فكر

بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج3)

الاستبداد والعلمانية والحركات الإسلامية: الأسئلة والخلل والتطبيق

استكمالاً للمقال السابق الذي ناقش المقولات التي يُردّدها البعض بهدف إخراج الإسلام من الحياة السياسية ودوائر التأثير، وحصره في زاوية المسجد روحاً بلا جسد، وفصله عن الحياة السياسية والاجتماعية تماماً، والتي تم ترديدها في لقاء الدكتور برهان غليون عبر حلقة بودكاست سوريا التي بُثت بتاريخ 27 يوليو 2024، وخروجاً من النقاش الفكري والمعرفي واشتباكاً أكثر مع واقع الحركات الإسلامية السياسية اليوم، والتي يعتبرها البعض ممثلاً رسمياً عن الإسلام كدين وعن المسلمين كلّ المسلمين، بهدف تحميلها أزمات الأمّة وتحدياتها المختلفة، بل ويُحمّلها البعض – ومنهم الدكتور برهان – وزر حملات تشويه الإسلام نظراً لمشاريعهم التي تخلط السياسة المتغيّرة بالدين الثابت، وأنّ هذه المشاريع المرتبطة بالحركات الإسلامية غير مقبولة ابتداءً من الجماهير المسلمة في بلادنا وأنّها – حسب تعبير الدكتور – لا تُريد حُكماً إسلامياً. هذا إطلاق في غاية الغرابة وينقصه الدليل، ويُعارضه الواقع المليء بالعديد من الاستحقاقات الانتخابية والديمقراطية في كثير من دول المنطقة والتي أتت جميعها ببرامج ومشاريع سياسية إسلامية وبأحزاب ذات مرجعية إسلامية وبأغلبية ساحقة في كثير من الأحيان، إلا أنّ التدخلات الخارجية والانقلابات العسكرية بغطاء سياسي من الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية أدّت بأصحاب هذه التجارب الإسلامية إلى المغترب أو المعتقل أو إلى المقبرة أحياناً. لذا السؤال الأهم الذي ينبغي للدكتور برهان والمفكرين العلمانيين العرب أن يُجيبوا عنه: لماذا يُعادي العلمانيون العرب الديمقراطية؟ ولماذا تركن الكثير من الجماعات العلمانية في العالم العربي للسلطة المستبدة؟ وما سرّ هذا الاصطفاف مع الخارج؟ والغرب على وجه الخصوص؟ وهل تبنّت الشعوب المسلمة برامج ومشاريع الأحزاب العلمانية في المنطقة يوماً ما؟ أم أنّها غير مقبولة ولا تحظى باهتمام الأغلبية؟ لماذا فشلت العلمانية في العالم الإسلامي؟ ثمّ لماذا تُفرض العلمانية على بعض شعوب المنطقة بالتطرف، والعنف والحديد والنار؟ هذه أسئلة ينبغي أن ينشغل بها أهل الفكر والمعرفة من دعاة العلمانية العرب بدل الانشغال بصناعة شمّاعات للآخرين وتعليق أزماتهم عليها.

ولكن عوداً لموضوع تحليل تجارب الحركات الإسلامية ومشاريعهم السياسية وتقييم أدائها، إذ الكلّ مُجمِعٌ أنّنا بحاجة ماسّة وضرورية لإجراء مراجعات نقدية ذاتية للحركات الإسلامية، لا شك في ذلك البتة، بل ودراسة التحديات والمطبّات المختلفة التي ساهمت في عدم تفعيل مشاريعهم والوصول لما وصلنا إليه، لكن ينبغي أن يكون ذلك انطلاقاً من منهجية علمية دقيقة تتجنّب التعميمات المطلقة، وتُراعي السياقات الجغرافية والواقعية، وتحترم الخصوصيات الثقافية، وتُحافظ على الموضوعية في تقييم الأخطاء. وقد قامت العديد من الحركات والتجارب بأخذ زمام المبادرة لإجراء هذه المراجعات، بل ونُشر بعضها في مؤتمرات وندوات وأوراق بحث منثورة. هذا لا يعني تضخيم الأخطاء بشكل مبالغ فيه متغاضين في الوقت ذاته عن أخطاء الآخرين – اشتراكيون وعلمانيون وقوميون وغيرهم- وطامّاتهم الكبرى، بل ممّن كانت أوزارهم سبباً رئيسياً ساهم في إفشال الإسلاميين وعرقلة وصولهم إلى السلطة وإرهابهم وتمزيق مشاريعهم كما ذكرنا سابقاً، هذا دون أن تكلّف نفسها عناء المراجعة، والنقد، والتقييم والمحاسبة.

الشريعة والعلمانية حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون ج3 01 1 بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج3)

وكأنّي بهذه الأحزاب العلمانية التي ما فتئت تُحاول الترويج لمفهوم (حكم الشعب نفسه بنفسه) وتتبنّى مفهوم الديمقراطية وتُسوّق للحريات، وتسعى جاهدة من خلال المنافذ التي فُتحت لهم لتعزيز مشروعهم، حتى إذا ما حانت ساعة الحقيقة، أتت الصناديق بأحزاب وشخصيات إسلامية المنشأ، فانقلب هؤلاء الديمقراطيون على أعقابهم، وبدأت التدخلات الخارجية من الدول الديمقراطية الراعية، وكذلك نداءات الوصاية والتحذير والتخويف، بأنّ المجتمع بحاجة إلى علمانية بلا ديمقراطية في هذا الوقت، لأنّه غير مستعد لأي نتائج تأتي بها الديمقراطية، ممّا أجهز على روح الديمقراطية التي صدّعوا رؤوسنا بها، يأتي هذا ضمن سياق إرضاء غرور نخبة معزولة عن الضمير الجمعي للمجتمع. ضع كلّ هذا في سياق إطلاق الدكتور برهان غليون مقولته عن أنّ الحركات الإسلامية تُريد إنشاء نظام غير ديمقراطي، وأنهم في نهاية المطاف يُنادون بمشاريع تجمع السلطة بيد الأمير والإمام. بينما ينقل لنا الواقع المحايد صورة مُغايرة تماماً، يأتي فيها الإسلاميون من خلال الوسائل الديمقراطية ويطرحون مشاريع وطنية ضمن هياكل مدنية وبرامج عمل، ويُساهمون – قدر استطاعتهم – في بناء بلدهم وتمكينه، ثم تنقلب عليهم الأنظمة الاستبدادية بمساندة دول إقليمية وعالمية حتى قبل أن يكملوا برامجهم ومشاريعهم. وقد قالها نوح فيلدمان سابقاً بكل وضوح: المسألة ببساطة أنّ مزيداً من الديمقراطية يعني مزيداً من الإسلام.

بينما المتتبع لتجارب وتطبيقات العلمانية المعاصرة يُلاحظ بشكل واضح مزيداً من القيود والإقصاء والعنف. إذ يكفي الاطلاع على الصراعات وحالات الاقتتال بين الحركات القومية واليسارية بكل فروعها وعناوينها في العالم العربي، التي وصل بعضها لسدّة الحكم ليُدرك حجم الكارثة في منظومة الأفكار والتطبيقات، بَله عن مشروعات الإقصاء الدموية التي قاموا بها ضد الرجعية والأصولية والإسلاموية – بزعمهم – في سوريا والعراق ومصر وتونس وتركيا وبنغلاديش وغيرها، بل لا يكاد يغفل أحدٌ اليوم عن التناقض الفجّ لأدعياء الليبرالية والحريات والمساواة وحقوق الإنسان في الغرب حينما يتعلّق الموضوع بالقضية الفلسطينية على سبيل المثال، وهذا يُثير العديد من التساؤلات الملحّة أمام الشباب الذي بات يُفكّر بطريقة مختلفة، لا يجترّ فيها خطابات مُكررة ولا ينخدع فيها بأساليب الترويج المعهودة نظراً لما يراه من حالات نكوص وفشل في التعامل مع ملف الحرّيات والحقوق، خاصّة إبّان ثورة الطلاب الأخيرة في الجامعات الغربية وطريقة التعامل الفظّة معها والتي تتّسم بالنفاق والعنصرية. هذا لا يدعو فقط لإعادة تقييم مدى ملاءمة النموذج العلماني للمجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، بل أصبحت شريحة واسعة من الشباب في الغرب تطرح ذات الأسئلة حول دور المنظومة الليبرالية والعلمانية، والبعض باشر البحث عن حلول بديلة تتناسب مع المرحلة بخصوصياتها وتحدياتها.

وهذا يُحيلنا لسؤال محوري في سياق تقييم الحركات الإسلامية في المنطقة. هل ما حدث يعد خطأً فعلياً أم أنه نتيجة لاختلال في موازين القوى؟ وما نسبة هذه الأخطاء؟ وما هي سياقاتها المختلفة؟ ليس هروباً من تحمّل المسؤولية، إذ لا يمكن إعفاء الأطراف المعنية من المسؤولية عن أخطائها – إن وقعت-، ولكن للتعرّف على حقيقة الإخفاقات، والاقتراب من الواقع أكثر، عوضاً عن الاكتفاء بحالة الهجوم التي بات يتقنها البعض هروباً من مسؤولية الاشتباك، بينما الاقتراب من الواقع قد يُظهر للمهتم صوراً مختلفة عمّا استقرّ في الأذهان نظراً للتحيّزات المسبقة. هذه التساؤلات وغيرها تدعو إلى تحليل أعمق للظروف المحيطة بتجارب الحركات الإسلامية، متجاوزاً الاتهامات السطحية بالتخبط والإخفاق والفشل. كما أنّه من المهم الإشارة إلى أن فشل المشروع لا يعني بالضرورة خطأ في الرؤية. فالتاريخ يشهد على حالات عدة حيث واجهت مشاريع التغيير الإيجابي مقاومة شديدة. إذن من الضروري التريّث في إطلاق الأحكام النهائية، وعدم التحيّز والقطع الحتمي خاصّة أنّنا أمام مشروعات تغيير ما زال يقبع مفكروها وقادتها وصانعوها في أقبية سجون دول بوليسية استبدادية.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج6 بين الشريعة والعلمانية: حوار مفتوح مع الدكتور برهان غليون (ج3)

مرة أخرى، هل هذا يعني أنّه لا ينبغي لنا أن نقيّم أداء هذه الحركات؟ وأن نُجري عملية منهجية لمقاربة تجاربها في المنطقة؟ بالطبع لا، بل ينبغي أن تقوم الدراسات والبحوث والندوات والمراجعات بدراسة الأفكار والمنطلقات والمفاهيم والتطبيقات والتجارب لاستخلاص التحليلات والنتائج من خلال ضبط منهجي منصف بهدف التصحيح والتقويم لا التقريع واللوم لمُجرد التشفّي والتربّص. نحن بحاجة ماسّة لطرح الأسئلة الكبرى عن الحركات الإسلامية وغير الإسلامية التي كان لها تجارب سياسية في المنطقة، وعن آفاق المستقبل، وعن المسارات السابقة واللاحقة، سؤال الأزمة؟ سؤال الثورة؟ سؤال المشروع؟ سؤال الإخفاق والتعثّر، كيف؟ ولماذا؟ سؤال الدولة، وسؤال مشروع الدولة؟ سؤال الجماعة والتنظيم؟ سؤال الخطاب؟ سؤال الوطن؟ وغيرها من الأسئلة الملحّة، التي إن لم نجد لها أجوبة كلّية فسنبقى حبيسي الإطلاقات من الرأي والرأي الآخر، في حالة إلقاء اللوم المتبادل، وتعليق لحالات الفشل الكثيرة على شمّاعاتٍ شتى.

ختاماً، واستكمالاً لما بدأنا الحديث عنه من مكانة الديني والسياسي، فإنّ المتابع لواقعنا المعاصر – برغم قسوته – يشهد اهتماماً متزايداً بالقيم السياسية المستمدة من الإسلام. هذا الاهتمام ينبع من الطبيعة الشاملة للدين الإسلامي، الذي يقدم منظومة قيمية ومبادئ تغطي مختلف جوانب الحياة، بما فيها المجال السياسي. تاريخياً، تجلت هذه القيم في الممارسات السياسية الإسلامية، التي اتسمت بتحكيم العقل والسعي لتحقيق المصلحة العامة. هذا النهج أسهم في تشكيل حضارة ذات تأثير عميق في التاريخ البشري، يتّسم بنظام شامل يتجاوز مفهوم العقيدة الدينية المجردة. فهو يقدم إطاراً متكاملاً للحياة، مع الحفاظ على مرونة تسمح بالتجديد والتكيف مع المتغيرات المجتمعية والتاريخية. هذه الخصائص تجعل من دراسة القيم السياسية الإسلامية موضوعاً ذا أهمية بالغة في فهم الديناميكيات السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي المعاصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى