصل في صناعة الكلام والبلاغة”. وقد سلَّم بها لاتفاق كل الأطراف عليها؛ فالمخالفون من الملاحدة الذين يذكرهم ينافحون القرآن بأشعار الجاهليين، فالجميع هنا مُسلِّم بالأمر. وقد ذكر الجرجاني قولين لخالد بن صفوان[24] والجاحظ، فيهما يؤكدان عجزهما عن مُداناة العرب الأوائل في فنون القول، وأتى بهذا الخبر ليدلِّل على دوام القصور عن العرب الأولين، حتى من أمراء البلاغة والمعاني المُبرَّزين.
ونجد الجرجاني يخصص الإعجاز القرآنيّ بوقت النزول، رغم أن إعجاز القرآن سارٍ في كل عصر ومَصر؛ لا لشيء إلا لأنه يقيم الإعجاز على النظم، ويرى العرب الأقدمين حائزيه الأكملين، الذين لا يُبارون فيه، ويقصر الجميع عن إدراكهم، ثم يدرج الدليل الخبري في ذلك -كما ذكر-؛ فتكون النتيجة أن القرآن مُعجز للجميع. أيْ أننا بهذا نصل للنتيجة نفسها. وهذه نقطة خلاف ونقاش، قد يُردُّ فيها على الجرجاني من البعض.
فإذا فرغ الجرجاني من هذه النقطة، أتى على ما بعدها؛ وهي إثبات عجز هؤلاء العرب الأقدمين عن معارضة القرآن، ومجاراته. وقد قسَّمها إلى دلالتين: دلالة الأحوال التي سأمنهجها في العنوانين التاليين، ودلالة الأقوال.
- استدلاله بمجرى العادة والواقع
وفي سبيل بيان عجز العرب، يستدل الجرجاني بجريان العادة، من ثبوت أصل المُقاوَلَة (أن يتنافس الاثنان في القول) والمُماتنة (معارضة شاعر لشاعر في قصيدة أوأقلَّ) بين الشعراء وأهل الأدب. يقصد أن عادة أهل الشعر والأدب أن يتمادى كلٌّ منهم على الآخر قصدَ العُلُوّ عليه وإظهار نفسه فوق نفس الآخر، وذلك دون إيجاد داعٍ للمُعارضة، بل هي جبلَّة النفوس. فما بالنا والدواعي متاحة؛ حينها لا ينكص طرف له قُدرة عن النيل من الطرف الآخر، ويصير الأمر أمرَ شرف للنفس لا تنزل عنه، ومثَّل لهذا بصراع جرير والفرزدق المشهور الذي لا يُعرَّف. ثم يزيد فيسأل كيف يكون الأمر والداعي هو دين جديد؛ يقول مَن أتى به: إن آية نبوتي أن هذا الكتاب لا يأتي بمِثله أحد، وإن تظاهر عليه الجميع؟! .. وهنا يصل الجرجاني إلى حتمية المجاراة، وبناءً على أن العرب لمْ يجاروا القرآن؛ فقد عجزوا عن مباراته ومجاراته، وأعلنوا إفلاسهم.
- استدلاله بقياس الأَوْلَى
ثم يستدل الجرجاني بقياس الأولى من أن العرب اضطهدوا النبي، وعذبوه، وساموا أصحابه مرار الحياة، ثم حاربوا النبي في المعارك الكثيرة المتتالية؛ يقصدون بذلك إلى دحره. وهذا جهد عظيم منهم، يستنزف قواهم. وكان الأَوْلَى أنْ يُبطلوا حُجَّة هذا المُدِّعي النبوَّة -في زعمهم-؛ بأنْ يجاروا قرآنه هذا الذي يدِّعي أنه آية نبوته، وآية صدق إرساله من الله. يقصد أن هذه الحرب الشعواء التي أقاموها دليل صدق على عجزهم عن الإتيان بما هو أهون وأيسر؛ وهو أن يجاروا القرآن ويباروه. وبهذا تنتهي آية المُدِّعي، ويُكفون مُرَّ محاربته. ولأن هذا لم يحدث؛ ثبت أنهم عجزوا عن التحدي.
- استدلاله بالأخبار الصحيحة (الدليل النقلي – دلالة الأقوال كما سمَّاها)
وهنا استدل الجرجاني بأقوال وحوادث دارت بين العرب؛ منها محاولة الوليد بن المُغيرة مع وجهاء قريش أن ينسبوا عمل النبي إلى السحر تارةً، وإلى الجنون تارةً، وإلى الشِّعر أخرى. ومنها عرض عُتبة بن ربيعة الأموال والرياسة وسائر الطيبات على النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يترك أمر هذا الدين. ومنها حديث إسلام أبي ذر الغفاري، وأخيه أنيس الشاعر الذي يعرف أن ما جاء به النبي ليس شعرًا. ومنها شهادة الوليد بن المغيرة في حق القرآن: “والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة…”[25]. ثم يردُّ اعتراض أي معترض أن بعض هذه الأقوال ممَّنْ أسلم بعد ذلك؛ فكأنها شهادة للنفس. بأنها أقوال إخبار من ذوي الخبرة والقُدرة والبصر على أمرٍ شهده واعترف به شاء أم أبى.
- استدلاله بالقسمة العقلية
وهنا استخدم الجرجاني القسمة العقلية من طريق السبر والتقسيم. فقال يحلِّل موقف العرب حيال القرآن: إما أن العرب عرفوا مزية القرآن على الصحة، وإما على وجه الفساد والتوهُّم. يقصد أنهم توهموا فيه العظمة والمتانة على غير الواقع. ثم أبطل الفرض الآخر؛ لأنه بعيد أن يتوهم الواحد منهم في أمر البلاغة وفن القول؛ فما بالنا بهم جميعًا وقد أطبقوا على ذلك! مع توفر أقصى الدواعي للانتباه والتجهُّز في تحليل هذا القرآن للقدح فيه. ثم نفى عنهم الوهم في فن القول بالاستدلال بالواقع، من خلال التمثيل في حادثة وقعت بين الفرزدق وذي الرُّمَّة، وأن العرب يعرفون البيت الواحد إذا دخل قصيدة الآخر. وهكذا كان العرب، لا يعزب عنهم شيء في أمر الشعر، حفظتها لنا مدونات الأدب. ثم لما أبطل الجرجاني الفرض الآخر، لم يبقَ إلا الفرض الأول؛ وهو أن العرب عرفوا القرآن على حقيقته، وتصوروه أكمل التصور، ثم لم يجاروه. وبهذا ثبت الإعجاز عليهم دون مُدافعة.
هنا يصل الجرجاني إلى إثبات نتيجته الأولى في القسم الأول. لكنه لا ينهي النقاش عند هذا المستوى الداحض للحجج، بل يلتفت إلى أقوال أشبه بالسفسطة والتشغيب، ليدحضها.
- التشغيب الأول: شعراء الجاهلية الأقدمون خير من عرب النبي
العرب وقَّروا شعراء الجاهلية، وقدموهم على أنفسهم؛ فبأي شيء نعلم أنهم كانوا قادرين على التحدي إنْ كانوا حالِّين محلهم؟ ردَّ عليهم الجرجاني بجوابين: الأول أن عرب النبي كانوا أهل معرفة وبصر بفضل الشعر والنَّظم، حافظين أشعار الأقدمين وخُطبَهم؛ وهم بذلك أهل للذوق والنقد والميزان. والجواب الآخر أنهم لم يعترضوا على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الاعتراض، بل لم يفعلوا ذلك حتى على سبيل الدفع والتشغيب؛ فعُلِم عدم الدعوى.
- التشغيب الثاني: أن هناك مَن أعجز الناس كامرئ القيس
وأضاف المُرجِفون تشغيبًا آخر، قال فيه الجرجاني إنهم “يُومِئون به، ويَهمسون به، ويستهوون الغِرَّ الغبيَّ بذِكره”[26]. مفاده أن لكل عصر نبيهًا يفوت أهل هذا العصر، ويسبقهم؛ وفي هذا إعجاز. ومثَّلوا بامرئ القيس، ويبدو أن النقاش حول امرئ القيس كان موفورًا؛ حيث نجد الإمام الباقلاني قبل الجرجاني يعقد له الصفحات الطويلة في كتابه “إعجاز القرآن”[27]. وبالاطلاع على الكتاب الأخير نجد الباقلاني يداول الأمر مع بعض أكابر الشعراء، مثل البحتري[28]. ويقول في ذلك: “معظم براعة كلام العرب في الشعر”[29]؛ فيُسبِّب هذه المُماحكات في القرآن بأن الشعر أعلى ما عند العرب، فيقارنونه بالقرآن الثابت التقدُّم والسبق. وقد كان غرض الباقلاني القدح في أشعار امرئ القيس وتقبيحها، وقد نهج لذلك نهج معالجة داخلية موسَّعة. أما الجرجاني فقد خالف الباقلاني؛ فذهب إلى نقد الفكرة بقرينة خارجية دون التعاطي مع النقاش نفسه.
وقد ردَّ الجرجاني على هذا التشغيب بأن التفاوت المطلوب يجب أن يصل إلى حد الإعجاز، لا محض التفاضل. وأن التفاضل موجود دومًا بين أهل الشعر، ولا أحد حاز الأوليَّة المُطلقة. ثم استدلَّ ببعض أخبار تؤكد عدم احتلال امرئ القيس الأولية المطلقة؛ مثل خبر مُقاولته مع الشاعر علقمة الفحل[30]، الذي فضَّلتْ فيه امرأة امرئ القيس علقمةَ على زوجها، وخبره مع الحارث اليَشْكُريّ، وهروب امرئ القيس بعدها من مُماتنته. واستدلَّ كذا الجرجاني بأن أهل النقد الأدبي عندما طبَّقُوا الشعراء (يقصد جعلوهم طبقات) جمعوا امرأ القيس مع زهير والنابغة والأعشى[31].
وبهذا تأكد سقوط التشغيب المتعلق بامرئ القيس. ولعل العجب يراود المطلع على هذه المعركة؛ فأية مُشابهة تلك بين “القرآن العظيم” وبين شعر أي شاعر. صحيح أنْ قيْل عن امرئ القيس أنه “سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتَّبعته فيها الشعراء”[32]؛ صحيح هذا، لكنْ أنَّى هذا النظم الشِّعريّ من القرآن بأي حال!
- التشغيب الثالث: التفاضُل في المعاني
وعرض الجرجاني لتشغيب ثالث، مفاده أن الشعراء يتفاضلون في المعاني؛ فيكون شاعرٌ أشعرَ في المديح عنه في الهجاء، وآخر أشعر في الغزل عنه في الحِكمة. فلعلَّ العجز الذي ظهر عند العرب ليس عن النظم، بل عن هذه المعاني نفسها التي أتى بها القرآن. فإن الشاعر يسبق إلى المعنى الفريد فيسدّ الآخرين عن ولوج هذا الباب. ونقض قولهم من خلال آية (قُلْ فأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)[33]. فالآية تطلق المعاني، أو كما قال الجرجاني “أيْ مِثله في النَّظم، وليكُن المعنى مفترًى كما قلتم”[34].
وهنا يستخدم الجرجاني التسليم للخصم؛ بأنْ سلَّم لهم في دعواهم، ثم سأل: هل القرآن صنف واحد من المعاني؟ ولا بد أن نصل إلى أنه صنوف لا حصر لها؛ إذن لِمَ لمْ يخترْ كلُّ صاحب امتياز في صنفه مجاراةَ القرآن فيه؟.. وبهذا سقط التشغيب.
القسم الآخر: إبطال القول بالصَّرفة
يبدأ الجرجاني بإيضاح فهمه لمعنى الصرفة -لأنها على معانٍ عدة من جهات الصرف كما سبق-. ونخلص من تصوُّره إلى أن الصرفة -في أقوم فهم- تقتضي أن التحدي واقع على المعاني نفسِها التي أتى بها القرآن، وعلى النظم نفسه. وأن تصوُّر غير ذلك -سيأتي على معالجته فيما بعد- يوقع في معانٍ لا تليق. وأن جهة الصرف كانت تراجُعَ حالِ العرب في البلاغة، والبيان، وجودة النظم، والتأليف. وأن معجزة القرآن -على هذا الوجه- كانت في المنع من نظمٍ ولفظٍ قد كانا مُمكنَيْنِ قبل التحدي، فإن كلام العرب قبل التحدي كان في مِثل نظم القرآن، وفي مبلغه من الفصاحة. هذا هو زبدة فهم الجرجاني للصرفة عند القائلين بها.
- استخدامه لمنهج الإلزام عند المُتكلمين
وقد استخدم الجرجاني في الرد على الصرفة بإيراد ما يلزم عنها؛ فإذا استبان أنَّ ما لزم عنها فاسد كلُّه، لزم فسادُ الأصل. فقال يلزم عن قولكم بالصرفة:
1- نقصان العرب في الذهن عمَّا كانوا.
2- أن تكون أشعار شعراء النبي في مدحه وفي الرد على المُشركين ناقصةً مُتقاصرةً عن أشعارهم هُم أنفسهم في جاهليتهم (الكثير من الشعراء عاشوا في الجاهلية، فأتى الإسلام عليهم، وهذه الطبقة سمَّاهم أهل النقد بالمُخَضْرَمِين. يقول ابن سلام الجُمحي: “والمُخضرمين الذين كانوا في الجاهلية وأدركوا الإسلام”[35]). وبهذا يتبدل حال الشخص نفسه بحدوث حدث؛ هو نزول القرآن.
3- الشكّ في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-: “قُل ورُوح القُدُس معك”[36].
4- دخول النقص على النبي -صلى الله عليه وسلم- في فصاحته، ومنعُ النبوُّةِ له بعضَ بيانه؛ لئلا ينقل القرآنَ وهو قادر على مِثله.
5- إنْ لم يعلمْ العرب انحطاط حالهم في البلاغة؛ فلنْ يعلموا مزية القرآن وتفوُّقه من الأساس، وبهذا ينهار كل شيء. كما لن تُروى لهم اعترافات بتميز القرآن، ولن يحسوا بالعجز عنه. وبذلك لن تقوم عليهم حجة التحدي.
6- ولو علموا بعجزهم الحالي (وهو الوجه الآخر لكيفية الصرفة)؛ لكانوا قارعوا النبيّ بأن لدينا في تراثنا ما يدحض ما جئتنا به، ولَمَا كانوا اتهموه بالجنون وسائر ما لجأوا إليه. كما لو علموا عجزهم المُدَّعى هذا؛ لنُقِلَ عنهم شكواهم منها، لكنْ لمْ يُروَ شيء من هذا.
7- لزم من قولهم: أن تكون آيات التحدي في القرآن غير صحيحة؛ فلا يمكن لأحد يعلم أن ما جاء به كان مُستطاعًا مقدورًا عليه أن يقول: “إني جئتكم بما لا تقدرون على مِثله، ولو احتشدتم له ودعوتم الإنس والجن إلى نُصرتكم فيه”. بل ساعتَها يكون التحدي “إنَّ الآية أنْ تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه”.
8- يلزم من قولهم أنْ ينصبَّ تعجُّب العرب وانبهارهم بالمنع من المعارضة، لا الانبهار بالممنوع؛ وهو القرآن. والفرض الأخير هو الحادث، لا الأول.
9- لزم من قولهم المُستجدّ بالصرفة أنْ قد عرفوا ما لم يعرفه أحد من الأمة من قبل، وأحاطوا بما لم يحط به أحد؛ فلمَّا لمْ يكن، عُلم عدم الدعوى.
10- لو كانت معجزة النبي والدين هي “المنع” مبدأً؛ للَزِمَ أنْ يكون المنع من شيء سهل يسير، يقدر عليه الجميع؛ حتى تُقام على الجميع الحجة، ويتم الإعجاز ويعرفه الناس. لا في خفيّ الأمر ودقيقه كنظم القرآن؛ الذي لا يعرف دقائقه إلا الأقلون. فلزم أن القرآن نفسه هو المُعجز، لا المنع من القرآن والصرف عنه.
هذه هي مقدار الإلزامات التي ألزمها الجرجاني للقائلين بالصرفة؛ ليُبطل قولهم وحجتهم. وقد حوَّلتُ بعض الاستدلالات التي لم تأتِ ظاهرةً على هيئة الإلزام إليه اتساقًا مع المنهج الكُلِّي، ولمًّا لشعث الاستدراكات والتشعيبات التي قد يتيه فيها القارئ.
- استخدامه التفسير النفسي لظاهرة الصرفة
وهنا نقطة من أشد النقاط براعةً عند الجرجاني؛ فقد حاول اكتناه ظاهرة كالصرفة، وتحليل دوافع القائلين بها من أفراد المعتزلة تحليلًا نفسيًّا. وركَّز في هذا على إرادة النفس الإنسانية ورغبتها في الامتياز بقول دون الناس، وأن يكونوا متبوعين من غيرهم في رأي، لا تابعين هُم لغيرهم. وكذا سلوك المُكابرة عند بعض أهل العلم؛ فتأتيهم بالحق، ثم يعدلون عنه كِبرًا من أن ينصاعوا لغيرهم. ثم تكون المُكابرة في العلوم المنضبطة المعروفة القواعد والقسمات، المُتفَق عليها من الكثرة الكثيرة؛ فما الحال مع علم خفي كالبلاغة والفصاحة، وهي تحتاج فوق التجهُّز العلمي الحسَّ العالي والذوق!
الخاتمة
وبعد، فهذه الرسالة الشافية ونُهُوجها المنطقية والفكرية، وسُبُلها الإقناعية؛ تُقدِّمُ صورة مشرقة عن جهود مُفكِّري الإسلام في التعامُل مع مشكلاتهم الفكرية الواقعية، وجهودهم في الصدِّ والذبِّ عن الإسلام وكتابه. وتقدم نموذجًا للأجيال الحالية في السمت العلمي المنضبط، والإحاطة بالمادة، وحسن إدارة الخطاب مع الآخرين؛ وصولًا إلى المُبتغى.
الهوامش:
- قد أقمت تجربة لهذا المنهج سابقًا في كتاب من أشد كتب المسلمين انتشارًا، وأكثرها ظنًّا أنه كتاب رقائق وأخلاق؛ “رياض الصالحين” للإمام النووي -رحمه الله-. وطبقت هذا المنهج في إبراز منطقية البناء، تدعيمًا للخطاب الأخلاقي المستهدف على الكتاب المذكور في عشرين ونيِّف من المقالات، قد أضمها في كتاب بإذن الله.
- البقرة، 23.
- يونس، 38.
- الطور، 34.
- الإسراء، 88.
- مداخل إعجاز القرآن، محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، صـ10.
- دلائل الإعجاز، طبعة الخانجي، مقدمة الأستاذ محمود شاكر، الصفحة و.
- إعجاز القرآن، الباقلاني، تحقيق/ السيد أحمد صقر، صـ7، دار المعارف، طـ9.
- الرسالة، الإمام الشافعي. والكلام لمحقق الرسالة الأستاذ أحمد محمد شاكر، صـ12، في الهامش.
- راجع ترجمته باسمه، ولا يشير الذهبي إلى كتابه الشهير “أسرار البلاغة”، ولا “دلائل الإعجاز”، ولا الرسالة الشافية.
- الكتاب من سلسلة “أعلام العرب”، التي أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وطبعته مكتبة مصر. صـ24، وما بعدها. وأول الكتاب فصل طويل معقود عن حياة عبد القاهر، وفصول بعده عن إنتاجه وشعره. وكاتب الكتاب كان وكيلًا لكلية دار العلوم. وهناك أيضًا كتاب “عبد القاهر الجرجاني، بلاغته ونقده” د/ أحمد مطلوب، و”عبد القاهر الجرجاني في النقد العربي الحديث” محمد عبد الرازق عبد الغفار، وغيرها الكثير من الكتابات والدراسات التي صدرت عنه في العقود الماضية حتى اللحظة.
- أسرار البلاغة في علم البيان، عبد القاهر الجرجاني، ضبط وتصحيح/ محمد رشيد رضا، المقدمة.
- علم المعاني، د/ عبد العزيز عتيق، دار الآفاق العربية، طـ1 2006، صـ17.
- منها الدراسات السابقة عن عبد القاهر، و”نظرية عبد القاهر في النظم” د/ درويش الجندي، ودلائل الإعجاز للجرجاني صـ55، وصـ391، صـ410. طبعة دار المدني جدة، تحقيق/ محمود محمد شاكر. و”مدخل إلى البلاغة العربية” د/ أحمد سعد محمد، صـ66 وما بعدها. والأخير من الكلام المُيسَّر المُعدّ للطلاب والعوام في فهم النظرية.
- دلائل الإعجاز، دار المدني بجدة، وهي مصورة من طبعة الخانجي، إلا أنها أسقطت مقدمة الأستاذ شاكر؛ فاضطررتُ إلى قراءتها من نسخة الخانجي. وطبعة المدني ما اعتمدتها في القراءة. صـ573.
- دلائل الإعجاز، طبعة الخانجي، مقدمة شاكر الصفحة هـ.
- الدلائل، صـ626.
- إبراهيم بن سيار النظام، وآراؤه الكلامية الفلسفية، د/ محمد عبد الهادي أبو ريدة، الهيئة العامة للكتاب 2010م، صـ34.
- مقالات الإسلاميين، أبو الحسن الأشعري، تحقيق/ محمد محيي الدين عبد الحميد، ج1، صـ271، مكتبة النهضة المصرية، ط1950م.
- الدلائل، صـ575.
- انظر مثلًا آخر فقرة في الرسالة؛ حيث أعمل الازدواجَ في الجمل، وأقام سجعًا. وكذا فعل في مواضع الاعتبار قبلها. ولعلَّ هذا واقعًا ضمن نظريته في كتابه “أسرار البلاغة”؛ والتي ترتكز على العلاقة النفسية بين مستويات الكلام والسامعين.
- الدلائل، صـ600.
- انظر مثالًا إطلاقهم الوصف على النظَّام، كتاب نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، د/ علي سامي النشار، ج1، صـ487، تحت عنوان “اتهام النظام في دينه”، طبعة دار المعارف.
- خالد بن صفوان بن عبد الله بن الأهتم (ت 135هـ)، من خطباء العرب المشاهير. وقد ذكره الجاحظ مرَّاتٍ في سفره “البيان والتبيين”، انظر مثالًا ج1، صـ24، بتحقيق/ عبد السلام هارون.
- الدلائل، صـ585.
- السابق، صـ590.
- انظر مثالًا صـ158، من الطبعة السيد أحمد صقر.
- السابق، صـ219.
- السابق، صـ155.
- الدلائل، صـ591، 592.
- انظر طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجُمحي، تحقيق محمود شاكر، ج1، صـ51 وما بعدها؛ حيث ذكر الطبقة الأولى. بل إن ابن سلام ذكر في أول الطبقة الثانية أن “أوس بن حجر” حقه ومكانه الطبقة الأولى، لولا أنه أقر أربعة شعراء فقط في كل طبقة. انظر صـ97.
- السابق، صـ55.
- سورة هود، آية 13.
- الدلائل، صـ606.
- طبقات فحول الشعراء، ج1، صـ24.
- الحديث في صحيحَيْ البخاري (4123) ومُسلم (2486) بألفاظ مشابهة.
ما شاء الله تبارك الله .. بارك الله فيكم .
نشكركم على هذه الجهود العظيمة في انتظار المزيد
ما شاء الله جهد مبارك
بارك الله فيكم
موقع محترم وموضوعات هادفة