من المسائل المثارة في تاريخ المذاهب الإسلامية، وفي تاريخ هادوية اليمن تحديدا: حقيقة علاقة الهادوية بالإمام زيد والمذهبين الفقهي والعقائدي المنسوبين إليه؛ سواء وفق تحديد من يقول إن زيدا كان معتزليا أو من يقول إنه كان سنيا على عقيدة السلف.. فضلا عما يفهمه العامة من الهادوية في اليمن أنه صاحب مذهب خاص به هو السائد بينهم، ويتعبدون الله وفقه بوصفهم: زيودا أو زيدية أتباعا للإمام زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. ومن نافلة القول إن عامة الزيدية لا يعلمون شيئا عن المعتزلة، ولا يعلمون إلا أنهم زيدية يتبعون مذهب أهل البيت كما يقال لهم!
وفي تاريخ المذهب الهادوي – بل عند كل مؤرخي مذاهب الشيعة التي تزعم اتباعها لأهل البيت- توجد أطروحات متناقضة حول تحديد حقيقة هذه العلاقة على النحو التالي:
1-ما هو شائع في كتب تاريخ الفرق الإسلامية أن (الزيدية) هم معتزلة في الأصول (المذهب العقائدي) وأحنافا في الفروع (المذهب الفقهي)، وحتى مؤرخو الشيعة الاثني عشرية يعتمدون هذا التقرير؛ وأن زيدا تأثر بمنظر المعتزلة واصل بن عطاء عندما التقاه في المدينة وأثناء زياراته المتعددة لمواطن المعتزلة في العراق.
2- إن زيدا – ومن اتبعه من الزيدية في بداية ظهورها وعصر نشأتها- لم يكن معتزليا بل كان سنيا على مذهب السلف وقدماء آل البيت، ومن ثم فلا علاقة بين الطرفين في العقيدة خاصة، وأن فرقا من فرق الزيدية المتأخرة هم الذين اعتنقوا مباديء الاعتزال بعد وفاة زيد بزمن طويل بدءا من القاسم الرسي. وهذا الرأي مشهور عند أهل السنة.
3- وفي المقابل هناك فقهاء الهادوية الذين يصرون على القول إن عقيدة الهادوية الاعتزالية – التي يسمونها العدلية أو العدل والتوحيد- هي أصلا عقيدة الإمام زيد وأئمة آل البيت قبله، ويجادلون على أن آراءهم العقائدية تعود في جذورها إلى رموز آل البيت الأوائل من لدن الإمام علي بن أبي طالب وأبنائه، وأنهم هم الأصل والمعتزلة إنما تأثروا وتعلموا مبادئ الاعتزال (أو مبادئ العدل والتوحيد) من رجال آل البيت؛ رافضين في الإطار نفسه التقرير الشائع أن الإمام زيد بن علي تتلمذ على يد مؤسس المذهب الاعتزالي (واصل بن عطاء) حينما التقاه في العراق.
وكما هو ملاحظ فربما تكون هذه المسألة هي أكثر مسائل العلاقة بين هادوية اليمن والإمام زيد صعوبة على الهادوية أن يقروا باختلافهم فيها عن الإمام زيد.. فكما هو معلوم فيمكن لهم الإقرار (في كتبهم فقط) باختلافهم مع زيد فقهيا بدعوى الاجتهاد، أو أن انتسابهم إليه مجرد انتماء رمزي شرفي.. لكن في مسألة الانتماء للمذهب العقائدي فهم يعضون على هذا القول بالنواجذ، ويصرون على أن أصولهم العقائدية في العدل والتوحيد، والوعد الوعيد، والإمامة، والخروج على الظالم مصدرها الإمام زيد وقدماء آل البيت والعترة النبوية! ولذا تحتاج هذه المسألة إلى العودة إلى تفاصيل عقيدة الإمام زيد بن علي وأوائل أئمة أهل البيت للفصل في ذلك القول وتلك الادعاءات!
ويلاحظ المتأمل أولا من خلال القراءة في مؤلفات هادوية اليمن القديمة وكتاباتهم الحديثة؛ أن هناك حالة نفسية وحمية قوية عندهم تجعلهم يرفضون قبول فكرة أن يكونوا في مقام التابع أو حتى الند في العلاقة بين مذهبهم والمذاهب الأخرى كوصفهم الشائع بأنه: أحناف في الفروع ومعتزلة في الأصول؛ رغم أن المذهب الهادوي تاريخيا ظهر بعد كل المذاهب المشهورة وغير المشهورة. والهادي نفسه كتب أبرز مؤلفاته في الفترة الأخيرة من حياته وحياة دولته عندما اشتد عليه الحصار داخل صعدة وما جاورها، وخسر معظم الأراضي التي كان يحكمها(1) فكان من الطبيعي أن يحدث التأثير بمن سبق من المذاهب، خاصة وأن كثيرا من المسائل الفقهية محدودة الخيارات، وتدور حول هيئات وحركات بشرية محدودة، ومن الثابت أن فقه الهادوية لا يكاد يخرج عما تقرر في المذاهب السابقة عليهم، ومن الثابت أيضا تأثر مؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى ببعضهم بعضا، وتتلمذهم على بعضهم بعضا.
وفي الجانب العقائدي فإن المذهب الهادوي ليس فريدا في مبادئه ولا متميزا بها – باستثناء فكرة حصر الإمامة في البطنين- حتى يتحدث عنه أتباعه وكأنه وحده الحق الأبلج والنقي الخالي من أي تحريف وتبديل عن المصدر النبوي! وفضلا عن قول كثيرين من المؤرخين أن المذهب الهادوي في الأصول متأثر أو تابع تبعية شبه كاملة لفكر المعتزلة المعروف بمذهب العدل والتوحيد؛ فإن أصول المذاهب العقائدية لفرق: الخوارج، والإثني عشرية، والمعتزلة – ومنها التي بينها وبين الهادوية نار وشرار وتكفير وتفسيق- تتفق مع أصول الهادوية في أبرز الأفكار: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد أي مصير أهل الكبائر في الآخرة، والشفاعة، والرؤية، والمتشابه في القرآن، والخروج على السلطان الجائر.. والهادوية يتفقون بالضرورة مع الفرق الباطنية وغلاة الشيعة (التي يكفرها الهادوية) في إثبات الإمامة لعلي وابنيه من بعده.. وكذلك يجمع بينهم هذا الاعتداد بفرادة مذهبهم وحملتهم على المذاهب الأخرى؛ مع فارق أن الخوارج – مثلا- لم يكونوا يملأون السماء ضجيجا عن الوحدة الإسلامية، والتقارب والحب بين المسلمين في الوقت نفسه الذي يكفرونهم بالهمز واللمز!(2)
[ من ملامح التعصب المقيت لدى بعض فقهاء هادوية اليمن المعاصرين وصفهم مذهب أهل السنة، ويقصدون به المذهب الحنبلي والوهابية المتأثرة به، بأنه مظهر ل(زندقة الأعراب).. مع أن مذاهب السنة وعلومهم نشأت في حواضر العالم الإسلامي في ذروة ازدهاره كالمدينة المنورة وبغداد والبصرة، وهي البيئات ذاتها التي عاش فيها أئمة أل البيت الأوائل.. وفي المقابل فإن الخوارج هم الذي يمثلون فعليا بيئة الأعراب، ولم يمنع ذلك من اتفاقهم مع الهادوية في أصول العقيدة عدا الإمامة، ومن أبرز تفسيرات المؤرخين لغلو الخوارج وتشددهم أنهم جاءوا من بيئات صحراوية وتغلب عليهم طبائع البداوة والجلافة! وفي كل الأحوال فإن الهادوية نشأت وتبلورت مذهبيا وحكمت كدولة في أشد مناطق اليمن بداوة وتخلفا وفقرا وجهلا، وكرست هذه المظاهر في مناطق تحكمها طوال تاريخها حتى صارت سمة لازمة لها!].
مقاربة عن تطور أفكار الفرق الإسلامية
قبل البدء في المناقشة، والتي ستكون معززة بالشهادات والمعطيات والإشارات على حقيقة عقيدة أئمة أهل البيت الأوائل؛ وفي مقدمتهم الإمام زيد بن علي؛ وعلاقتها بمباديء العدل والتوحيد على طريقة أصول المعتزلة وموافقيهم من هادوية اليمن؛ فإنه من المفيد الإشارة إلى حقيقة تاريخية في تاريخ نشأة المذاهب الإسلامية وتطورها، وهي أن معاني المصطلحات الخاصة بالفرق والعقائد: أسماء ومباديء تطورت واختلفت دلالاتها وعددها ما بين زمن الصدر الأول للإسلام حتى منتصف القرن الهجري الثاني والقرون التي تلت ذلك العهد.. فمسألة (الإرجاء) مثلا لم يكن يقصد بها في بدء الأمر المعنى الذي آلت إليه عند بعض المرجئة الذين قالوا إنه لا يضر مع الإيمان معصية.. فإن الإرجاء – مثلا- في البداية كان يعني أحد أمرين؛ إما موقفا أقرب إلى الحياد بين القوى الإسلامية المتقاتلة ترفض أن تحكم على هذا الطرف أو ذاك بالخطأ فضلا عن الكفر، وترجي الأمر إلى حكم الله تعالى في الآخرة… وإما موقفا يرفض تكفير المسلمين على طريقة الخوارج.
وينسحب الحكم السابق كذلك على مصطلحات مثل (الشيعة) و(التشيع) و(الإمامة) ذاتها التي خضعت للتغيير والتطور (سلبا أو إيجابا) الذي حدث مع مصطلحات ومعانٍ مثل (الإرجاء) و(المرجئة).. فالتشيع والشيعة لم يكن يقصد بهما ما تبلور عليه الأمر بعد ذلك بزمن طويل حتى صار في بعض مذاهبه قرينا للانحراف العقائدي والزندقة وصولا إلى الكفر ذاته لدى بعض الفرق الشيعية المغالية، وقد ثارت حروب شرسة وتبادل التكفير بين فرق الشيعة ذاتها.. وهو أمر يمكن ملاحظته – مثلا- في العداء الشديد الذي يكنه الهادوية الزيدية في اليمن تجاه الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية والقرامطة والباطنيين؛ فقد كان عداء حاسما يكفر هذه الفرق الشيعية بل ويقاتلها ولو بالاستعانة بغير الشيعة من أهل السنة(3).. وفي المقابل فإن هذه الفرق تكفر الإمام زيد والزيدية وتعدها فرقة ضالة مضلة، والأصح أنهم كانوا يتبادلون التكفير وإنكار الانتساب لأل البيت!(4)
*****
كان التشيع في البداية هو تقديم علي على عثمان؛ قبل أن يتطور ليصير تقديم علي على الخلفاء الثلاثة وأحقيته بالخلافة دونهم مع كل ما تلاها من تفاصيل ظهرت في غبار الخلافات مثل الوصية والعصمة، وتحديد أسماء الأئمة على خلاف بين فرق الشيعة حول المستحق للإمامة، وفي الكتب التي تؤرخ لتلك الفرق فضائح فكرية يندى لها الجبين!(5)
ولعل مما يعزز فكرة تطور المذهب العقائدي لدى فرق الشيعة عامة؛ وجود اختلافات في المذهب العقائدي بين ما كان عليه الأئمة الأوائل من أهل البيت وما صار عليه المتأخرون الذين تماهوا كثيرا مع المعتزلة في طورهم الأخير، حتى أن مما يعيبه الاثنا عشرية على الزيدية – كما نسب لنصير الدين الطوسي- أنهم يعظمون رجال الاعتزال أكثر من تعظيم أئمة آل البيت! وفي المقابل فهناك اتفاق بين السنة والمعتزلة والزيدية على أن عددا من كبار رجال الشيعة الذين كانوا حول بعض أئمة آل البيت كانوا من المشبهة المجسمة مثل هشام بن عبد الحكم (الذي كان يسمى: شيطان الطاق) وهو من مشائخ الرافضة (ت:187هـ)، وهشام الجواليقي.
وفي السياق نفسه يعيب بعض الهادوية الزيدية على الاثني عشرية أنهم ظلوا مجسمة مشبهة.. وظل أغلبهم مثل الشيخ مفيد (ت:413هـ) وتلميذه الشريف الرضي الموسوي (ت:436هـ) معدودين من المجسمة والمجبرة حتى نشأ منهم تيار معتزلي بقي إلى اليوم، وتم التحول مع الاندماج الذي حصل بينهم بين المعتزلة بعد خسارتهم للسلطة والنفوذ في زمن المتوكل، وانقلاب الحال ضدهم فوجد كل طرف في الآخر ملجأ أو فائدة. وهو التحول الذي حدث فقط بالنسبة للزيدية عند الإمام إبراهيم الرسي جد يحيى بن الحسين.
*****
(الاعتزال) نفسه تطور في مسائله وحتى في نوعيه رجاله وطبائعهم النفسية والأخلاقية، ففي بدايته مع نهاية القرن الهجري الأول كان رجاله يسمون القدرية والجهمية، ولم يكن الواحد منهم لديه تصور كامل لفكرة الاعتزال كما استقرت في عصر هيمنة المعتزلة. وكانت المسألة الأكثر أهمية عند بعضهم هي القدر (معبد الجهني).. وهل الإنسان مخير أو مسير، وعند البعض الآخر مسألة الصفات وتأويلها تأويلا عقليا ومنها كلام الله (الجعد بن درهم)، وواصل بن عطاء كانت قضيته الرئيسية:(المنزلة بين المنزلتين).. ومع ذلك فمنهم من كان يوصف أيضا بأنه مرجيء وجبري مثل غيلان الدمشقي والجهم بن صفوان! ومع مرور الزمن تطورت المباديء وازدادت تشعبا على يد المعتزلة الأوائل: واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. بل يورد د. علي النشار في كتابه عن نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام هذه العبارة الخطيرة ذات الدلالة عن المعتزلي الخياط:
[ لسنا ندفع أن يكون بشر كثيرون يوافقوننا في العدل ويقولون بالتشبيه! وبشر كثيرون يوافقوننا في التوحيد ويقولون بالجبر، وبشر كثيرون يوافقوننا في التوحيد والعدل ويخالفوننا في الوعد والأسماء والأحكام..].(6)
وكذلك يمكن ملاحظة أن فكرة نفي علم الله تعالى بأفعال البشر قبل وقوعها؛ أو كما يقول معبد الجهني: (الأمر أنف) أي أن الله لا يعلم بما سيفعله العباد إلا بعد حدوث الفعل.. هذه الفكرة المستفزة لمشاعر المسلمين وعواطف العامة لم تستقر في الأخير عند المعتزلة والهادوية بهذا المعنى الصارم المستفز الذي ينفي أي علم للخالق بأفعال الخلق قبل وقوعها.. وكذلك تلاشت فكرة نفي وجود أي دور إلهي في فعل الطاعات أو ترك المعاصي.. ففي الأخير ظهرت عند بعض المعتزلة والهادوية فكرة (اللطف الإلهي) أي وجود دور للقدرة الإلهية تيسر فعل الخير والطاعة، وترك الشر والمعصية بل وتيسر الشر للأشرار بخلقهم على بنية لا تقبل اللطف.. وهذا (اللطف الإلهي) قد يكون بقول أو غيره يحمل على فعل الطاعة وترك المعصية. أو كما يقول باحث هادوي: [ اللطف مصطلح من المصطلحات المتداولة بين المعتزلة والزيدية والإمامية، ويعني: ما يفعله الله للعبد بحيث يكون أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعصية… وهو من المصالح التي يفعلها الله لخلقه.. وقد اتفق جميع أهل العدل – أي الزيدية والمعتزلة والإمامية- أن الله تعالى يفعل اللطف بعباده]!(7)
وقد علق العلامة محمد بن إبراهيم الوزير على هذه المسألة قائلا: [ وقد انتهت المعتزلة إلى أن الله خص بعض المكلفين بأن خلقه على بنية تقبل اللطف، ولم يزد في شهوته زيادة توقع في المحظور، وهذا هو التيسير لليسرى، أو هو منه، وبعضهم بأن خلقه على بنية لا تقبله، وبعضهم بأن خلق له شهوة زائدة توقعه في المحظور زيادة في الابتلاء، وهو التيسير للعسرى في كتاب الله، أو هو منه، وكل ذلك لحكمة جلية أو خفية استأثر الله بعلمها، ذكر بعض ذلك العلامة/ علي بن محمد بن أبي القاسم (أي شيخ ابن الوزير الذي ألف العواصم والقواسم ردا على تهجماته على أهل السنة) في آخر تفسيره المذكور، وبعضه ابن الملاحمي في (الفائق) كما تقدم.. فرجعوا بعد السفر الطويل والتعسف الكثير في التأويل إلى ما بدأ به أهل السنة من تقرير النصوص على أن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو الحكيم العليم، بل إلى أبعد من قول أهل السنة عن مقاصد أهل السنة، فإنهم قصدوا – أي المعتزلة- في الابتداء المبالغة في تمكين العبد، وإزاحة أعذاره، ثم رجعوا إلى أن الله تعالى قد بنى العصاة على بنية قاسية يمتنع قبولهم منها لجميع ألطاف الله تعالى، مع أنه اللطيف لما يشاء، ولا شك أن هذا عذر للعبد (أي وسيلة للتبرؤ من المسؤولية عن ذنوبه لأنه مجبور).(8)
وهم بهذه الفكرة اقتربوا إلى حد ما من رأي أهل السنة الذين يقولون إن العبد لا يخلق أفعاله ولا يقررها بعيدا عن القدرة الإلهية أو المشيئة الإلهية! لكنهم يقررون – كما يوضح ابن الوزير- أن (الله خلقهم -أي الخلق- على بنية تقبل اللطف بل بناهم على الفطرة لكنه ترك هداية من أراد لما له في الابتلاء بذلك من الحكمة..).
*****
التطور لم يقتصر على الآراء؛ فحتى في تقييم الأشخاص والفرق، والنوعية الأخلاقية حدث نوع من التطور في التقييم؛ فالقدرية الأوائل رغم شدتهم وغلوهم في التبشير بفكرتهم إلا أن ابن تيمية مثلا يشيد بهم، ويصفهم بأنهم القدرية المحضة وبأنهم خير من الخوارج والرافضة، وأقرب إلى الكتاب والسنة. ومن المشهور علاقة غيلان الدمشقي بالخليفة الأموي/ عمر بن عبد العزيز حتى أنه طلب عونه، وولاه مسؤولية رد المظالم، وقد كان لغيلان أتباع كثيرون في الشام معقل بني أمية كانوا يسمون الغيلانية، ومنهم فقيه الشام ومحدثها الكبير/ مكحول الدمشقي أبو عبدالله الهذلي، وعدد كبير من المحدثين! والجعد بن درهم – رأس نفاة الصفات- كان مؤدبا أي معلما لمروان بن محمد – آخر الخلفاء الأمويين- وأولاده حتى كان يوصف بمروان الجعدي، ومن قبله تولى الخلافة يزيد الناقص الذي كان معتنقا لأفكار المعتزلة، وليس هناك ما يدل على حدوث استنكار لذلك لدى عامة المسلمين!
وبالنسبة للنوعية الأخلاقية لرجال القدرية والاعتزال؛ فقد كان السابقون أكثر ورعا وزهدا من المعتزلة المتأخرين الذين كانوا رجال سلطة، وقضاء، ومال ونفوذ وطغيان واستبداد فكري.. فبدءا من معبد الجهني الذي وثقه علماء الحديث مثل يحيى بن معين وأشاد بزهده المؤرخ الشهير ابن كثير، ومثل غيلان الدمشقي والجهم بن صفوان اللذين كانا أكثر ثورية إن صح التعبير في مواجهة أخطاء حكام بني أمية.. وحتى واصل بن عطاء الذي كان يلقب بالغزال لأنه كان يجلس بجوار غزالين الصوف ليتعرف على الفقيرات فيتصدق عليهن.. وأما عمرو بن عبيد فقد اشتهر بالزهد والتعفف عما في أيدي الحكام والبعد عن مجالسهم.. لكن على حسن غرض هذا الجيل المبكر من القدرية خاصة في تبنيهم لمباديء القدرية لمواجهة تشكيكات النصارى والزنادقة في عقائد المسلمين ولمواجهة أفكار الجبر وسلبية العلماء في مواجهة شيوع الإسرائيليات في الأحاديث؛ إلا أنهم – خاصة غيلان الدمشقي والجعد بن درهم- كانوا يفتقدون الحكمة في التبشير بمبادئهم ذات الطابع الفلسفي أو العقلي المعقد فاصطدموا بالحس الإسلامي القوي حينذاك.. فنفي علم الله تعالى الأزلي في مسألة أفعال العباد، وأنه تعالى لا علم له بما ينوي الإنسان فعله إلا بعد أن يقع.. أو الصراخ بأن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا لإثبات تنزيه الله عن مشابهة الخلق.. كل هذا كان مفتقرا إلى الحكمة وتجاوزا للحق لإبطال الباطل، فهم كما قيل أرادوا الحق فأخطأوه، وقد استغل بعض الحكام طريقتهم هذه في تأليب العامة ضدهم لتحقيق أغراض سياسية، فهشام بن عبد الملك كان حاقدا على غيلان الدمشقي الذي صادر أيام عمر بن عبد العزيز ممتلكات بني أمية وباعها وهو يصرخ: هلموا إلى متاع الظلمة.. وقيل إنه كان يحرض عمر على عدم الالتزام بولاية العهد لمن بعده وفق وصية سليمان بن عبد الملك لكيلا تؤول الخلافة من جديد إلى خلفاء غير جديرين بها مما أثار عليه نقمة الأمويين فانتقم منه هشام بن عبد الملك بعد توليه الخلافة مستغلا آراءه الغريبة وطريقته الفجة في التعبير عنها!
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم التعسف الكبير الذي يقع فيه البعض عندما يصرون على أن يجعلوا رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين في زمرة المعتزلة، والزعم أنهم كانوا مثلهم في مسائل العدل، والوعد والوعيد، والتوحيد – كما تبلورت في زمن سطوة الفكر الاعتزالي في العصر الأول لبني العباس- دون أن يوردوا أدلة ثابتة على ذلك من أقوالهم أو روايتهم للأحاديث.. وهو الأمر نفسه الذي يمكن أن نلاحظه في حرص الشيعة المتأخرين – كما يبدو في كتاب نهج البلاغة المنسوب جزافا للإمام علي بن أبي طالب وفي مؤلفات هادوية اليمن- على نسبة أقوال وخطب للإمام علي تحمل ثقافة وفكر زمن بعيد لم يعشه ولم يعرف مفرداته الفلسفية والكلامية التي كانت نتاج التلاقح مع ثقافات الفرس واليونان والنصارى وغيرهم.. وهو التلاقح والتأثر الذي كان من سمات زمن متأخر عن صدر الإسلام والقرن الهجري الأول وحتى نهاية القرن الهجري الثاني. وبالإمكان بسهولة اكتشاف هذا التجاوز في بعض الخطب الطويلة في نهج البلاغة التي تدل على أن صاحبها من أبناء القرن الثالث الهجري أو عصر الكلام والفلسفة.. وفي المقابل فإن نصوصا كثيرة يمكن تقبل نسبتها للإمام على (دون الجزم بصحة السند) لما تعكسه من علوم عصر صدر الإسلام الأول وثقافته السهلة البعيدة عن التقعر والتعمق الفلسفي.. ولعل الأقوال القصيرة المأثورة عن الإمام علي ذات المعاني الواضحة والكلمات القليلة هي أكثر صدقا في نسبتها من تلك المطولات التي تنسب إليه وتظهر فيها بوضوح ثقافة عصر المعتزلة والمتكلمين والفلاسفة.
وحتى (الزيدية) يختلف معناها وجوهرها من فرقة إلى فرقة في الزمن نفسه، ومن قدماء إلى متأخرين، بل ويختلف الزيدية في مذاهبهم وأقوالهم من منطقة إلى أخرى؛ فزيدية الكوفة والعراق عامة يختلفون عن زيدية اليمن، بل فرق الزيدية الأولى تختلف في مواقفها عن بعضها البعض، وفي اليمن اختلفوا ما بين حسينية مطرفية ومخترعة إلى درجة استباحة الدماء والأعراض، والقاريء لكتبهم القديمة والحديثة يجد بينهم خلافات كبيرة حتى في فهم أصول المذهب، وفي قضايا مهمة مثل الإمامة!(9)
الهوامش:
- معتزلة اليمن: دولة الهادي وفكره، علي محمد زيد، ص84، ط2، 1985، مركز الدراسات والبحوث اليمنية ودار العودة بيروت.
- انظر أصول الخوارج واتفاقها مع الهادوية والمعتزلة في كتاب: التفسير والمفسرون للشيخ/ محمد حسين الذهبي، ص300، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- معتزلة اليمن، د. علي محمد زيد، ص 86، مصدر سابق.
- الزيدية والإمامية وجها لوجه، محمد إبراهيم المرتضى، ص 10، ط1، 1998. وكتاب: تعليقات على الإمامة عند الاثني عشرية، عبدالله محمد إسماعيل، ص8، ط1، 1998. وكتاب: نظرة الإمامية الاثني عشرية للزيدية بين عداء الأمس وتقية اليوم، محمد الخضر، ط1، 1423ه، مكتبة الرضوان.
- انظر: ص 3، كتاب مختصر التحفة الاثني عشرية، شاه عبدالعزيز غلام حكيم الدهلوي، نقله من الفارسية إلى العربية الشيخ غلام محمد محيي الدين عمر الأسلمي، اختصره العلامة محمود شكري الألوسي، تركيا، 1979.
- د. علي سامي النشار، ص416، الجزء 2، نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، ط8، 1995، دار المعارف المصرية.
- انظر: كتاب/ تعليقات على الإمامة عند الأثني عشرية، عبدالله محمد إسماعيل، ص77، ط1، 1998.
- العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، الإمام العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، ص416، الجزء الثاني، تحقيق وتعليق: شعيب الأرنؤوط، ط1، 2008، مؤسسة الرسالة.
- انظر: نشوء وتطور أفكار الفرق الإسلامية وأبرز رجالاتها في: تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية للشيخ محمد أبو زهرة، وموسوعة: نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، الدكتور علي سامي النشار، بدءا من ص227الجزء الأول والجزء الثاني، دار المعارف.