تقارير:
1- السيرة العطرة – حياةٌ كاملة لكنها ملفوفة بثياب الموتى! وحقائق حضارية لكنها ملفوفة بثياب الأساطير! الشيخ المفكر الفقيه محمد الغزالي رحمه الله.
2- {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5]، إذًا… الهجرة النبوية تكوينُ هوية أمة الإسلام، انطلاقًا من القول الثقيل، إلى بناء إنسانٍ من العيار الثقيل، وصولًا إلى صناعة أمة من العيار الثقيل. عبد العزيز العسالي.
3- كافحت أوروبا ما يزيد على ثلاثمائة سنة، ثم خرجت بإعلان حقوق الإنسان الذي رافق قيام الثورة الفرنسية، وقيل عنه يومها إنه ميثاق رسالة عالمية! لكنه جاء ناقصًا من مبدأين اثنين، هما: الحرية، وحقوق المرأة!!وبعد ثلاث سنوات، خرجت المرأة تدعو إلى حقوق المرأة؛ فلاقت الدعوة استجابة… ولكن في عام 1978م – بعد مرور 187 عامًا تقريبًا – سُمح للمرأة أن تكون ناخبة!
4- الرسول ﷺ، خلال 23 عامًا، صنع أمة نموذجية، فيها 8 آلاف صحابي، بينهم 1000 امرأة! وهذا الرقم هو المقصود بالقول: “صناعة أمة من العيار الثقيل”. عبد العزيز العسالي.
5- الصناعة النبوية للأمة لم تقم على معجزات، وإنما وفق السنن الإلهية التي زخرت بها آيات القرآن!
تقسيم الموضوع إلى 6 محاور:
1. أولًا: ضبط المفاهيم.
2. ثانيًا: مكونات البناء الثقيل للفرد.
3. ثالثًا: معالم الصناعة الثقيلة للأمة.
4. رابعًا: معالم شبكة الشروط الحضارية – سنن إلهية!
5. خامسًا: معالم مخرجات الصناعة والتكوين الثقيل.
6. سادسًا: أبرز الدروس المستفادة.
أولًا: ضبط المفاهيم:
المقصود بالقول الثقيل هو القرآن المجيد، الهادي إلى طريق الرشاد، قال تعالى:
• {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2].
• وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
• وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}.
• وقال تعالى: {والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}.
بكلمتين: القرآن زاخر بالنصوص الدالة على القول الثقيل – عقيدة، وقيمًا، وتزكية خلقية، وتربية، وتشريعًا إنسانيًا… وحضاريًا!
فماذا عن البناء الثقيل للفرد؟
يمكننا الاكتفاء بالغاية الوظيفية التي حددها القرآن للرسول ﷺ.
قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
لقد تكررت النصوص القرآنية الدالة على وظيفة الرسول ﷺ في القرآن!
والمقصود بالتلاوة: أن يتشبع الفرد المسلم وجدانيًّا وعقليًّا ولسانًا، ليس بترديد نصوص القرآن فحسب، وإنما هي تلاوة يقوم بها الرسول ﷺ مترسِلًا، هدفُها بناءُ المفاهيم من جهة، وصياغةُ الشخصية المنشودة وفقًا لتلك المفاهيم التي تُستَفاد من تراكيب عبارات القرآن المركبة؛ ذلك أن القصص القرآني كان في العهد المكي بنسبة 98%. فإذا اقتربنا قليلًا نحو المفاهيم القرآنية الواردة في فلسفة أمثال القرآن المجيد، سنجد أنها (قارّة) بكل معنى الكلمة!
قال تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}.
وحسب د. محمد جابر فياض العلواني، الذي أخرج لنا كتابًا ضخمًا حول الأمثال في القرآن، فقد طالت مقدمة الكتاب، وانتهى إلى الاعتراف بالعجز أمام عمق فلسفة أمثال القرآن؛ ذلك أنها تكتنز قصصًا وتجارب وسننًا وأهدافًا ثقافية وتربوية، ولها عظيم الأثر في بناء شخصية الفرد والمجموع!
باختصار… وظيفة التلاوة النبوية طيلة 84 سورة في العهد المكي كانت تثبيتًا لفؤاد الرسول ﷺ: قال تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}.
نعم… كما أنها تثبيت لفؤاد الرسول، فهي ذكرى للمؤمنين كي يثبتوا على المبادئ، وقد ثبتوا رضي الله عنهم، فأول شهيدة كانت سمية، وزوجها بعد ثبات أسطوري أصاب المشركين بإحباط قاتل!
ثم ماذا عن وظيفة التزكية؟
نستطيع القول: إن التزكية امتزجت فيها بقية الوظائف: تعليم الكتاب، وتعليم الحكمة… فالتزكية هي غرس القيم الخلقية — الضمير القلبي، المستحضر لأبعاد ومقاصد التزكية، الضابط للسلوك العملي وثماره وآثاره في النفس والاجتماع… وتدخل القيم الكونية ومقاصدها وحكمتها في إطار التزكية دخولًا أوليًّا، والمتمثلة في كرامة الإنسان، وحريته، وإرادته، واختياره، ومبدأ العدل، والمساواة، والتعارف، والأخوّة، والتكافل… إلخ.
أما الهدف من الوظيفة النبوية في التعليم، فيتمثل في البناء الفكري، كالتعاطي مع السنن الكونية في النفس والاجتماع، وكيفية اجتراح وسائل بناء الفرد في كل اتجاه. وهكذا استمرت التربية النبوية للصحابة في مكة، وفق معايير البناء الثقيل، وفي نظري يتركز ثقل البناء في بلورة وترسيخ حكمة التشريع ومقاصده الكلية بوضوح تام، بما في ذلك الأهداف المرحلية ووسائلها.
ومن هنا نعرف سرّ الثبات والتضحية في العهد المكي: لأن الصحابة تجلّت أمامهم الحكمة الشاملة، بدءًا من المقاصد العليا لخلق الإنسان — عبادة، وعمارة، وكرامة، وتزكية — بفضل التربية النبوية التي تشربها الصحابة، فأصبحت ثقافةً، وسلوكًا راسخًا في النفوس، يحدوه تطلع ونزوع فكري ونفسي إلى التطبيق العملي في الظرف المواتي زمانًا ومكانًا.
الجدير ذكره: أن التاريخ لم يسجّل حالة رِدّة من مسلمي مكة، بل إن مكاسب الدعوة لم يعتَرِها أيُّ نقص!
وحسب د. طيب برغوث، فإن أصعب السنتين المكيتين على الصحابة هما السنة السادسة والسابعة من البعثة، حيث لم يُكسب إلى صف الدعوة أحد من داخل مكة، لكن حصل الكسب خارج مكة!
وفي السنة الحادية عشرة من البعثة، نزلت سورة يوسف، حيث لم تقتصر السورة على بعث الأمل وتثبيت فؤاد الرسول ﷺ والصحابة فقط، وإنما تضمنت منهجًا فكريًّا، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]. البصيرة… يكتنز فيها رؤية متّسقة متكاملة: عقديًّا، وقيميًّا، وسننيًّا، وتزكويًّا، وتربويًّا، مع أبعاد المنهج المعرفي، والتطلّع إلى إعمال وتفعيل الوسائل، والتفكير في الظروف المواتية، زمانًا ومكانًا…
وهذا موضوع المحور التالي:
ثالثًا: معالم الصناعة الثقيلة للأمة في العهد المدني:
حضور الحكمة المقاصدية في كلا العهدين؛ فإذا كان الصحابة في العهد المكي قد واجهتهم صور شتى من العنت — حقد أهل الضلال والشرك، وفوضوية الطاغوت، وغواية وعنجهية التسلّط الطاغوتي — فها هم الصحابة يلاقون ابتلاءً من نوع آخر، يتّفق والعهد المدني الجديد الذي اتسمت معالمه بروح الأمن والاستقلال النسبي.
فقد كان النفاق أسوأ صور العنت؛ الأمر الذي يحتاج إلى علمٍ وحكمةٍ جديدةٍ تُعين على الثبات والتوازن والمضيّ صوب الأهداف!!
صحيحٌ أن النفاق يمثّل أقلّيّة… لكنه كان أشبه بالفئران داخل مكوّنات جدار البناء المجتمعي، سيّما والمجتمع الإسلامي لا يزال حديثَ التجربة والتكوين.
ولا شكّ أن الانتقال بالبناء الفردي إلى مسار صناعة أمة من العيار الثقيل شاقٌّ على الذهنيّة والسلوك؛ ذلك أن الصحابة في مكة ثبتوا، وكان للبيئة دورها، ولو نسبيًّا؛ فتحمّلوا خُلق الاستكبار العشائري القائم على توازن القوى، وثقافة مجتمعٍ مشرك، وأنانيّاته المختلفة. وكذلك جغرافية المدينة؛ فقد اجتمع فيها عدد من البطون اليهوديّة المختلفة ثقافةً وأعرافًا، نلمس ذلك من تنصيص دستور المدينة على أن لكل بطن ثقافتها وعرفها، إلخ.
وفوق ذلك: النفسية اليهودية المهترئة، المحطّمة، تعاليًا وحسدًا وخساسةً وتربّصًا ونزواتٍ نفسيّةً… كلّ ذلك خلّف أحقادًا لا يخمد لهيبها، سعيًا إلى تفتيت المجتمع الإسلامي الجديد!!
نعم… قد كان كلُّ ذلك كَوْم، والنفاق كَوْم، وحداثةُ المقام، وتجربة صناعة المجتمع، كَوْم!
لولا أن الرسول ﷺ سلك طريق السنن الإلهية آنفة الذكر، فكان التأييد الإلهي في معيته!!
كما أن التربية المكية كانت قد رسّخت في أذهان الصحابة مفاهيم السنن الإلهية حتى حدّ التشبُّع، كيف لا؟ والقرآن المكي زاخر بالهداية السننية.
فهذا التشبّع بحد ذاته سنّة، كان لها أثرها في سلاسة التطبيق، سيّما ثقافة التعايش مع المخالف المتربّص، والحقود اللجوج، الحسود!!
إلى جانب ذلك، فقد كان التعاطي النبوي مع سنن الاجتماع ذا أثرٍ في انقياد النفوس والعقول، بطريقةٍ أو بأخرى.
إنها سنن القواسم المشتركة، وفي مقدّمتها:
• الإخاء،
• كرامة الإنسان،
• العدل،
• الحرية،
• المساواة،
• المواطنة — أي: حقُّ الانتماء إلى الرقعة الجغرافية بنصّ الدستور — وأفضل من ذلك: مبدأ الدفاع المشترك!!
التزام الصحابة بمبادئ القواسم المشتركة استحقّ سنن التأييد الإلهي؛ ذلك أن التزام القواسم المشتركة كان من منطلق عقديٍّ قيميٍّ خُلقيٍّ تشريعيٍّ سلوكيّ!!
باختصار…
يمكننا القول: إن التعاطي مع سنن الله في النفس والاجتماع هي السنّةُ العمليّةُ للرسول ﷺ في سيرته العطرة، تشريعًا عمليًّا تطبيقيًّا في ميدان السنن الإلهية!!
السؤال الذي يفرض نفسه بقوّة في هذا الصدد يقول: لماذا غاب هذا المنهج النبوي العملي من كتب المنهج الأصولي؟
بل أكثر من ذلك… من الذي زرع النظر الأعور القائل: إن السنّة النبوية العملية غير ملزِمة، والسنّة القولية فقط هي الملزِمة؟!
كيف غزتنا ثقافة الأحبار والرهبان؟؟
رابعًا: معالم شبكة الشروط الحضارية – مدخلات الصناعة الثقيلة: إنها سنن إلهية بامتياز!!
يتّفق علماء الاجتماع على صعوبة التغيير الثقافي العادي، ناهيك عن التغيير الهادف إلى صناعة الأمة وفق السنن الإلهية، ابتداءً من تغيير ما في الأنفس وصهرها في إطار مجتمع جديد، علمًا بأن المجتمع كان أبويًّا قبليًّا، والفرد والمجموع يعشقان الفوضى والتفلّت، ويكرهان النظام — حماية ابن القبيلة الظالم نموذجًا!
هذا المجتمع القبلي يتلقّى برنامج تغيير جذري، يريد تزكيته النفسية والعقلية، وصولًا به إلى حبّ النظام والتزامه، وكراهة التسيّب والفوضى، انطلاقًا من قناعة داخلية ذاتية، لا بقوة القانون!!
نعم… لقد حصل التغيير المنشود بواسطة عدد من الشروط السننية، كانت هي مادة الصناعة الثقيلة للأمة، فتأهّلت الأمة لحمل المشروع الحضاري…
وقد تمثّلت تلكم الشروط في المسرد التالي:
التوحيد في مواجهة الشرك.
العلم والمعرفة في مواجهة الأميّة والظنّ والهوى والجهل والخرافة.
الدولة في مواجهة القبيلة.
الأمّة في مواجهة العشيرة.
التشريع في مواجهة الآبائية والأعراف المعوجّة.
الشورى في مواجهة الفردية والإقصاء للآخر.
الإصلاح والإعمار والنظام في مواجهة التخريب والفوضى والإفساد.
الأخوّة الإنسانية في مواجهة العنصرية (والتسيّد الإبليسي)*.
المبدئية في مواجهة الشخصانية.
صناعة الأمة من خلال الفرد الملتزم بالنظام والقيم الإنسانية المنبثقة من العقيدة، والمتجذّرة في عمق العقيدة السمحاء، في مواجهة الشخص الجاهلي المتفلّت المتعشّق للفوضى والتسيّب وكراهية النظام.
إذا تأمّلنا شبكة الشروط الحضارية الآنفة، سنجد أنها قد تضمنت تطبيقًا عمليًّا لمركزية التوحيد على الوجهين: إيجابًا وسلبًا؛ فالجانب الإيجابي هو: الإقرار بإفراد الله بالعبادة من خلال النطق بكلمة التوحيد: “لا إله إلا الله”، وأما الجانب السلبي، فهو: الكفر بالطاغوت، لقوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]. ذلك أن التوحيد الإيجابي لا يتحقّق إلا بالتوحيد السلبي، وهو الكفر بالطاغوت!!
أعد النظر في المواجهة الآنفة بين المفاهيم الإيجابية للتوحيد، ويقابلها الكفر بالمفاهيم الطاغوتية، قولًا وعملًا!!
انظروا إلى القرآن كيف يهدينا للتي هي أقوم — عدم الركون إلى الظلمة نموذجًا: قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } [هود: 113].
خامسًا: نماذج لمخرجات الصناعة الثقيلة:
الوعي الراسخ بأهداف الرسالة الخاتمة؛ الأمر الذي يعطينا دلالات لا تقبل الجدل حول وضوح مقاصد التربية النبوية، المستندة إلى مقاصد وكليّات القرآن، كما تعطينا دلالة قاطعة على مكانة التوظيف النبوي للقول الثقيل — المتمثل في السنن الإلهية — والتي صنعت أمة من العيار الثقيل!!
كما تُعطينا دلالة في غاية الأهمية، وهي أن مقاصد الرسول ﷺ تجاوزت مفهوم بناء كائنات دينية، إلى مفهوم آخر، هو تحقيق قول الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ } [الأحزاب: 23].
نعم، قلنا في التقارير أعلاه: لقد التفّ حول الرسول ﷺ ثمانية آلاف صحابي، منهم ألف امرأة، إحداهن حكمت السوق في خلافة عمر، وأخرى اعترضت على مشروع قانون أراد الفاروق رضي الله عنه إصداره بشأن غلاء المهور؛ فاعترضت عليه امرأة بحسب فهمها لدلالة القنطار في القرآن: {وآتيتم إحداهن قنطارًا…}، فسحب الفاروق مشروعه، ولم يقل لها: من أين أتيت بفهمك لدلالة القنطار؟
وثالثة تستنبط حكمًا شرعيًّا بشأن المدة التي يمكن للمرأة أن تتحمل فيها فراق الزوج، وذلك من مفهوم آية الإيلاء:{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [البقرة: 226].
وقدّمت استنباطها مصحوبًا بعبارة لاذعة للفاروق: “كنتَ عميرًا، فجاء الإسلام فسمّاك عمر، وأصبحت خليفة، ولكنك لم تفقه تكييف قضية تحمّل المرأة”! فقال لها: “علّميني، لعلك أفقه مني”!، فتلت عليه آية الإيلاء.
الجدير ذكره أن الفاروق لم يُشاور الرجال!
هذا الموقف وحده يحمل تراكمًا دلاليًّا… وأيّ تراكم؟!
ننتقل إلى برهان: إنفاذ جيش أسامة.
هذا الموقف له دلالات سننيّة جسّدها أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، من خلال فهمه العملاق للأبعاد النبوية ومقاصد النبي ﷺ من تجهيز جيش أسامة؛ فقد ردّ الصديق على طلب البعض الإبقاء على الجيش قائلًا: “لن أفك لواء عقده رسول الله ﷺ”.
ثم استأذن أسامة أن يسمح له ببقاء عمر بجواره، فالمهمة جديدة وشاقة، ولا تفكير في الاستبداد!
وفي اليوم التالي، خرج الصديق يحمل غرارة البضاعة فارغة، متجهًا إلى السوق، فالتقاه الفاروق، سائلاً: “إلى أين؟” قال: “إلى السوق! أأترك أهلي وأولادي جياعًا؟”! فقال له عمر: “ارجع إلى المسجد، لنشاور مجلس الشورى بشأن تحديد جراية – راتب شهري – يكفيك وأولادك”.
تأملوا تراكم الدلالات في هذا الموقف الآنف؟
أليست هي دلالات على الصناعة الثقيلة المتجسدة في هذا السلوك القيادي؟
نأتي إلى موقف الفاروق في مؤتمر الجابية بالشام، عقب معركتي اليرموك والقادسية.
ها هو الفاروق يحضر إلى ضاحية الشام، ويجمع قادة الجيش، قائلًا: “إلى هنا وكفى؟”
يا إلهي… عمر يمنع الفتوحات؟
الجواب: نعم… نعم.
ولكن، تعالوا إلى المقصد الفاروقي العظيم: إنه يريد إنزال الصناعة الثقيلة للمجتمعات المفتوحة!!
سبحانك يا خالق هذا الإنسان… يريد التوقّف سنوات فقط، وهدفه رسالي واضح. لم يتعسف في القرار، بل قدّم مبرّرات دالة بوضوح على أهمية الصناعة الثقيلة للأمة، فوافقه الجميع. فقط، استأذنه عمرو بن العاص بفتح مصر، مبررًا طلبه بخريطة للشام يشقها سهمٌ تجاه مصر، قائلًا: “لا استقرار للشام بدون فتح مصر!” فأقرّه الخليفة، مؤكّدًا أن لا يُقدِم على أي عمل عسكري بعد ذلك إلا بعد انتهاء المدة المتفق عليها.
بعد ذلك، أصدر الفاروق قرارًا سننيًّا فريدًا: قرارًا اجتماعيًّا – سياسيًّا – ثقافيًّا كفيلًا بالصناعة الثقيلة للأمة، تمثل في تسليم أرض العراق إلى الأنباط — الفلاحين الذين يعملون في زراعة الأرض — بمقابل ما يشبع بطن الفلاح، وتذهب بقية الغلال إلى الإقطاع الفارسي!
اعترض قادة الفتح على الخليفة، قائلين: إن القرار مخالف للفعل النبوي، وفعل الصدّيق، بل وفعل الفاروق نفسه في السنوات الأولى من خلافته. فهل استبدّ الفاروق بالقرار؟ لاااا… أبدًا!!
بل جمع كبار فقهاء الصحابة، واستمر الحوار 65 يومًا، وتوصّل الجميع إلى المقاصد الجبّارة للقرار الفاروقي العظيم، والمتمثلة في: مقاصد القرآن في المال: التفتيت، {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].
تحقيق مقصد رسالي – إسلامي – إنساني – اجتماعي أعظم: نسف الطبقية السلالية والإقطاعية، قائلًا لقادة الفتح بلسان الحال والمقال: “ما الفرق بين إزالة إقطاعي فارسي، وإحلال إقطاعي عربي؟!”
إرساء أعمدة الصناعة الثقيلة للأمة، وفي مقدمتها: الحرية للأنباط، قائلًا لهم: “إسلامكم، وعدمه، لن يؤثر على امتلاككم للأرض، وإنما يُطلب منكم تقديم نسبة محددة من غلال الأرض.”
أبرز آثار القرار:
تجذّرت هوية الانتماء لدى الأنباط للدولة الإسلامية! كيف لا، وقد أصبحوا أحرارًا، لا يخافون من طبقات الإقطاع الفارسي؟ وبمرور الأيام، أصبح الأنباط تجّارًا، وقادة جيش، ووزراء، وجلساء في بلاط الخلفاء!
ومن تداعيات القرار: أن فلاحين من بقية الأقاليم انضموا إلى جيش المسلمين لمحاربة الإقطاعيين، رغبةً في الحرية، وانعتاقًا من أسر ظلم الإقطاع، فتهاوت الإمبراطورية في زمن قياسي!!
أرأيتم قرارات رجال الصناعة الثقيلة، الذين ترسّخت فيهم مقاصد الرسالة الخاتمة؟
ما يثير القرف: أننا نسمع بَغامًا لسيد القطعان المليشياوية السلالية العنصرية، يقول — بكل وقاحة، وصفاقة، وزور، وبهتان على الله والرسول ﷺ – إن انتسابه إلى المجوسية الفارسية والتسيّد الإبليسي جاء به القرآن والرسول ﷺ، وأن القرآن منحه خُمس خزينة الدولة!!
وها هي كائنات دينية تُنسب إلى السُّنة، تبقْبِق حتى اللحظة، قائلة ببقاء الرق والعبودية إلى يوم القيامة!
وأن خرافة الخمس منحة سماوية للسلالة، والمطلوب من السيئ ترك سبّ الصحابة، والخُمس جاهز!
إعلان الفاروق هوية الأمة الإسلامية دلالة لافتة على الصناعة الثقيلة. الجدير ذكره: أن الصحابة ناقشوا عدّة مناسبات، لكن الفاروق اختار حدث الهجرة، وكيف لا؟ وهي صانعة الأمة!!
نأتي إلى نموذج أمني: إنه الصحابي صاحب العقلية الأمنية الفذّة، أمين السر النبوي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
عاد مسرعًا من فارس بعد أن وجد الفُرس قد تشعّبوا في اختراع بلبلة قرآنية — قراءات لا أصل لها — وأصبحوا يجادلون حدّ الشغب بكذبهم وبهتانهم، بعد عجزهم عن المواجهة العسكرية.
فحضر حذيفة إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه، قائلًا: “أدرك الأمة! لقد اختلفت في كتاب ربّها، فأدركها قبل أن تصل إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل في توراتهم!” فكان القرار الثقيل الحاسم: تحديد قراءة واحدة، لا تختلف مع رسم المصحف، وتم طباعة ثمانية مصاحف أُرسلت إلى الأقاليم.
فهل القول إننا أمام صناعة ثقيلة فيه مبالغة؟!!
نستكمل بنموذجين: ذكر الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال: أن رواة الحديث من النساء بلغن 3200 فقيهة – محدّثة، ولم يُسجَّل على واحدة منهن خطأ أو ضعف، أما الكذب فـ”مستحيل”!
أيضًا، د. أكرم إبرهيم الندوي، أستاذ الحديث بجامعات بريطانيا، خرج إلينا أواخر عام 2015 بـ43 مجلدًا تضمنت تراجم لـ10 آلاف امرأة متخصصة في الحديث خلال 1300 عام!
الجدير ذكره: أن د. أكرم فاجأنا بترجمة الفقيهة المحدثة فاطمة البغدادية، التي عاصرت ابن تيمية، وحضرت إلى دمشق، وبغزارة علمها كانت تُسكت الفقهاء. وكان ابن تيمية رحمه الله يجلس القرفصاء إذا سمعها قادمة، ويستمر في جلسته حتى تنتهي من درسها!
والأكثر غرابة: أن فاطمة البغدادية كانت تخطب الجمعة في جامع دمشق بحضرة علماء المذاهب!!
باختصار: نماذج الصناعة الثقيلة كثيرة… ويكفي أن الأمة عبر التاريخ ظلّت تستحضر تلك الصناعة الثقيلة، لأنها تستهوي الأفئدة في التأسي، والإنتاج الحضاري الفذّ، طيلة عشرة قرون، بشهادة خصوم الإسلام!!
سادسًا: الدروس المستفادة
الرسول ﷺ لم تقم دعوته، ولم ينجح في بناء الأمة عن طريق المعجزات، وإنما تعاطى ﷺ مع السنن الإلهية، مجسّدًا لمقاصد القرآن: عقيدة، وتشريعًا، وسننًا، وقيمًا. وهذه نماذج لغايات القرآن ومقاصده:
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة: 219]
{ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21]
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 26]
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]
{ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ } [الحشر: 2].
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256].
لماذا قُدّم الكفر بالطاغوت؟
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
غير خافٍ أن السنن الإلهية حاضرة في القرآن، وفي مقاصد تصرّفات الرسول ﷺ؛ الأمر الذي يستدعي تحريك العقلانية المؤمنة، لاسترداد الفاروق وأمثاله، ولكن من أفق ثقافة العصر: فاعلية السنن الإلهية!!
الاحتفال بحادثة الهجرة، في حقيقته، هو احتفال بصانع الهجرة، وبصانع الأمة، ومؤسس الدولة الإسلامية القائمة على القيم الكونية؛ الحرية والمساواة في طليعة تلكم القيم، فلا سُلالية عنصرية، ولا طبقية، ولا جهوية… إلخ.
نؤكّد بأن تفعيل السنن الإلهية كفيلٌ بإخراج “المثقف الاستثنائي”؛ الحامل للرؤية الكونية الشاملة للحياة والنفس والاجتماع، والقادر على بناء المجتمع الواعي بقيم القرآن، والمقتدي بالسيرة العطرة – السنة العملية، بل، والقادر على شخصية التجديد الفكري والفقهي، وصناعة الثقافة الحيّة.
نكتفي بهذا القدر… على أمل اللقاء في الحلقة الرابعة: “قراءة في كتاب الإمامة وخطرها على اليمن” لأبي الأحرار الزبيري رحمه الله.
ما بين القوسين: إضافة من كاتب هذا المنشور.