تحتلُّ قصَّة “ذو القرنين” مكانة عظيمة في سورة الكهف، والتي تحتلُّ بدورها مكانة عظيمة في القرآن الكريم، حتَّى أنَّه شُرِع قراءتُها كلَّ يوم جمعة مِن الأسبوع. وهذا يعني أنَّ العقل المسلم سيظلُّ عبر الزمن باحثًا عن الأسئلة التي ستُثار في ذهنه حول قصص هذه السورة، أشخاصها ومواقعها وأحداثها وعبرها ودروسها، إذ المسلم مدعوٌّ للتدبُّر والتفكُّر والنظر. وحيث إنَّ قصص القرآن الكريم قصص حقيقي، غير خيالي، فإنَّ أشخاص وأحداث قصَّة “ذو القرنين” لا بدَّ وأن ترتبط بمملكة عظيمة ذات أثر وحضور واسع، يمتدُّ إلى زمن خروج يأجوج ومأجوج، إذ أنَّ العلوم والأسباب التي امتلكتها تلك الدولة جعلت مِن آثارها شواهد خالدة على عظم الفعال والعمران. ولعلَّنا نكشف بعضًا مِن غوامض هذه القصَّة التي أبهمت أسماء شخوصها ومواقعها دون ملامحها وعلاماتها، مِن خلال التأمُّل والتحليل والربط والاستنتاج.
في هذا المقال سوف نتناول إحدى العبارات المبهمة في القصَّة بالتحليل والربط والاستنتاج، وهي قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَّمسِ وَجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ ووَجَدَ عِندَهَا قَومًا قُلنَا يَا ذَا القَرنَينِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسنًا))، الكهف: 86.
لماذا عين؟ ولماذا حمئة؟!
ابتداء ينبغي تصوُّر المشهد الذي وصل إليه “ذو القرنين” وجيشه، وهو يقود حركة الفتوحات مِن مملكته باتِّجاه الغرب. حيث سار في أقصى مدى لحركته هو، إلى أن وصل أفقًا تغرب فيه الشمس في “عين حمئة”، ومعنى “في” هنا أي عندها، لا أنَّها تغيب داخلها، كما هو قول جميع المفسِّرين، إذ لا يستقيم حسًّا ولا عُرفًا ولا عقلًا أن تغيب الشمس في عين بالأرض.
وكلمة “عين” هنا لا تعني “النبع” المعروف في العادة، إذ لا يمكن أن يكون هذا هو المشهد المقصود، لذا اتَّفق أهل التفسير على أنَّ المقصود بعين هنا بحر. يقول الإمام الرازي -رحمه الله، في تفسيره: “إنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء مِن العمارات، وجد الشمس كأنَّها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيب في البحر إذا لم ير الشطَّ، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبَّائي في تفسيره”، ثمَّ قال: “إنَّ للجانب الغربي مِن الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالناظر إلى الشمس يتخيَّل كأنَّها تغيب في تلك البحار، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قوية السخونة، فهي حامية، وهي أيضًا حمئة لكثرة ما فيها مِن الحمأة السوداء والماء، فقوله: ((تغرُب في عين حَمِئة)) إشارة إلى أنَّ الجانب الغربي مِن الأرض قد أحاط به البحر، وهو موضع شديد السخونة”. وقال ابن كثير -رحمه الله، في تفسيره: “وقوله: ((حتَّى إذا بلغَ مغرِبَ الشَّمس))، أي: فسلك طريقًا حتَّى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه مِن الأرض مِن ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض. وأمَّا الوصول إلى مغرب الشمس مِن السماء فمتعذَّر، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار مِن أنَّه سار في الأرض مدَّة والشمس تغرب مِن ورائه فشيء لا حقيقة له، وأكثر ذلك مِن خرافات أهل الكتاب، واختلاق زنادقتهم وكذبهم. وقوله: ((وجدها تغرب في عين حمِئة)) أي: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كلُّ مَن انتهى إلى ساحله، يراها كأنَّها تغرب فيه”.
إذن المقصود بالعين هنا البحر.
وبالطبع، فإنَّ ملك “ذو القرنين” كان في العالم القديم، أي في إحدى القارَّات الثلاث، آسيا أو أفريقيا أو أوربَّا، أو في منطقة بينها. وتعيين الغرب والشرق إنَّما هو أمر نسبي، بحسب موقع الإنسان في ذلك العالم القديم، فمغرب الشمس بالنسبة له ومطلعها يختلف باختلاف الموقع الجغرافي وحركة الإنسان فيه. وأقصى ما يمكن أن يصله حاكم في أرض ما جهة الغرب قد يكون أقصى ما يكون شرقًا لحاكم آخر. ولهذا لـمَّا أخبر رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن ملك أمَّته، أشار إلى أنَّ مقدار ما سيبلغه ملك أمَّته بمقدار ما زوي له مِنها: (إنَّ اللهَ زوَى لي الأرضَ، فرأَيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سيبلغُ مُلكُها ما زوَى لي مِنها)(1).
ومعنى ((حَمِئة)) بحسب أقوال المفسِّرين إمَّا حارَّة ساخنة، وإمَّا سوداء داكنة. ومِن المعلوم بالإدراك الحسِّي أنَّه لا توجد بحار حارَّة ساخنة بهذا المعنى، ذلك أنَّ ارتفاع درجة حرارة البحار يعني هلاك كثير مِن الكائنات البحرية، وإن تأثَّر سطحها بحرارة الشمس صيفًا، إلَّا أنَّها سمة للبحار عمومًا، إذ تعمل الشمس على تسخين سطح مياه البحار والمحيطات. وبالتالي، لم يبق إلَّا أنَّ المعنى هو الظلمة أو دكانة لون البحر.
وتشير تفسيرات عدَّة بأنَّ وصف “البحر الأسود” بهذا الاسم يعود إلى اللون الداكن لمياهه أو لظروفه المناخية التي تسودها الغيوم الداكنة والتي ينعكس أثرها على لون البحر. ويُقال إنَّ الأتراك هم مَن أطلقوا عليه هذه التسمية. وأُطلق عليه عند البلغار والرومانيين اسم “البحر الكئيب” أو “البحر المظلم”.
وتشير الوثائق التاريخية، وفقًا لما ذكره موقع “Marine Insight”، المتخصِّص بالبحار والملاحة فيها، إلى أنَّه أطلق على البحر الأسود، خلال فترة الإمبراطورية العثمانية، أسماء مثل بحر “سِياه-Siyah” أو “كارادينيز-Karadeniz”، والاثنتان تعنيان “الأسود” باللغة التركية العثمانية. أمَّا سبب إطلاق الأتراك هذا الاسم عليه، فتشير إحدى الفرضيَّات إلى أنَّ البحر يتعرَّض لكثير مِن العواصف خلال الشتاء، ما يجعل السحب الكبيرة فوقه تحجب أشعَّة الشمس، وهو ما يجعل مياهه تبدو سوداء اللون. أمَّا التفسير الآخر المحتمل فهو أنَّ البحر الأسود أقلُّ ملوحة مِن البحار الأخرى، ما يزيد مِن تركيز الطحالب الدقيقة التي تحوِّل البحر إلى اللون الداكن. وإذا أردنا مقارنته ببحر آخر، فإنَّ متوسِّط الرؤية في البحر الأسود يبلغ نحو 5 أمتار فقط، بينما يبلغ نحو 35 مترًا في البحر الأبيض المتوسِّط، وفقًا لما ذكره موقع “New World Encyclopedia”(2).
ويؤكِّد مركز “سميثسونيان” لتدريس العلوم (SSEC)، بأنَّ السبب الأوَّل لتسمية البحر الأسود بهذا الاسم هو أنَّ لون مياهه يصبح داكنًا، يميل إلى الأسود، بسبب العواصف الشديدة في فصل الشتاء، وأنَّ السبب الثاني هو أنَّ مياهه تحتوي على كميَّات وفيرة مِن كبريتيد الهيدروجين، الذي يُغطِّي الحيوانات والنباتات الميِّتة في القاع بطبقة سوداء، ما يجعل لون البحر أسودًا (3).
أمَّا الإغريق فقد سمَّوه “بنطس آكسينوس” (Pontus Axeinus)، أي البحر “غير المضياف”، وذلك لصعوبة الملاحة فيه، وربَّما ساعد في ذلك وجود قبائل “متوحِّشة” على شواطئه(4). وهو الأمر ذاته الوراد في موسوعة “سترابو” الجغرافية، مِن أنَّ البحر الأسود كان يُطلق عليه “البحر غير المضياف”، نظرًا إلى صعوبة الملاحة فيه وطبيعة السكَّان البرابرة العدائيين الذين كانوا يستوطنون حوله.
إذن، فإنَّ أقصى ما وصل إليه “ذو القرنين” في فتوحاته هي منطقة مطلَّة على البحر الأسود، حيث الارتباط بأوربَّا غربًا، ولتأمين جناب مملكته مِن البرابرة الذين يعيشون غربيَّها. وهذا ما يفسِّر قوله تعالى له: ((قُلنَا يَا ذَا القَرنَينِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسنًا))، الكهف: 86. وهذا خلاف برابرة وهمج الشرق الذين سيواجههم بإتمام بناء الثغرة بين السدَّين.
فعين حمئة تعني بحر مظلم، أو بحر داكن، وفي كلا الحالتين يتطابق الوصفان مع حقيقة البحر الأسود، فهو مظلم مِن جهة أنَّه غالب الشهور يشهد سحبًا وغيومًا ركامية، تحجب ضوء الشمس عنه، وهو داكن مِن جهة طبيعة اللون الذي يكتسبه نتيجة الطحالب والرواسب فيه.
وهذا يجعلنا نميل إلى أنَّ ذو القرنين هو “كورش الأكبر” أو “قورش الأكبر” مؤسِّس الإمبراطورية الإخمينية، إذ بلغت فتوحاته أجزاء واسعة مِن العالم القديم، انطلاقًا مِن أرض فارس، وهو ما يعني أنَّ حركته شرقًا وغربًا كانت محكومة بوسطية فارس كمنطلق لحركته. والإمبراطورية الإخمينية إمبراطورية عظيمة، تأسَّست على التوحيد والعدل، والنظام والعمران، وآثارها لا تزال خالدة حتَّى اليوم، ما يشير إلى أثر سياسة الأخذ بالأسباب والعلوم التي اعتمدها “كورش الأكبر” في مملكته. كما أنَّ تاريخ “كورش الأكبر” مرتبط بإنقاذ يهود مِن الإمبراطورية البابلية التي اعتدت عليهم واستباحت مقدَّساتهم، فكان مِن الطبيعي جدًّا أن يسأل اليهود بالمدينة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن هذا الملك الذي أسهم في تحريرهم وإنقاذهم قبل مجيء المسيح -عليه السلام، بقرابة (530) عامًا تقريبًا. وإلَّا فإنَّ سؤال يهود عن ملك لا وجود له في ثقافتهم، ولا في وجدانهم، ولا في وعيهم الجمعي، غير ذي معنى وفائدة.
وقد أشارت إليه التوراة في عدَّة مواطن، مِنها: “هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ، الَّذِي أَمسَكتُ بِيَمِينِهِ، لأَدُوسَ أَمَامَهُ أُمَمًا، وَأَحقَاءَ مُلُوكٍ أَحُلُّ، لأَفتَحَ أَمَامَهُ المِصرَاعَينِ، وَالأَبوَابُ لاَ تُغلَقُ”، “أَنَا أَسِيرُ قُدَّامَكَ والهِضَابَ أُمَهِّدُ، أُكَسِّرُ مِصْرَاعَيِ النُّحَاسِ، وَمَغَالِيقَ الحَدِيدِ أَقصِفُ”، “وأُعطِيكَ ذَخَائِرَ الظُّلمَةِ وَكُنُوزَ المخَابِئِ، لِكَي تَعرِفَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي يَدعُوكَ بِاسمِكَ، إِلهُ إِسرَائِيلَ” (5).
لقد كان لفتوحات “كورش الأكبر” شرقًا أثر في تحرير اليهود وعودتهم إلى فلسطين، حيث أصبحت بلاد الأناضول والعراق والشام ومصر، وما حول هذه البلدان، خاضعة لحكم الإمبراطورية الإخمينية، وأمن أهل الأديان على أنفسهم في ظلِّها، ولهذا يمتدح اليهود الملك “كورش الأكبر”.(6)
الهوامش:
- صحيح مسلم، رقم: 2889؛ وسنن أبي داود، رقم: 4252؛ وسنن الترمذي، رقم: 2176، باختلاف يسير.
- إسطنبول وسوتشي وأوديسا أبرز المُدن المطلة عليه.. “البحر الأسود” وسبب تسميته، نوّار كتاو، عربي بوست، في: 8/7/2022م، متوفر على الرابط التالي: https://2u.pw/2qjBW
- سبب تسمية البحر الأسود.. السر في قاع المياه، آية الله الجافي، صحيفة الوطن، في: 3/3/2024م، متوفر على الرابط التالي: https://2u.pw/ovt5T
- البحر الأسود، الجزيرة نت، في: 13/8/2023م، متوفر على الرابط التالي: https://2u.pw/ddqjX
- العهد القديم، أشعيا (45: 1- 3).
- يرجع في هذا الشأن إلى ما كتبه العالم الهندي، أبو الكلام آزاد، عن “شخصية ذي القرنين المذكورة في القرآن”، منشورات دار البصري، بغداد- العراق؛ وأصله حاشية طويلة كتبها أبو الكلام آزاد في كتابه “ترجمان القرآن”، عند تفسير قوله تعالى: ((وَيَسأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرنَينِ)) وقد أفردت بالترجمة. وقام بنشرها د. عبدالمنعم النمر في ملاحق رسالته للدكتوراه، والتي كان عنوانها: “مولانا أبو الكلام آزاد حياته وجهاده الديني والوطني في سبيل تحرير الهند”، والمقدَّمة لقسم التاريخ بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر. متوفر على الرابط التالي: https://archive.org/details/20200916_20200916_0420