فكر

بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج2)

لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين: مقولة تحت المجهر

في هذه المقالة الثانية ضمن سلسلة نقاشنا مع الدكتور برهان، سنتناول جانبًا آخر من المقولات الرمزية التي تكررت في لقاء الدكتور برهان غليون على منصة سوريا بودكاست في الحلقة التي بُثت بتاريخ 27 يوليو 2024 التي تصل بالمستمع لنتيجة مفادها أن: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وذلك لاعتبارات شتى من وجهة نظر برهان غليون التي عرج عليها وتناول بعضها عرضا في حديثه عن السياسة والإسلام والسلطة، وعن كدر العمل السياسي ونسبيته وتغيراته ورِجسه، بينما الدين مطلق وثابت، وأن السياسة تحركها المصالح الشخصية والحزبية. لذا يذهب الدكتور برهان إلى تنزيه الدين عن ذلك كله، وأن الدولة (الإسلامية) قديما كانت أقرب ما تكون للعلمانية لعدم وجود دور كنسي فيها، سوى ما كان يؤديه شيخ الإسلام بمقتضى كلام الدكتور، وأن على القانون الديني ألا يتدخل في القانون السياسي، والعكس كذلك صحيح، مع انتقاده لدور الحركات الإسلامية السلبي – برأي الدكتور – في تقديم صورة انتهازية للمسلم، وعن محاولاتهم في إنشاء أنظمة غير ديمقراطية، والاكتفاء مع الاحتفاء بألقاب الإمارة والإمامة التي في النهاية ستجعل كل السلطات مطلقة في يد فرد واحد، وأن على السلطة الدينية أن تهتم بالجانب الروحي والعقدي والخطب والمواعظ وكفى، وغير ذلك من المقولات والإطلاقات والمزاعم والاجترارات التي تم مناقشتها طويلا في كتابات وندوات ومؤتمرات ومناظرات جمعت كبار مفكري الإسلاميين والعلمانيين في العقود الأخيرة، إلا أنني سأكتفي بالمرور على بعضها سريعا، لتبيين الرأي فيها.

في الحقيقة غاية ما يقدمه الدكتور الفاضل برهان غليون هو تحليل لظاهرة تداخل الديني بالسياسي أو ظاهرة الإسلام السياسي كما يحب البعض أن يطلق عليها اقتداء بالمستشرق البريطاني بيرنارد لويس الذي ساهم في صياغة هذا المصطلح في السبعينيات، وبروز مفاهيم مثل “الدولة الإسلامية” و”الخلافة الإسلامية” والمطالبة بـ “تطبيق الشريعة”، إذ يرى الدكتور برهان أن هذه الظواهر لا تنبع بالضرورة من نقاش حول جوهر الإسلام، بل هي انعكاس لصراع سياسي أعمق على السلطة في المجتمعات العربية والإسلامية وخروجا بالإسلام عن طبيعته الروحية المفترضة. ولضبط النقاش بشكل أكثر منهجية، ينبغي تحليل هذه المقولة المتكررة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، هذه العلاقة العدائية بين الدين والسياسة، التي نشأت -أساسا- في أعقاب الثورة الفرنسية، والتي تميزت بالدعوة إلى إقصاء الدين عن السياسة ومختلف جوانب الحياة العامة، كرد فعل على التحالف التاريخي بين الكنيسة والسلطة الحاكمة، الذي أدى إلى حكم استبدادي ومعارضة للتقدم العلمي. والذي بدوره قد انتقل من الغرب إلى المجتمعات الإسلامية في حالة تخلف وضعف وتدخلات خارجية، مدفوعا بفرضية أن الفصل بين الدين والسياسة هو شرط أساسي للتقدم والتطور. وقد أدى هذا إلى جدل مستمر في المجتمعات الإسلامية حول دور الشريعة في الحكم والتشريع، والتي يرى الكثير من الباحثين أنها – أي معضلة الديني والسياسي – لم تكن مطروحة لدينا بهذا الشكل قبل الثورة الفرنسية، بل سيجد كل باحث منصف علاقة تكاملية بين الدين والسياسة، وأن الدين لم يكن عائقا للتقدم أو سببا للتخلف، بل على العكس، كان محفزا للتطور العلمي والحضاري، بل كانت إحدى الأسباب المركزية لظهور علماء مسلمين في مجالات متنوعة كالطب والفلك وعلم الاجتماع، بل كانت سببا رئيسيا في ضبط سلوك الحكام وتحجيم الاستبداد بشكل كبير، حيث شكل رادعا أخلاقيا للحكام بالمقارنة مع واقعنا البئيس اليوم. والحقيقة التي ينبغي الانتباه إليها أن ابتعاد السياسة عن الدين في التاريخ الإسلامي غالبا ما ارتبط بزيادة الظلم والاستبداد، بينما ارتبط التمسك بالقيم الدينية بنماذج أكثر عدالة في الحكم. ولذلك فقد ذهب بيرنارد لويس في كتابه أزمة الإسلام إلى أن (المسجد كنيسة المسلمين حقا، بمعنى أنه مكان عبادة جماعية، ولكن ليس بوسع المرء الكلام على “المسجد”، كما يتكلم على “الكنيسة”، كمؤسسة ذات هرمية وقوانين خاصة بها، في مقابل الدولة)، ولذلك فإنه يذهب إلى أنه لا موقع للعلمانية في الفكر الإسلامي، ولا يرى أن يطلق على علماء الإسلام مصطلح رجال الدين ولا يناصر فكرة فصل الإسلام عن السياسة، برغم حالة العداء الشديدة والمعروفة التي يكنها الرجل للإسلام، فانظر – بربك – إلى موضوعية الرجل على ما يُعرف عنه، ثم قارنها بمقولات بعض الباحثين المسلمين والعرب التي يتم اجترارها بشكل متعسف، وتركيبها على نمط غير منهجي للخروج بنتائج متناقضة كما يظهر معنا.

بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج2)

إذن مقولة أن لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين غير ثابتة ابتداء، وتنبع من معين ميكيافيللي، وهي تتنافى مع حقيقة الإسلام الذي يعتبر أن منظومة القيم الإسلامية ومقاصده الكُلية ونظامه المعرفي يتصل اتصالا وثيقا بكل تفاصيل الحياة كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والحقوق والأمن وغير ذلك من التفاصيل العامة والخاصة. والقارئ للتاريخ الإسلامي الممتد لأكثر من 1400 عام، يجد أن السياسة كانت جزءا لا يتجزأ من الدين. منذ تأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة على يد النبي محمد ﷺ، كان الإسلام دائما يربط بين العقيدة وتنظيم المجتمع والسياسة. وقد أسس النبي ﷺ دولة المدينة بناء على ميثاق المدينة الذي أتى الدكتور على ذكره مرارا في حواره، والذي تضمن مبادئ العدل والتعايش السلمي بين المسلمين واليهود والقبائل الأخرى. ثم بعد وفاة النبي عليه السلام، تولى الخلفاء الراشدون قيادة الأمة الإسلامية، مقدمين نموذجا سياسيا إسلاميا يقوم على الشورى والعدل. ومن المشهور في التاريخ السياسي للدولة الراشدة قولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته الشهيرة التي ذهبت مثلا: ” أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم”، وهذا يعكس مبدأ المساءلة والشورى في الحكم. وقد انتهى مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون لرؤية مختصرة وعميقة في هذا السياق إذ يرى أن السياسة الشرعية تعني حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، بما يحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية معا، ويحصل نفع هذه السياسة في الدارين.

من المهم أيضا أن نبين أن إلباس الإسلام ثوب الإطلاق والثبات بالعموم فيه مشكلات جوهرية في بنية المقولة، إذ في الإسلام متغيرات أيضا وهي قابلة للتطوير والتحسين، كما أن فيه ثوابت لا تقبل التغيير، والسياسة باعتبارها إحدى أهم جوانب الحياة في الأمة فيها من الثوابت ما لا يقبل التغيير كالوحدة والعدل والحق والحرية والأخلاق والشورى وغير ذلك، وفيها متغيرات تقبل التطوير والإبداع والاجتهاد كالعلاقات الدولية والبرامج الاقتصادية والتعليمية والسياسية وغير ذلك. لذا سيلاحظ القارئ المنصف أن النظام السياسي الإسلامي في جملته هو إبداع بشري قابل للتغيير والتطور، وليس كله نصا دينيا ثابتا. إسلامية هذا النظام تكمن في قدرته على تحقيق المقاصد الإسلامية والالتزام بمنظومة القيم الأخلاقية، مع ضرورة التمييز بين النظام نفسه ومرجعيته ومقاصده. أما الخلافة الإسلامية التي يحاول البعض أن يضرب بها المشروع الإسلامي في كل مرة، فتُفهم كنظام حكم ومؤسسة مدنية ابتكرتها الأمة الإسلامية لتحقيق مقاصد الدين ومصالح الأمة، وأساسها البيعة كعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين، ولذا فإن مفهوم الدولة المدنية – الذي يُطرح أحيانا كنقيض لما يقدمه الإسلاميون- لا يتعارض بالضرورة مع مفهوم الدولة الإسلامية. كلاهما يقر بسيادة الأمة وكون الشعب مصدر السلطات، مع اختلاف في المرجعية. وتجدر الإشارة إلى أنّ مصطلح “الدولة المدنية” يتّسم بتعدد الدلالات في مختلف السياقات السياسية، والقانونية، والإعلامية، والفكرية. هذا التنوع قد أدى إلى ظهور تفسيرات متباينة، بعضها يتوافق مع المنظور الإسلامي وبعضها يتعارض معه. فالتفسير الذي يستبعد الدين والشريعة من أسس الدولة يعتبره العديد من أهل الفكر والمعرفة في السياق الإسلامي مرفوضاً، بينما تتوافق التفسيرات الأخرى مع المفهوم الإسلامي للدولة، كالدولة غير الثيوقراطية وغير العسكرية وغير الشمولية.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج76 بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج2)

في المنظور الإسلامي، تُعرَّف الدولة المثالية بأنها دولة الرشد، وهي تتميز بعدم خضوعها لسيطرة فئة عسكرية أو طائفية متغلبة، ولا تقوم على أساس القداسة أو زعامات فردية مؤلهة كما هو حال العديد من الدول العربية التي ساندتها الأحزاب العلمانية ووقفت فيها موقفاً مُخزياً من الديمقراطية ونتائجها التي أتت على عكس مُرادهم. هذا المفهوم الإسلامي يجسد التوازن بين الثوابت الدينية والمتغيرات السياسية والاجتماعية في إطار الحكم الإسلامي. وهذا يُرجعنا إلى مرونة الفكر السياسي الإسلامي وانفتاحه على تفسيرات متعددة. هذه المرونة تتجلى في قدرة الإسلام على مقاومة التنميط والجمود، مع الحفاظ على جوهره الديناميكي. وفقًا لهذا التحليل، فإن المؤسسة الوحيدة التي يمكن اعتبارها ثابتة في الفكر السياسي الإسلامي هي مفهوم “الأمة”، التي تعتبر مستودعًا للشرعية واستمرارية الفكر الإسلامي. فالإسلام قد ركز بشكل كبير على مفهوم الأمة وآليات استمراريتها، أكثر من تركيزه على شكل محدد للدولة. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني إغفال الإسلام لقضايا السلطة وإدارة شؤون المجتمع. بل على العكس، يُنظر إلى هذه القضايا كجزء لا يتجزأ من الاهتمام بمصالح الأمة وتنظيم شؤونها. ولذا فيُمكن القول أنّ البعد السياسي هو إحدى أسس الإسلام عبر التاريخ الذي عرفه المسلمون عبر العصور. فالعنصر السياسي في الإسلام يُعد جزءًا لا يتجزأ من طبيعته الشاملة وفلسفته وأهدافه منذ نشأته على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم. هذا المفهوم للإسلام يهدف إلى تحرير البشرية من العبودية لغير الله وإقامة العدل. كما يسعى في العصر الحديث إلى تحقيق الحرية أو الاستقلال عن الهيمنة الغربية، سواء كانت عسكرية أو فكرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى