يؤدب القرآن المسلم ويربيه على ألاَّ يبخس ولا يُخْسر ولا يغالي ولا يضخم ولا يسخر ولا يزدري ولا يعمم ولا يتهم فهي مسالك وألوان من الحيف وآفات قبيحة في تقييم الرجال أو الجماعات أو الأفكار أو الحوادث ، و يرشد ضمير المسلم ويهذب أخلاقه ويقلم تطرفه ويحضه على قول السداد وشهادة الحق والحكم بالعدل والميزان بالقسط ، ولا تمنعه مشاعر الكره لأحد ألاّ ينصف فيميز الكلام، فيقبل منه ما كان صوابا ويترك ما كان غلطا ، كما لا تدفعه مشاعر الحب لأحد أن يبرر ويمرر الأخطاء، بل يميز كل الكلام ولا يقبل منه إلا ما كان صوابا(1) ، فهذه تجليات ذهنية التخلُّق، أما تجليات ذهنية التخلف فهي التعميم في الأحكام واختزال التاريخ في موقف ،والجرأة على إطلاق الأحكام ، وإضاعة الأمانة(2) .
تستلفت حركة الإخوان المسلمين المصرية نظر الباحثين في الشأن السياسي والمهتمين بالحراك الاجتماعي والتكتلات الدعوية الإسلامية؛ لتدارس منظومتها الكلية في منحى البناء والأداء، وتلك ضرورة فرضتها عوامل موضوعية وأخلاقية كعِبَر التاريخ واستهداء المسار وبيان المسير ؛ فتتحدد الهفوات وتتسدد الفجوات ، ويكون الرشاد والسداد في مستقبل مشروع استخلاف الإيمان والعمران والدعوة والصلاح، في أمة الخير والخيرية الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر ، فسنة تدافع الخير والشر مستدام الزمان والمكان والإنسان، ووظيفة المتفقهين العالمين الباحثين تلمس مواطن الإنذار والإعذار والاقتدار، دفعا ومنعا ، كإحدى مهمات الواجب والواقع الديني الأخلاقي والدعوي والتربوي.
ورصد ملامح هذه الظاهرة الإسلامية يتطلب المهنية البحثية في رسم الملمح المنهجي الرامي إلى السلامة والاستقامة لهذا المعطى البحثي، وهو مسلك نبه عليه مفكرون وعالمون تفاديا للمنزلقات ومثارات الخطأ والجناية، فالكلمة مسؤولية والكلمة أمانة والكلمة أقوى من الرصاص، في عالم البيان والبنان.
ومن هذه الملامح المنهجية ما استدركه د. سيف الدين عبدالفتاح ونبه عليه المشاركين في ندوة تحولات الحركة الإسلامية المقام في مركز الجزيرة شهر ابريل 2016 ، : عدم إطلاق التعميمات والأخذ في الاعتبار مشاكل الواقع والجغرافيا ، ومراعاة السياقات والخصوصيات ، وعدم استنساخ نجاح الخبرات بحذافيرها، بل الاستفادة منها ما أمكن ، وعدم الاسراف في تضخيم أخطاء الإسلاميين وحدهم دون غيرهم ممن خطؤهم أبشع وأفضع، وأسهموا في إفشال الإسلاميين ودون نظر لسياقات الخطأ، كما يتطلب الأمر المراجعة والنقد الذاتي فخطأ الكبير كبير وخطأ الصغير صغير ، والتعامل مع قضايا العمل الاجتماعي بكل مستوياته باعتبارها أمورا مفتوحة غير مغلقة إغلاقا تاما ، فمسألة الهوية والمرجعية والشرعية والمشاركة قضايا مهمة، والعلاقة بين الدولة والمجتمع تحوطها مجموعة أسئلة تتعلق بالديني والقيمي والتنموي والثقافي والدولي والخارجي والداخلي وسؤال المؤسسة والتراث والذاكرة وسؤال التجديد والمستقبل .
والحركة الإسلامية لا تُختزل في البعد السياسي، الذي هو أحد أضلاعها المتنوعة، فكما هي حركة سياسية كما يقول القيادي السوداني غازي صلاح الدين هي حركة وعي وهي سلطة أخلاقية وحاضنة فكرية وضمير جماعي، بل هي من خلال
أدبيَّاتها في الوعي التربوي والأخلاقي والشرعي والوعي العام حسب نظر المفكر الجزائري عبدالرزاق مقري تحمل هم الصحوة من حين انبعاثها في ثلاثينات القرن العشرين ولم تحمل هم النهضة ولم تشتغل عليها ، فحققت الصحوة حقيقة وجاء قرن النهضة الآن وهذا له فكر جديد لم تجتهد فيه ، وله تنظير جديد ،وممارسات لم تشتغل عليه ، والحركة تنتقل بسيرورة تاريخية وحتمية نصية ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”(3) ، وانتقال الفكر من المجتمع الى الدولة يكون بالنهضة لا بالصحوة .
وهذا التقييم والمراجعة لسلوك الحركة الإسلامية وبالخصوص السياسي مشفوع بتساؤل من المفكر الفلسطيني عزام التميمي ، إلى أي مدى ما حدث من قبل الحركة الإسلامية يعتبر خطأ، أهو خطأ بالفعل أم هو اختلال في ميزان القوى ؟، حيث يصمهم البعض بالتخبيط والتخبيص، ولو نجحوا لحملوهم على الاكتاف ، فليس كل مشروع ينتهي بالإخفاق سببه من قِبل حامليه ، وبالنظر إلى سنن الله التاريخية فأصحاب الأخدود أحرقوا بسبب إيمانهم كونه مشروع تحرير للإنسان والسلطان ، فلا يُعفى من المسؤولية المخطئ ، ولكن التعجل في إصدار الأحكام! خصوصا وصانعوا التغيير والحراك الثوري قابعون في سجون الطغاة دون أن يُسمع منهم ولهم الذي سيكشف جزءا من المشهد وملابسات الموقف.
والحركة الإسلامية ليست نسقا واحد مكتملا البنيان ابتداء، بل أخذت مراحل النمو كأي كائن بحسب حواضن التحول وسياقاته، وهو ما عبر عنها الشيخ حسن الترابي رحمه الله بـ” مرحلة الكمون ، الانتشار، التمكين “، و الراصدون لظواهر التيارات والتكتلات الاجتماعية يحددونها بأربع مراحل كما يقول الباحث التونسي سامي ابراهيم : ” تأسيس ، نمو ، نضج ، اقتدار” ،والوعي يداخل كل مستوى بحسبه ، وعي التأسيس ، وعي النمو، وعي النضج، وعي الاقتدار، فهي منتج مجموعة من التحولات النوعية التي طالت الاجتماع السياسي في المجال العربي الإسلامي منذ مطلع القرن التاسع عشر كما يقول السياسي التونسي رفيق عبدالسلام .
ومن هذه الملامح المنهجية التي تعتبر أخطاءً يقع فيها دارسوا القضايا العلمية والإنسانية والظواهر الاجتماعية ، التحيز من لحظة العنوان دون مؤشرات منهجية وعلمية، ثم القول بالحتمية والقطعية في هذه القضايا، كمثل تعثر مكون في موقف من جولاته التدافعية فيقطع بأن هذا المكون أصبح جزءا من التاريخ ولن يكون جزءا من المستقبل أو أنه سيظل تنظيما ويستبعد أن يكون له دور سياسي لاحقا، فالأبحاث العلمية في مجال الإنسانيات تتعامل مع الأفكار والمنطلقات والمفاهيم والنظريات لاستخلاص التحليلات والنتائج.
وتتزامل في منطق البحث العلمي والبيان القولي ثلاثة منطلقات كلها تصب في بوتقة التحيز هي: منطلق التربص والتشفي، منطلق التمني، منطلق الحرص والحب، فتقييم التجارب كما يقول الباحث المصري عصام عبدالشافي يحتاج لمؤشرات حقيقية بناء على ضبط منهجي .
فهذه الموجهات العامة تسمح بتناول الظواهر الاجتماعية بما من شأنه الاقتراب من موطن العدل والانصاف ، ومناط الائتلاف والاختلاف، ومن ثم التصحيح والتقويم.
فحركة الإخوان المسلمين أحدثت أثراً في المجتمع وفي أعضائها ومؤيديها، مرَّت بظروف وسياقات وأجيال وأنظمة وقيادات، وتمددت زمانا ومكانا، ولها رصيد ضخم جداً بقطع النظر عن التعثر أو التطور لمن يريد الاستفادة منها، وهي فرصة سانحة ، فلو أن التعثر كان بنسبة 80% فهو مفيد لمن يريد الإصلاح وتجاوز التعثر وخبرة الحياة والتدافع.
فتجربة الإخوان المسلمين في الحكم تجربة مرتبطة بامتدادات التوسع والممارسة زمانا ومجالاً وفق سنن النشؤ والتطور للكائنات في سلم الحياة كما ذُكر سابقا ، ولذا يصعب تناول هذه الامتدادات بتفاصيلها وخطوات نشوئها ودقائق مسارها، وإنما تناول مرتكزات من خلال أسئلة كبرى وإجابات كلية ، توحي بإشارات ومؤشرات كلية سَننية ناظمة نحو آفاق المستقبل ، وهذه الأسئلة والإجابة عنها قام بها مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية التابع لجامعة صباح الدين زعيم في تركيا وبالتعاون مع المعهد المصري للدراسات السياسية وكلية الدراسات الاسلامية التابعة لجامعة حمد في قطر في إطار دراساته للتجارب الإسلامية في الحكم ، وتأتي دراسة هذه التجربة بعد تجربة الحركة الإسلامية السودانية .وقد ارتأيت أن أقوم بجمع هذه المادة من الندوة وغيرها من الندوات والحوارات، وتلخيصها في ثلاثة أجزاء تتناول بعض الأحداث كمقدمات ضرورية تنبني عليها نتائج ومآلات تمثل درسا في فقه العبرة والخبرة، بصورة مختصرة تسمح لذوي الشغل وضغط الظروف وضيق الوقت الاطلاع وقراءتها.
وقد تلخصت أسئلة هذه التجربة في هذه الملامح المقاربية إلى :
سؤال التنظيم الأزمة النمط الأثر .
سؤال الثورة المشروع والفشل
سؤال الدولة والمشروع .
سؤال الاقتصاد البرامج والأداء.
سؤال العلاقات الخارجية
سؤال المفاد والعبرة المثالب والمطالب.
والإجابة على هذه الأسئلة ليست كامل المنهجية العلمية الصارمة كما هو مقرر في مناهج الأبحاث، وإنما مقاربات دَاخَلَها الضبط واعتورها التسهيل والاختلال، ونحن نستعرض ما سلم من الاختلال واقترب من الضبط لنصل في نهاية المطابة لِلْتِقاط عِبَر المجرى وهدايات المرسى والله المسدد والهادي إلى سواء السبيل والصراط المستقيم.
(1)
سؤال التنظيم: الأزمة (4)
سؤال التنظيم والأزمة سؤالٌ تأسيسٌ نظريٌ للوقوف على مسلك تجربة الحكم وملحظ التطوُّر والتعثر ؛ لذا لن تكون الإجابة بشكل يغوص في تفاصيل البناء، وإنما رصد بعض الممارسات الموحية بإشكال أو إخلال نتج عنها ارتخاء في التلاحم وارتقاء في التلاوم، فما وقع هذه الأزمة التنظيمية، وما تقييمها؟
برزت خلافات داخلية في فترات متعددة ومحدودة ، ولكون التكتم والتحفظ التنظيمي حالة قائمة فيه ، فيصعب تحديد خيوطها بدقة لتداخل الظاهر بالباطن الإنساني ، وخفاء الأدبيات المعبرة عن ذلك، غير المعلن عنه أفكارا وأداء وسياسات، فالشؤون الداخلية محدودة الظهور نتيجة البيئة المعادية في أغلب تاريخها ، لكن تكرُّرِ الخلافات الداخلية يرسم خطوطا للفهم عن المنبع والمرتع .ويأتي هذا التشخيص لكونها جماعة مهمة وتياراً سياسياً مهماً وطرفاً رئيساً في الحالة المصرية اجتماعيا وسياسيا، وبالتالي ما يحصل فيها تنعكس تداعياته على مجمل الحياة المصرية ومستقبل حالة التغيير .
ففي الخمسينات حاولت مجموعة قيادات عزل المستشار حسن الهضيبي ومثلها ما وقع قبل أشهر من تاريخنا محاولة قيادة مجلس الشورى وبعض أعضاء المجلس عزل القائم بأعمال المرشد الأستاذ إبراهيم منير، وهذه أخطرها لكون الأولى حلّت في ظل وجود الجماعة ومؤسساتها واعتيادية العمل ووجود قيادات قادرة على حسم النزاع … بينما في حالتها الآن عدم وجود مكتب الارشاد سوى عضو واحد موجود في الخارج وانقسام مجلس الشورى بين الداخل المعزول والخارج المشتت، فالحسم بعيد لعدم الاجتماع وتوفر النصاب وبالتالي فالحَكَمُ توازنات الأمر الواقع ، هذا الوضع عزز انسيابية الخلافات وفوضى الجماعة.
وهنا يبرز سؤال هل هو خلاف بين أجيال ؟
الفرضية التي تصور شباب الإخوان أن هؤلاء الشباب في نسقهم التنظيمي طبعة موحدة فكرا وثقافة وتربية وتمايزا عن حالة مجمل قطاعات الجماعة لم تثبت في محك النظر والواقع عند بعض الباحثين ، بينما يرى البعض أن الحديث ينحصر في حدث ومؤسسة تخلق وعيا جمعياً عند مجموعة من الناس فيعيد الشخص تعريف نفسه وفاعليته وخطته في الزمان والمكان، ولكل ٍّ دور معين في هذه اللحظة التاريخية، وفجأة يحصل حدث معين فيؤثر على عدد من الناس فيشكل لهم تعريفا للحظة وتعريفا للدور، فخلق فكرة هذا الجيل، وأصبح هناك اقترابات للتعامل(5) ، والأدوار والفاعلية والقيمة في التنظيمات للأفراد تستمد من وجودهم في الزخم الجماعي، وهو أمر إيجابي تنعكس سلبيته حين تترى الابتلاءات على التنظيم فتسكن الفاعلية وتخمد الأدوار حتى تستعيد الجماعة رايتها وقوتها، مع أن رسالة التنظيمات الإسلامية الدعوية تقوية المجتمعات والأفراد فيكون مجتمعا قويا يقوم بأدواره في كل الظروف والأحوال.
وتعافي جماعة الإخوان من محنتها حسب نظر الباحث المصري عمار فايد يكون بتعزيزها من المبادرة الفردية لدى أعضائها، فالجماعة تنظيم واسع ومتنوع في التخصصات والمهن والأعمال والأنشطة ودوافع الأعضاء ، بما لا يوجد في أي تنظيم أو اجتماع سياسي آخر ، وهذا محط قوة للجماعة، فإن تعثرت سياسيا فترات فليست السياسة وظيفتها الأوحد، بل هي أقرب إلى مجتمع متكامل ، وبالتعثر والصدام السياسي تحصل تناقضات حقيقية ، تنسحب على كافة مجالات وأنشطة الجماعة، فأمام التحديات الهائلة يصعب عليها القيام بكافة المهام المطلوبة ، وبالتالي فالتخلي عن فكرة المركزية في الإجرائيات بعد رسم الخطوط العامة ، والدفع والتعزيز لأعضائها الشباب للتصرف بشكل ذاتي فردي لعمل مؤسسات وبرامج، سيساعد الجماعة إلى استعادة دورها بشكل أساسي، مع أن المركزية التنظيمية شيء إيجابي أمام المجتمع المدني بالغ الضعف والهشاشة، والهزال، والدولة الساعية لاحتواء كل المنظمات والتكتلات والمؤسسات؛ لتكون تابعة لها ومتحكمة فيها، فالجماعة عميقة الجذور داخل المجتمع المصري وذات تنظيمي قوي، غير أن الشفافية وتداول السلطة والمسؤوليات داخل الجماعة والمحاسبة إشكالية الظهور والفاعلية وإن بدت مرقونة في نظمها و لوائحها.
وهذا الحال المشكل يقود إلى سؤال المركزية في كيفية استثمارها بدلاً من أن تكون عامل تعطيل للطاقات والإمكانات؟
فإذن تتحدد المشكلة في خلو الأطر القيادية العليا للجماعة من الشباب الفاعلين في العمل الطلابي والمستويات الإدارية الدنيا والوسطى، وأي رؤى يحملها شباب الجماعة عن هذا الشغور لا يُقتصر انبعاثها من هذه الشريحة، بل يشترك في بعثها ونشرها أعضاءٌ كثر أكبر منهم سنا، فهم بسطاء يمثلون جزءا من التدافع الداخلي داخل الجماعة .و ليسوا مجموعة يسهل فرزها وتحديد توجهاتها بشكل قاطع لأنهم حالة غير معلنة ، وقد حصل تعديل في لائحة 2014م يعطي امتيازاً للشباب والمرأة ونظام الكوتا، وكان الأستاذ إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد قد عمل حوارات ولقاءات في مكتب تركيا وسمع لشكاوى وتطلعات الشاب وعمل انتخابات صعدت عبرها مجموعة من الشباب في مسؤوليات قيادية، وهو ما فجر الأزمة مع مجموعة الستة، ولقي مقاومة وجدالا ما زال صداه إلى الآن، وقد فسر هذه المقاومة الدكتور عزام التميمي بكونها نزعة إلى الاستبداد، وهو ما يحتاج لضبط اللوائح حتى تحول بين هذا التغول الجامح الذي أصبح الشخص هو المؤسسة بل ابتلع المؤسسة في ذاته، وتشكل لدى بعض القادة قناعة أن في ذهابهم خطرا على الدعوة ، والأخطاء المتكررة في فترات وعقود زمنية سببها المسؤوليات المحتاجة إلى مراقبة ومحاسبة.
وعلى فرض أنها ليست أزمة أجيال فهناك ثلاث أسباب رئيسية محركة للأزمة ومفاقمة لها من بعد الانقلاب وحتى الخلاف الأخير وهي :
1- البيئة الخارجية التي يتواجد فيها المصريون سواء ممن استوطنوها سابقًا عن حدث الثورة والانقلاب وأصبحوا دعاة وعاملين فيها، أو من لحق بهم بعد الانقلاب .
2- الحالة السياسية الموجودة وانعدام الحل .
3- العامل الإداري المحوط بسؤال كيفية الإدارة ، وكيفية الاختيار للقيادات والكفاءات خصوصا أصحاب العمل الفني الاحترافي والخبرة التنظيمية ، وكيفية المحاسبة ، وكيفية التغيير وتداول المواقع والمسؤوليات بشكل دوري سلس.
• ما يتعلق بالبيئة: أحد منجزات الشيخ حسن البنا رحمه الله هو التنظيم المحكم والفاعل سريع الحشد والتواصل، فبعد إفراج عبدالناصر عن القيادات خلال ساعات ،وإذا بالعشرات تتجمع أمام المقرات لدخولها، فبيئة الجمعية قبل عبدالناصر كانت شرعية قانونية، وعضوية مفتوحة ، وعملاً في المجال العام، أما بعد بناء التنظيم أواسط السبعينات فالبيئة معادية إضافة لعدم شرعية الجماعة قانونيا وحالة الاستهداف الكبير ، وهذا يتطلب خصوصية وسرية في إدارة الشأن الداخلي، نتج عنه زيادة مركزية التنظيم والإحكام في الشؤون الداخلية وصعوبة آليات المحاسبة والمراجعة، إلاّ إن كانت القيادة هي من تراجع وتحاسب، وهذه ليست ثقافة داخلية حاصلة. ساعد على استمرار هذا الوضع الداخلي حالة الانجاز والصعود السياسي والاجتماعي والدعوي في التسعينات والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، فحصل ثقة بسلامة التوجه وصحة الاتجاه .
معادلة المركزية وخصوصية إدارة الشأن الداخلي وثقافته التنظيمية والنجاح في الانتخابات برلمانية ورئاسية وتمحور التيارات السياسية حولها، تبدل لحالة معاكسة بعد الانقلاب تقترب من الانتهاء عما كان سابقا من الثقة والرضا عن البناء والأداء والنقاء ، فما كان مستوراً ظهر بشكل تساؤل في وجه قيادة الجماعة عن: مسؤول اتخاذ القرار تخصصا واحترافا وكفاءة ، وكيف يتم . وكيفية المحاسبة ؟
هذه أسئلة كانت هامشية في السنوات الماضية قبل حدث الثورة والانقلاب، وأصبحت مركزية محور النقاش الداخلي وواجب الوقت ، وتتنامى يوميا بفعل فواعل كثيرة ، ومحركات متنوعة، بل ومحفزة. فعدم قدرة الجماعة على مواجهة الانقلاب أوحل الأزمة ، وتحفيف المعاناة في السجون وغياب البرنامج الواضح، والهجرة عن البلد إلى الشتات وانعدام القيادة المقنعة المؤثرة في الأعضاء المحتوية لهذا الجدل فهي مودعة في السجون ، فاقم الإحباط وعدم الاقتناع بأدائها وزاد من حفر التساؤلات داخل الجماعة والحساب عما تم .
• بيئة الشباب الجديدة في المهجر المختلفة الخبرات والثقافات والفكر، نتج عنه تراجع في هيمنة المؤسسة الثقافية على أعضائها، ولم تعد هيمنة القيادة وموقفها الرسمي ذا وقع عندهم كما كان، رغم أنهم وجدوا قيادات في الخارج محكومة بالثقافة التنظيمية التقليدية، فمثلا : في أيام حسني مبارك مهما حصل ونشر وأذيع من خلافات داخلية فبمجرد بريد تعميمي توضيحي من القيادة لحقيقة الأمر ينحسم الجدل وينتهي بالثقة والاطمئنان لأداء هذه القيادة بينما الآن تعددت قنوات المعرفة وثورة الاتصالات فلم تعد هيمنة الكلمة الرسمية الداخلية ذات وقع،فحصول التلاق العضوي والتلاقح الفكري بين من استقروا من دعاة الجماعة وأعضائها في المهجر للدعوة بعيدا عن حالة التنظيم المصري وبين بعض القيادات والشباب المهاجرين بعد الانقلاب وانفتحت الأسئلة بينهم حول طبيعة عمل الجماعة والتنظيم الداخلي، حيث العرف التنظيمي أن الاتصال البيني رأسي أما العرضي فلا، هذا العرف بفعل التعارف في الشتات انكسر لسهولة التواصل العرضي بين مختلف الشرائح التنظيمية والأجيال العمرية، بينما الوضع الداخلي لا يسمح بهذا الأمر نتيجة الوضع الأمني، وبفعل هذا التعارف والتفاكر اكتشف الشباب أنهم مجتمع متنوع النظرة والخبرة ، وهنا تراجعت المسلمات والثوابت عن النظرة الواحدة والموقف الوحيد ، فكثافة التواصل والتعارف وتداول المعلومات وتلاقح الافكار والقدرة على تقييم القيادة وكفاءتها على إدارة المرحلة ، رفع من دافعية تحدي القيادة والاعتراض عليها والمطالبة بتغييرها، وتأثرت الثقافة الداخلية القديمة ، وارتفعت الثقة بالنفس والقيادة والمشروع، وحفز الأزمة الداخلية وأنتج مؤشرات من أبرزها : الضغط المتواصل على قيادة الجماعة بإحداث تغييرات وإصلاح داخلي والإجابة على التساؤلات السياسية، فمركز القيادة مركز رئيس في معادلة الجماعة والفاعلية والديناميكية ، وبات اللقاء بالقيادات أمرا سهلاً، وهو ما انصدمت منه قيادة الخارج كالدكتور محمود حسين ومجموعته؛ إذ هو شيئ لم يكن مألوفاً ولا مستوعباً، فزاد ضغط الخطاب النقدي والتحدي لقيادة الجماعة ، وقد استطاع الأستاذ إبراهيم منير في مجمل خطابه أن يقترب من تطلعات الشباب ومطالبهم، وفهم حالة لزومية التغيير والانجاز السياسي واستيعاب الأعضاء الغاضبين، ولما بدأ يبدي تجاوبا مع هذه الدعاوى اصطدم بموقف القيادة التقليدية؛ لأنه وجد الجماعة – كما يقول القيادي المصري ياسر عبدالرافع – تدار على غير المعهود من حيث الفساد والمحسوبية وتقريب الثقات لا الكفاءات، فسمع من الشباب في الخارج وأراد انتخاب مجلس شورى يناقش كيفية التعامل مع الشباب ومع النظام الحاكم، وتحديد السياسات، فانحاز للشباب وعمل انتخابات وفاز كثير من الشباب فيها، وقد وجد مقاومة ولكنه مواصل في الإصلاح ، وهذه المقاومات كثيرا ما تظهر عند كل محاولة إصلاح وتغيير داخلي، كما يحكي قطبي عربي أنه بمناسبة وصول الجماعة إلى التسعين عاما، وقيامهم باحتفال عن هذه الذكرى قدَّم قطبي اقتراحا لتطوير آليات الجماعة تُعلن في الاحتفال، كتطوير السياسات والهياكل والمؤسسات والإدارات، ولكن هذه الأفكار قوبلت بالمقاومة ، فنحتاج لثورة في الأدوات والسياسات واللوائح والشخصيات.
هذه الحال البيئية يصورها ياسر عبدالرافع كشاهد عليها في برنامج حوارات لندن على قناة الحوار: أن الناس لما خرجت واحتكت ببعضها ممن جاء من الريف والمدن ومن كانوا في مواقع المسؤولية، فوجدوا الطبيعة البشرية بادية عليهم، فمنهم من يحب الزعامة ومنهم من يحب التبجيل والاحترام فوق المعتاد، ومنهم من يريد منصبا ، وبدأت النفوس تتحرك بطرق ملتوية فجالت التفسير والتفكير في الواقعية والطبيعة البشرية.
• فمفهوم الثقة(6) قبل الثورة لدى الأعضاء في المشروع وقبوله للتحقق وسلامة التوجه وقدرة وحنكة القيادة ونجاحات الأداء الاجتماعي والسياسي كان عاليا، وبعد الانقلاب تراجع هذا الحال، وحلّ سؤال القدرة على تحقيق ما يقولوه بقوة، وهنا يتطلب الوضع ارتقاءً بالوعي على قانون التكوين { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ }[المائدة:18]، والثقة عملية تبادلية متوازنة، غير أنها تنمو عند جيل نشأ على حالة من التبجيل الكبير حدَّ الثقة العمياء، ونتيجة تصويرها في محاضن التربية من حيث أهمية وجودها ودورها في تماسك الصف وتكامله وتكافله، بهالة كبيرة وعطاء خاطئ، فالسماع عن القيادات دون احتكاك بهم وتعامل معهم ودون شفافية كذلك نمَّى هذا الحال الخطأ، وحينما حصل احتكاك في المهجر والمنفى وانفتاح الحوار المباشر تراجعت الثقة على شكلها الهائل إلى موضع التساؤل الرشيد ، فأصبحت ثقة قرار ، وتحولت الثقة من عمى إلى إبصار واعتبار واستثمار ، ثقة حوار وأمان.
• تم عزل الجماعة عن المجتمع بعد أن كانت بيئة حاضنة لهم ومتعاطفة معهم وحامية لهم وقت المطاردات والملاحقات يفتحون لهم البيوت والمحلات، ولا يصدقون روايات الاعلام والدعاية السلبية عنهم ، وفجأت يعاديهم المجتمع ، ويقوم الصديق وزميل العمل بتحريش السلطة عليك ، والأفضع أن تقوم الشرائح المستفيدة من أعمال الجماعة الخيرية بتبني مواقف معادية، وتصديق رواية الدولة السلبية عنهم، وهذا أفقد الجماعة القدرة على استعادة المشروع .
هذه الحالة المجتمعية المنقلبة المتقلبة رصدتها الباحثة السودانية د. ليلى مهدي حال بحثها عن أوجه التشابه في موقف المجتمع المدني من الجماعة في البلدين، حيث بعد تخلي الانقاذ عن السلطة في 2019م ، تآلب المجتمع على الجماعة وحصل تحشيد كبير للمجتمع ضد تجربة الإنقاذ وكل الإسلاميين، تحشيد في كل القطاعات حتى المدارس وصغار الطلاب يرددون الشعارات ، وتساءلت هنا: هل سيكلوجية الجماهير استُخدمت في تحشيدها ضد جماعة عرفوها وجربوها، وإلى أي مدى كان هذا الاستخدام منظماً؟
• البعد السياسي الذي حفز الأزمة، فقيادة الجماعة تحتكر القرار السياسي الفعلي ، واللجنة السياسية بلا صلاحيات ودور حقيقي، عدا ما يمكن وصفه بتقديم نصائح واقتراحات، وتتمثل أزمة هذا البعد في تساؤلات ما بعد الانقلاب : هل يُحدد وجهة سياسية أم لا؟ وهل يبنى مشروع سياسي واضح أم يظل الأمر في حالة سكون خشية التداعيات السلبية رغم استثنائية الموقف؟ انقلاب عسكري وقيادات في السجون وتهجير وإصرار من الانقلاب على إنهاء الجماعة، والجماعة في حالة سكون وعدم مبادرات سوى بعض المواقف الموسمية أثناء ذكرى الثورة، أورد فعل على اعتقال وغيره لا فعل سياسي أصيل .
قد يُفترض أن هذا السلوك مقصود بمعنى هو موقف الجماعة لتسكين وتجميد الوضع الراهن لتقدير حالة الضعف، وكذا موقف إقليمي مستهدف لتحجيم الجماعة، وليس من الحكمة الظهور بمظهر التحدي فيكون الضغط أعنف والاستهداف أقوى ، فالسكون مرحلة لتعدية الأزمة، لكن الضغوط الداخلية لاتخاذ موقف سياسي وإدارة سياسية مختلفة تحقق قرارا سياسيا مبنيا على رؤى ودراسات وتخصص متزايدة.
وهذا الوضع السكوني بعد هذه الظروف العصيبة تعيشه الحركة الإسلامية السودانية كما تقول الدكتورة ليلى مهدي بعد تنحية الإنقاذ عن الحكم، فقد حصل سكون جماعي ولا زال وكأنها تعليمات من القيادة ، وهو ارتباك في التعامل مع الوضع السياسي ، هل يكون بالصبر أم بالحراك؟! وبأيٍّ ستستقيم الأوضاع وتعتدل؟ ، فكان رأي مجموعة قيادات الهدوء خشية انقسام السودان أكثر، ولكن الرضوخ الأكثر برأيها يبعث على المزيد من السوء والأسوأ ، ولازال السكون مخيما ، والشباب يتساءل لماذا السكون؟ فالوضع لا يشبه قادة التغيير .
وهنا يبرز سؤال الاختراقات: هل هناك اختراق لشل الجماعة وفعاليتها؟ بمعنى اختراق من الاستخبارات الأجنبية ومن النظام أو التنظيمات السياسية المعادية ، فانهيار الانقاذ في السودان من أسبابه الرئيسية الاختراق كما تقول د. ليلى مهدي، كما يلوح باحث مصري أن تكون عملية الاختراق هي التي عبثت ولا زالت في خصوص الأزمة بين قيادات الجماعة التي نشبت مؤخرا في الخارج، لكن الباحث المصري عمار فايد قلب السؤال بصيغة أخرى: هل جماعة الإخوان قابلة للاختراق ؟ ويجيب بالطبع نعم، فكافة التنظيمات المدنية والأحزاب قابلة للاختراق، بل التنظيمات المسلحة التي لها طابع عسكري ويتم اختراقها إلى أقصى حد، وهذا من حيث المبدأ، لكن هل الواقع الحالي نتيجة اختراق؟ ، ليس بالضرورة أن يكون كذلك ، وإنما هناك مشاكل حقيقية في التنظيم والأفكار قادرة على إفراز المشهد الذي نشاهده وحتى لو حصل اختراق فليس هو صانع الحدث، بل يستثمر و يوظف الحالة الموجودة .
ويرجع الدكتور عزام التميمي الأزمة الحاصلة أخيرا بين قيادات الجماعة إلى السرية، ليس سرية المعلومة المتعلقة بالخلاف، وإنما سرية إدارة التنظيم ،فكل التنظيمات ذات الطبيعة السرية إسلامية أو غيرها تتعرض لهذا المصير إذا لم تعالج، فالسرية في إدارة التعامل الداخلي يستظل بظلها البعض ، ويتدثر بها البعض في الأزمات، وهذا يدل على عدم الشفافية وغياب الرقابة في بعدها الذاتي والهيكلي، رغم وجود تطوير لوائحي جيدة للمحاسبة ولكنها تتعرض للتجاوز والتجاهل عند كل محنة تتعرض لها الجماعة، أو إدخال تعديلات عليها من جهات غير مخولة، أو يحصل فصل لمجموعة تنتقد وتسأل من قِبل من صفت لهم مراكز القرار ، فلا بد من تفعيل الهيئات الشورية ، ويكون من المحرمات التلاعب باللوائح التي وضعت لحماية الشورى داخل الجماعة ، فتعديل التمديد لأشخاص القيادة بالاستمرار غير مقبول، وتعزيز الرقابة الذاتية بالتقوى والمراقبة لله دورا تربويا أصيلا ملحا، وهي بالأساس جماعات تربوية ودعوية ، فضعف العامل التربوي سبب الأمراض المنتشرة ، فعندما يخشون الله أكثر من خشية العباد، ويطمعون فيما عنده أكثر مكن طمعهم في متاع زائل في الدنيا فيؤدي إلى متانة العمل الجماعي وتحصينه.
ويتساءل من سيحاسب من!! إذا كان زعيم يرى نفسه ملهما وموهوباً ، وأنه يستحق الطاعة في المنشط والمكره ، ويتصرف بالموارد المالية كما يعتقد وبنية سليمة، لكن هذه النية لا تخرجه من بشريته المعرضة للضعف والفساد والنزوات، السرية ضرورة فرضها المناخ العام الذي تحكم به الطغاة ، وليست خيارا، وتكون بالقدر المطلوب ، ولكنها تحتاج لضبط وربط داخلي لألاّ تكون غطاءً لفساد إداري ، كسوء إدارة وأداء الهمات ، واستبداد مالي ، وعدم العمل والخمول ، وغبش الرؤية والهدف ،و ترك الفعل، وفي علم السياسة أخطر قرار ألاَّ قرار، فالأمر بحاجة لإعادة لحمة الصف حتى تقوم القواعد بحماية هذا التنظيم والاستمرار في حمل الفكرة، ولا تشعر عند الأزمات بالإحباط، وتتبنى الجماعة وتبني نفسها بنفسها، فهناك كما يقول القيادي المصري ياسر عبد الرافع مجمدون ومهمشون كُثر ، فلجنة المصالحة الداخلية ولمِّ الشمل لمن حصل بحقهم إقصاء من أساتذة جامعات ومفكرين وسياسيين ، وأفضل العناصر، ومعالجة ملف الشباب بحجة هذا متهور وليس له قيمة، وبالفعل تم تشغيل هذه اللجنة وعاد ما يقرب من مأتي شخص بكل نشاط وسرور.
وما ذكره الدكتور التميمي يؤكده القيادي المصري مصطفى جاويش، فيرى أن الخلاف الذي يخرج للرأي العام يدل على وجود انسداد داخلي، ويضرب لذلك مثلاً بما حصل في تركيا بعد الانقلاب، حيث حصل تدارك مجموعة وتكوين أنفسهم تحت مسمى( لجنة إدارة الأزمة) وكانت هناك حاجات ملحة لبيانها بعد استقصاء ميداني تمثلت في أربع حاجات هي: حاجة الثقة ،حاجة الأخوة، حاجة المؤسسية ، حاجة الشورى، وانتُخبت هذه اللجنة ، ولكن حصل تداخل مع تعيينات لجان أخرى من الجهة التي كانت تدير الوضع سابقا ، فحصل عدم وضوح في التكليفات والمهام، وضبابية وبالذات بعد أن طلع ما يسمى بمكتب المصريين في الخارج وهناك حصلت المناوشات بين د. محمود حسين ، والأستاذ إبراهيم منير.
ويذهب القيادي السوري زهير سالم، إلى أن هذه الأزمة عبارة عن تراكم لأزمات متكدسة تحتاج لإصلاح ومراجعة وتجديد، تجديد على مستوى الخطاب والأهداف والتأسيسات، فإدراك جذور الأزمة وإزالة ظواهرها وتجلياتها أمراً مهماً ، ومن مقترحاته تعميم النظام الداخلي على قواعد وأعضاء الجماعة، والمجتمع، ليفهموه ويتفهموه، في صلاحيات الدوائر والمهام والاختصاصات، فهو نظام تضاهي به الأحزاب والتكتلات ، فيعرف الناس هذا الإرث النظامي وما يحتاج من تطوير تقوم به.
• البعد الاداري : وهو منصبٌّ على البنية الداخلية ، كيف تُختار القيادة ، وكيف تُحاسب ، وما دور مجالس الشورى في الرقابة وفي تحديد توجهات الجماعة الاستراتيجية ، ومحاسبة القيادات ، ومراجعة دور الشباب ودور المرأة باعتبارهم شريحة مهمة داخل الجماعة ، وهذه الدعاوى اصطدمت بثقافة القيادة المتأصلة فيها على أن العلاقة بين القيادة والأعضاء قائمة على ثقافة الاحترام الكبير وأخلاقيات السمع والطاعة وقدرتها على توجيه الجماعة ، وضعف مؤهلات الأعضاء في البت في شؤون الجماعة الرئيسية ، بل من القيادة من يتعامل مع الجماعة وأعضائها من منطق أبوي قادر على تحديد المصلحة وما هو صحيح من عدمه، وهذه الثقافة المتراكمة إضافة لكونها مغلقة نتج عنها حاجز رئيس بين الرأس والجسم .وفي هذا يقول الدكتور عزام التميمي أن أحد أسباب الأزمة في كثير من التنظيمات هي عدم وجود سن التقاعد ، ويروي عن بعض المؤرخين قولهم: أن كبر سن الخليفة الراشد عثمان رضي الله حال بينه وبين القدرة على الإحاطة بكثير من الأمور حوله، ويضيف السياسي السوداني غازي صلاح الدين في ندوة تحولات الحركات الإسلامية في مركز الجزيرة أبريل 2016م في تعقيباته في الندوة، حول طول المكث في الحكم سواء السياسي أو التنظيمي بقوله: أن الإمام الشعبي قال :” ما قتل عمر إلا وقد استطالت قريش خلافته” ويسنده قول عمر نفسه :” اللهم ضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فخذني إليك غير مضيع ولا مفرط. فعلى الجماعة أن تطور فكرة التقاعد، فالشخص في كبره لا يتحمل نقدا ، وسمعه متأثر ومزاجه متعكر، وهذه سنة الله في خلقه، فلا بد من الإقرار بها، ويكونوا خبراء ويتفرغوا لكتابة الذكريات والسيرة ، وقد كان المرشد مهدي عاكف وضع سنة في هذا الأمر تكون فريضة على الجميع.
اللافتة الأساسية في هذا الخلاف هي اللافتة الإدارية لحصول قناعة بإمكانية إحداث تغيير في موقف الجماعة السياسي ، وليس من الممكن إجراء إصلاحات داخلية حقيقي إلا إذا حصل تغيير إداري ، ومحاولات التغيير دوما تصطدم برفض القيادة وإجهاضها ، لكن يحاول القائم بمنصب المرشد القيام ببعض التغييرات كما يرصد المتابعون وهو ما سيلقى دعما كبيرا من شريحة كبيرة من الأعضاء فكثيرون متحدون على أولوية التغيير الإداري والإصلاحات الداخلية وليسوا بالضرورة متفقين على الوجهة السياسية فيما بعد، فنجاح التغيير الإداري سيسهم في إعادة وضع الجماعة الداخلي وإدارة الحوار الداخلي وتبني رؤية سياسية أكثر إقناعا تجنبا لمزيد الانقسام.
لذا فمستقبل الخلاف سيتحدد لمن سيجيب عن التساؤلات إجابة صحيحة قادرة على إعادة الفاعلية للجماعة في أغلب المستويات ومواجهة التحديات وتوسيع قاعدة اتخاذ القرار والاستعانة بالكفاءات والخبرات المتعددة واحتواء شباب الجماعة ورموزهم العازفون عن العمل في السنوات الماضية .
(2)
سؤال التنـــظيم، النمـــط الأثــــر (7)
يظن بعض الباحثين أن نمط البيئة التنظيمية لها أثر في اتخاذ القرار وهو دور تسلسلي منطقي بناءً على طريقة التعامل مع ثورة 25 يناير بطئًا وخطأً ، حضوراً وفهماً ، فرصد المشهد أليق بالتقييم من النظر في اللوائح والقوانين وتمدد الوحدات الإدارية واتساع المقرات والاقسام الفنية التي لا تعكس قوة الجماعة حقيقة كليا فالقوة والضعف نسبية، فتقييم المؤسسات يكون في أفكارها وسلوك أشخاصها وجهات صنع القرار.
ففي جماعة الاخوان مؤسستان:( مجلس الشورى – مكتب الارشاد) تطورها اللاَّئحي والقانوني بلغ أربعة عشر أو خمسة عشر تغييرا .
من 1928-1935م كانت الجماعة عبارة عن جمعية تستوعب أعدادا من فئات مختلفة من الشعب وتطورَ تنظيمها بحسب تزايد الأعداد عليها ، وقد حصل تنظيم لائحي في عام 1935 وكذا في 1942م ، وبعد اغتيال الشيخ حسن البنا رحمه الله كان أول امتحان للجماعة من الناحية التنظيمية هو،أنه جيئ بشخص من بيئة مختلفة وخلفية مختلفة عن بنية الجماعة. شخص قانوني ملتزم بنهج معين في مؤسسة قانونية هو الأستاذ حسن الهضيبي، لم يدرك فكرة الفاعلية السياسية والتعاطي مع الفواعل في المشهد الداخلي أو الخارجي، فحسن البنا أسس التنظيم الخاص للتعاطي ضد الاحتلال الانجليزي ،وفلسطين ، والهضيبي أراد حلَّه لعدم قانونيته، وحادثة مشابهة كذلك هي اشتراطه لخروج الجماعة من سجن النظام الناصري – بعد موافقة النظام بذلك – أن يكون صادراً من جهة قانونية ، ويتعاطى مع المشكلة السياسية بمنطق الدستور والقانون ،فأفقد المؤسسة الفاعلية وكانت نقطة تحول في مسيرة الجماعة.
بعد القمع الناصري وانفراج الوضع المأزوم بين النظام والجماعة بداية عهد السادات وتحديدا من 1971م وخروج القيادات تسلسلا حتى عام1975م الذي صدر فيه عفو عام، فشرعت الجماعة في إعادة تأسيس التنظيم بناءً على سمعتها وإرثها الجيد في المجتمع، فضمت الشباب والطلبة والفاعلين في الحركة الطلابية، وأول ما حصلت انتخابات في عهد مبارك ونظمت نفسها سياسيا حصلت على أصوات كثيرة.
عنّ للراصدين في هذه الفترة أن هناك تيارين: تيار أبو الفتوح والعريان منفتح على العمل العام وله رصيد من النشاط والحركة الطلابية والنقابية والجماهيرية. وتيار القطبيين الذي سُجن في 65م منهم الأستاذ محمود عزت، وهذان التياران كانا في تقاطع صدام حول التعاطي مع الأحداث السياسية .
مجموعة محمود عزت عرفت تأسيس التنظيم واستوعبت هيكله بشكل مُستوْحاً من النظام الخاص ، فهو تنظيم قوي وصلب وله مرونة كبيرة في التعامل مع الضربات الأمنية التي كانت تستهدف أقساما محددة في الجماعة، فقسم البر في الجماعة لم يْستهدف، كونه يحل مشاكل المهمشين ويخفف العبئ عن الدولة وكذا أشخاصا معينيين لهم دور في توجيه الجماعة بشكل معين من الخارج ، فخيرت الشاطر حين خرج لمستشفى القصر العيني من السجن للعلاج وتقدم بملف الترشح في الانتخابات وهو يعتبر حبيسا، تزامن هذا مع تعديل اللائحة 2009م يسمح للأشخاص في السجن باستمرار عضويتهم في مكتب الإرشاد ، فهذا مؤشر على سلوك أمن الدولة وتعاطي التغيير اللائحي مع أن النظام استبعده من الانتخابات الرئاسية .
تحليل البنية الديمغرافية لمؤسستي مجلس الشورى ومكتب الإرشاد، فمجلس الشورى حوالي 56% من الدلتا ، و21% من القاهرة والاسكندرية ، و17% من الصعيد، ومكتب الارشاد 18% من الدهقلية ، و13% من الشرقية ، و13% من الغربية ، وهذه النسبة الممثلة من المناطق يتطلب تحليل سلوك المناطق، فكل منطقة لها سلوك ونمط مختلف عن منطقة أخرى، فمنطقة سيناء سلوكها حاد في التعاطي مع الأمن ، وسكان المدن لديهم خبرة في الانفتاح مع الجماهير والتعاطي مع التطورات السياسية بشكل أسرع، وفي الدلتا نمط الزراعة غالب والتمسك بالأرض وميل للاستقرار وعدم الدخول في مشاكل ، و الصعيد يغلب عليه سلوك الحدة في التعاطي مع النظام ، والنظام حريص على أن يكون للصعيد ممثلون داخل كل مؤسسة ليمتص مشاكل الصعيد، ففي2013م كانت مظاهرات الصعيد قوية إلى حد فقد النظام السيطرة عليها ، بينما في إقليم الدلتا الذي هو أكبر تمثيل له في الجماعة، قبل الانقلاب احترقت مقرات الجماعة فيه بشكل كبير ، ولا يُعملون فكرة المواجهة مع النظام وإن حصلت بعض الأحداث لكن هذه الصورة العامة والشاملة .
متوسط أعمار أعضاء مكتب الارشاد هي 68،2% ، و الدراسات عن الفجوة الموجودة بين الأجيال داخل الجماعة مرتكزة بشكل أساسي على كبار السن ، ولعل من أسبابه كثرة الضربات الأمنية، فوضعوا بندا في اللائحة يسمح لبعض الأعضاء في القاهرة بالاجتماع وأخذ قرارات استثنائية ، وهذا الوضع الأمني الضاغط تم الاستفادة منه بشكل خاص داخل التنظيم وجعلهم يميلون لأشخاص الثقة والأقارب ، و أصبحوا يخافون التجاوز، فاعتمدوا على الأقارب والثقات حد التجذر ، مما ولَّد فكرة التوريث ، وهذا جزء طبيعي كرد فعل على السياسة الموجودة ، فهو استثناء وليس أصلا ، وبالتالي ينبغي المراجعة في أوقات الانفتاح والانفراج والاقتدار التفاعلي الطبيعي، للتحول عن هذا الاستثناء إلى الأصل ، ولهذا مع الانفتاح بعد الثورة ظل نفس النهج ، فولَّد مشكلة في التعاطي مع هذا الانفتاح ، فالأمر يحتاج إلى وقت لكسر هذا النمط، فتعاقب الأجيال مهم ضبطه و تنظيمه وتجديده ، وهذه معضلة في أغلب الحركات الإسلامية، ورحم الله الدكتور حسن الترابي فقد كان يسخر – كما يقول باحث سوداني- من قيادات الأحزاب التقليدية لجلوسهم في القيادة حتى الموت، وهو ما انطبق عليه كما انطبق على الكثير، بينما لو حصل تغيير كل عقد من الزمن سيكون الوضع مغايرا لهذا الركود والتذمر، فهذه قضية مهمة تحتاج إلى انتباه وتنبيه . مع أن د. ليلي مهدي وهي ترصد أوجه التشابه بين الحركة السودانية والحركة المصرية تقول: أن التدافع الداخلي و الانصدام مع القيادة وأبعاده في السنين الخمس الأخيرة من عمر الإنقاذ ، تم إبعاد القيادة من داخل الانقاذ بحجة تغيير الكبار ليتصدر الشباب، فأُبعد ما يقرب من عشرة قيادي، وهو برأيها قاصمة لظهر الانقاذ؛ لأن القيادات الشابة ما كانت جاهزة ومستعدة لمسك زمام الأمر كما كانت تفهمه القيادات الكبيرة. فالأمر بين حدي شفرة الموس ، ويحتاج لحصافة وتدريب تدريجي وتطعيم الإدارات بالشباب بهدوء يحافظ على التماسك القيادي والنجاح الإداري ويحقق التطلعات ويمتص فوران الشباب واندفاعهم.
السمات المشتركة لحزب الوسط ، وتيار مصر بعد الثورة ، وحزب مصر القوية ، كانت مبنية بشكل قوي على شباب وطلاب ممن خرجوا من الاخوان وغيرهم . فائتلاف شباب الثورة وحزب مصر القوية هم شباب ممن عاصر الحركة الطلابية من 2003م 2010 -م ، وأغلب القيادات في الأحزاب الشبابية كانت قيادات ومسؤولين في العمل الطلابي داخل الجامعات كعصام سلطان وأبي العلا ماضي وغيرهما .
أثر هذه النمطية على حدث كالثورة التي هي نمط سريع جدا من التقلبات، وبمشاركة جماعة الإخوان ازداد زخمها وسرعة وتيرتها، ولكن قيادة وإدارة الجماعة لازالت خارجة من السجن ، فتبنت سياسة إطفاء الحرائق وتفاعلت مع الحدث بخوف من الاندماج المحتمل ارتداده عليها بتبعات ، فحاولوا سلوك أَءْمن الطرق وأكثرها شرعية وقانونية في التعامل مع الثورة ، وهذا نمط يعود لفكرة حسن هضيبي الذي رسخ لفكرة عدم المواجهة مع النظام وعدم التفاعل مع النظام ، وتبني أساليب فيها نوع من التوازن وعدم المواجهة ، في حين الثورة نجحت بالمواجهة للنظام، فالشباب نزلوا وكسروا هيبة الدولة فنزلت الجماهير وكسرت رأس النظام .
الجماعة كانت تظن أن الثورة مظاهرة كسابقتها من المظاهرات ، لم يستوعبوا أن نظاما مهدد بالوقوع أو يأتي نظام ثانٍ، فتبنت الحفاظ على التنظيم كفلسفة أساسية في اتخاذ القرار.
والملاحظ أن أغلب شباب الإخوان المشاركين في بدايات مظاهرات 2011م نزلوا دون انتطارٍ لقرار الجماعة بالمشاركة ، ولم يكن هناك قرار رسمي بالمشاركة بسبب ضغط الأمن ، ولم يُعطوا مساحة للشورى بالشكل الصحيح والمناسب ، فاتخاذ القرار مبنيا دائما على دائرة مقفلة وضيقة. ففكرة المبادرة عند الشباب قوية في أي حدث ولازم ينجح ، وكان لهم الدور الكبير في نجاح ثورة 25 يناير .
في أثناء الثورة بدأت الجماعة تشعر بالانفتاح وتوسع الاجتماع واتخاذ القرار، وهذا بيِّن عليها بعد 18 يوم تم التواصل مع عمر سليمان لاتفاق ضمني في أمر الرئاسة وهذا ما جعل مبارك يرجع إلى الوراء وتتقدم المؤسسة العسكرية .
بعض فض رابعة في 2013م حصلت ضربة موجعة لهيكل الجماعة نتج عنه شلل في التعاطي مع الأحداث ، لكن الحركة الطلابية في خلال أسبوع عرفت تنظم نفسها وتقود المشهد على الأرض وهذا سببه الفاعلية بشكل أسرع وتبني أدوات مختلفة في التعاطي مع النظام والسياسات وإن كان الأمر مجرد رد فعل لنتاج سياسات الجماعة في تعاملها سابقا مع الأحداث . وهذا يعطي مؤشرا أن اختلاف الأجيال تختلف من حيث الأفكار وقدرة التعاطي والفاعلية مع الحدث ، خصوصا وأن متوسط أعمار أعضاء مكتب الارشاد 68,2%.
في أحداث محمد محمود وقرار المشاركة في الرئاسة كان هدفه تأمين الجماعة في المسار القانوني للتحول الديمقراطي ، وطالما هم أحلوا مجلس الشعب فقرروا يعوضوه من السلطة التنفيذية ، مع أنه كان هناك فرصة متاحة لإعادة مجلس الشعب من خلال الاستعانة بالجهة التنفيذية مع حضور شعبي وفرض الأمر على المحكمة الدستورية ، ولم يحصل شيئ من ذلك ، وكان الاتفاق مع الكيانات المختلفة أنهم سيُدخلون أعضاء مكتب الإرشاد رغما عن أنف المجلس العسكري ، ولكن الجماعة رضخت للمحكمة الدستورية وتعاطوا مع الأحداث دون رد فعل ومشاكل مع القضاء ، مع أن المجال العام والبيئة كان يسمح بالمقاومة .
يتبع…
الهوامش:
- ينظر: البرمجة القرآنية للعقل المسلم محمد محمد منير ص163.
- ينظر: إشكالية التنمية ووسائل النهوض رؤية في الإصلاح، نخبة من الباحثين منهم عمر عبيد حسنة ص712.
- سنن أبي رقم4291
- ورقة قدمها الباحث عمار فايد بعنوان ” تقييم الأزمة التنظيمية داخل الإخوان، وتم الاستفادة مما قدمه الباحث إضافة لمواد أخرى مثل حوارات لندن برنامج مقدم على قناة الحوار، وكذلك ندوة التحولات في الحركة الإسلامية المقام في مركز الجزيرة في قطر أبريل 2016م، وغيرها من الفعاليات، ولذلك لم تدخل ورقة الباحث على تسلسلها كما تم تقديمها في الندوة وإنما تخللها بيان ونقل بحسب ما ارتأيناه في هذا التلخيص
- هناك دراسة جيدة للباحث أحمد تهامي عبدالحي بعنوان الحراك الجيلي في سياق الانتقال الديمقراطي نشرت في مجلة سياسات عربية عدد7.
- الثقة موضوع مهم ولذلك قام باحث يمني هو الدكتور طارق مريش ببحث هذا المفهوم في الفكر الإسلامية دراسة نظرية تطبيقية أبان فيها كثيرا من المحددات والمعايير الضابطة لها من الانجراف والاستعمال السيء، وهو على وشك الطبع إن شاء الله.
- ورقة قدمها الباحث رشاد إبراهيم بعنوان ” نمط البيئة التنظيمية وأثره على اتخاذ القرار ، وتم الاستفادة مما قدمه الباحث إضافة لمواد أخرى مثل حوارات لندن برنامج مقدم على قناة الحوار، وكذلك ندوة التحولات في الحركة الإسلامية المقام في مركز الجزيرة في قطر أبريل 2016م، وغيرها من الفعاليات.