في المباحث السابقة تحدثنا عن مفهوم الإمامة في تراث زيدية الديلم، كما تحدثنا عن نظرة زيدية الديلم إلى الصحابة، وميزنا بين ثلاثة اتجاهات مختلفة. وفي هذا الجزء من البحث نتحدث عن مكانة أهل البيت في تراث زيدية الديلم، ثم أهل السنة، ثم الأمة بين الكفر والفسق والإيمان.
أولاً: مكانة أهل البيت:
لأهل البيت عند الشيعة الزيدية مكانة دينية وعلمية تجعلهم يتفردون عن سائر البشر. والمقصود بأهل البيت عندهم: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما. ومن أمثلة معالم هذه المكانة، كما نجدها عند زيدية الديلم:
(المكانة الدينية):
إضافة إلى ما ذكرناه من قبل، أن إمامة المسلمين فريضة دينية، لا يستحقها إلا علي والحسن والحسين وذريتهما، وما يروونه من نصوص وفضائل لهما في ذلك، فإن كتب زيدية الديلم، ولا سيما الأمالي للمؤيد، وأمالي أبي طالب، وأمالي الشجري، وغيرها من كتب، مليئة بأحاديث الفضائل والمناقب لأهل البيت، وإغفال كامل لأي فضائل أخرى في بقية الصحابة. فكأنهم لا يرون أن ثمة مستحقا للفضيلة النبوية إلا أهل البيت.
كما أن علي بن مهدي الطبري (360 هـ) خصص كتابه “نزهة الأبصار ومحاسن الآثار” للحديث عن فضائل علي، وإيراد مختلف رواياته وأقواله وخطبه ومواعظه وحكمه ومراسلاته وتوجيهاته، وبذلك يعد سابقا لنهج البلاغة الذي ألفه الشريف الرضي (ت 406 هـ)، وكان كتاب الطبري من أهم ما اعتمدت عليه عامة زيدية الديلم في أماليهم ورواياتهم المنسوبة لعلي.
وقد بينا من قبل أن تلك المكانة التي قرروها لعلي والحسن والحسين جعلت الشيعة الزيدية تقول بعصمتهم، بل إن بعض الشيعة الزيدية ذهبوا إلى القول بعصمة الأئمة من ذريتهم، كما أوضحنا ذلك من قبل. كما ذهبت الزيدية إلى جعل كلام علي حجة في الدين، وعقد البستي فصلا بعنوان(1): (أن يصير قوله في الدّين حجّة، ويصير للشّريعة قبلة)، ويقول فيه: (إذا اجتهد أمير المؤمنين عليه السّلام في الدين، لم يسوغ خلافه، و كان ذلك حجّة).. (العترة مجمعة أنه في الدين كله حجة).
ومن أشهر الكتب التي ألفت في هذا السياق، كتاب الحاكم الحسكاني (481هـ): “شواهد التنزيل لقواعد التفضيل”، وجمع فيه أكثر من (1100) رواية، وكان غرضه من تأليفه: (تكذيب من ادعى أنه لم ينزل فيهم شيء من القرآن)(2). وابتدأ بسورة الفاتحة فذكر ما نزل فيهم منها، ثم البقرة، وهكذا حتى سورة الكوثر. وهو يذكر الروايات دون شرح أو تعليق، بل يكتفي بالمتن والسند. وقد جاء من بعده المحسن بن محمد الحاكم الجشمي (ت494 هـ)، وهو ليس بشيعي، ولكنه من شيعة المعتزلة، فألف كتابه: “تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين”، جمع فيه الآيات التي نزلت في أهل البيت على السور، وهو يورد الرواية ثم يعقب بعدها بالشرح، وأحيانا يذكر الخلاف. والناظر في مقدمة كتابه وفي تعليقاته يجزم بأنه شيعي زيدي، يجري مجراهم في القول بالنص على علي بالإمامة، (مرة تصريحا ومرة تلويحا، وتارة بالإشارة، وأخرى بالعبارة، ينص عليه ويأمر بالتمسك به والرجوع إليه…)(3) . وقال بعصمة علي(4). وليس غرضنا تتبع ذلك، بل بيان أن شيعة المعتزلة يتماهون أحيانا مع الشيعة تماما.
وتترتب على تلك المكانة الدينية وجوب محبة الناس لهم، واتباعهم، ونصرة أئمتهم، وحرمة مخالفتهم، وأن عداوتهم هي عداوة لله، ومحبتهم محبة لله، فمثلا يروي المؤيد الهاروني في أماليه مجموعة من أحاديث الفضائل، منها حديث فيه(5): (وأنت الوصي، وأنت الولي، وأنت الوزير، عدوي عدوك، وعدوي عدو الله، ووليي وليك، ووليي ولي الله).
بل إن لزيارات قبور أئمتهم أجرا عظيما، ولقد ألف محمد بن علي أبو عبدالله العلوي الكوفي (٤٤٥ هـ) كتابا في فضل زيارة الحسين، وأورد فيه نحو 100 أثر، كما أورد فيه آثارا عن فضل زيارة شهداء آل محمد(6)، ومنها أن زيارتهم تعدل عمرة، ومن زارهم فكأنما زار النبي نفسه، وأن الملائكة تستغفر للزائر إلى يوم القيامة…إلخ.
وقد جعل المؤيد الهاروني في كتابه إثبات نبوة النبي، أن مما يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم إن الله اختصه بفضائل عظيمة، ومنها: تخصيص الله له بالعترة (الذرية الزاكية، والسلالة الطاهرة)(7)، ويفضل أولاد الحسن والحسين على من سواهم من القرابة وغيرهم من قريش وسائر القبائل، وبذلك يجعله دليلا على إكرام الله لنبيه: (جعل [الله] في ذريته من الفضل ما لم يجعله في سائر القبائل، مع كثرة عددها، وقلة عدد هؤلاء)(8) …
(المكانة العلمية):
يتفق زيدية الديلم على أن إجماع أهل البيت حجة(9)، والقول بحجية الإجماع هو مكانة دينية قبل أن يكون مكانة علمية؛ لأنه مبني على القول بالعصمة وعدم الخطأ. ولقد أفرد أبو طالب الهاروني كتابا مستقلا لهذه المسألة، وسماه: (مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة)، واحتج بمجموعة من النصوص، ويقول عنهم(10): (لا يجتمعون على باطل، وما أجمعوا عليه يجب أن يكون حقا لا يجوز مخالفته)، وذلك يشمل عليا والحسنين وكذلك (وإجماع من بعدهم ممن يلحقه هذا الاسم، من أولادهم وأولاد أولادهم حجة أيضا)(11). و(حكم التمسك بالعترة يجري مجرى حكم التمسك بالكتاب، فإذا كان التمسك به واجبا لكونه حجة لا يجوز مخالفتها، فكذلك التمسك بقول جماعتهم)(12).
ويبين أن إجماع الأمة لا يطلق إلا إذا كان من ضمنهم إجماع أهل البيت، ومن ثم فالإجماع المعتبر حقيقة إنما هو إجماع أهل البيت، ولو أن الأمة خالفت إجماع أهل البيت فالحجة إنما هو إجماع أهل البيت دون إجماع الأمة(13). ومما يستدل به على حجية إجماع أهل البيت دون غيرهم أن “أهل البيت مجمعون على أن إجماعهم حجة”(14).
ويحصر الاعتبار لإجماع الأمة فقط في الصدر الأول؛ لأن “العترة إذا كانوا أطفالا لا قول لهم، كان الاعتبار في باب الحجة بقول سائر الأمة”(15). ويرى أنه لو وجد عصر وليس فيه من أهل البيت إلا عالم واحد، فخالف إجماع الأمة؛ فقوله هو الحجة؛ لأنه بمثابة الإجماع (يكون قوله حجة؛ لأن الباقين من أهل البيت يكونون راضين بقوله، فيؤول الحال فيه إلى أنه قول جماعة أهل البيت)(16).
ولا شك أن هذا مخالف لما قرره جمهور علماء الأصول من أن الحجة في الإجماع إنما يكون لإجماع الأمة، أما الإجماعات الخاصة، كإجماع أهل المدينة، أو إجماع الشيخين، أو إجماع الكوفة، أو إجماع أهل البيت، فالجمهور على عدم حجيتها؛ لأنه في حال مخالفة غيرهم فإن هذا ينقض أصل الإجماع، وبذلك لا يسمى إجماعا.
ولتلك المكانة العلمية، يقرر أبو طالب أيضا أن الرواية عن عالم أهل البيت هي الأولى؛ (لأن مأخذ الشريعة منهم أولى)(17).
ومع ذلك فلم أجد في تراث زيدية الديلم ذلك النفس الحاد الموجود لدى الهادي وغيره من زيدية اليمن(18)، في أن أهل البيت لا يتعلمون من غيرهم، وأن علم أهل البيت لا يخالف وحي الله، وأن ما لم يروه أهل البيت عن النبي فليس بشيء.
ثانياً: أهل السنة وعلماؤهم:
ثمة صورتان لعلماء أهل السنة، نلتمسها لدى زيدية الديلم، الأولى: الصورة الشيعية السائدة من قبل، وهي النظر بازدراء إلى علماء أهل السنة، وهي الغالبة. والثانية: صورة نادرة بدأت تظهر لدى زيدية الديلم، ولم تظهر من قبل لدى شيعة اليمن، وتتمثل في احترام النتاج العلمي لعلماء أهل السنة.
الصورة الأولى: ازدراء علم أهل السنة
أما الأولى، فلن أدلل عليها كثيرا، وأكتفي بالإحالة إلى بعض مظانها:
– تسمية علماء أهل السنة بـ”العامة”(19)، ونبزهم بـ”الحشوية”(20)، والمجبرة والمشبهة(21)، ووصفهم بالضلال والجهل(22).
– التهوين مما قاله علماء السنة، وإظهار أقوالهم على أنها بعيدة من العلم(23).
– الطعن في روايات أهل الحديث، بما فيها البخاري ومسلم، واتهامهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24)
– وصف علوم الفقهاء، كأبي حنيفة والشافعي ومالك، أنها إنما انتشرت لظهور البدع، في حين خفي علم أهل البيت(25). ويجعل سبب ذلك معاداة بني أمية ثم بني العباس لأهل البيت، ويروي أن معاوية (كَتَب إلى أهل ولايته أن اقتلوا من كان على دين علي)، ويقول: (بل المعلوم ضرورة من حال كثير من ولاة بني أمية الاشتهار بالإلحاد)(26).
أما الصورة الثانية، فنجدها تتجلى بصورة نموذجية لدى المؤيد أحمد بن الحسين الهاروني، فلا نكاد نجد في كتبه إلا إشادة بعلم أهل السنة وفقههم، كما في كتابه “إثبات نبوة النبي”، ففيه يشيد بعلم هذه الأمة وعلمائها، وأن في المسلمين ما ليس في الملل الأخرى، وهذا يمثل تأييدا من الله لرسوله بهذه الأمة، وبهذه العلوم، وأثناء ذلك يثني على أهل الحديث والقراء والفقهاء والمتكلمين(27).
كما أنه في شرح التجريد يستدل بمختلف أقوال الفقهاء ويناقشها، ويعتد بأدلتهم، ولا يكذب رواياتهم، ومثله مثل أي فقيه يدافع عن مذهبه وينصره على المذاهب الأخرى وفق منهج علمي، لا وفق التكذيب والتفسيق والازدراء. وسأتناول هذه الصورة لاحقا. ويضاف إلى ذلك كتاب المجزي في أصول الفقه لأخيه، أبي طالب، ففيه اعتداد بمختلف مذاهب المتكلمين والفقهاء.
❃❃❃
ثالثاً: الأمة بين الكفر والفسق والإيمان
من المعلوم أن مسألة الإيمان والكفر من أبرز المسائل التي امتلأ بها تراث القاسم والهادي وذريتهما في اليمن، وقد تناولت ذلك سابقا. أما زيدية الديلم فلم تكن هذه المسائل لديهم ذات أولوية.
ربما أبرز من تصدى لهذه المسائل هو الناصر الحسن الأطروش (304 هـ)، في كتابه “البساط”، فيسير فيه كسلفه القاسم والهادي في إنكار تسمية العصاة بالمؤمنين(28)، ويؤكد أن العاصي لله كافر، وأن الكفر ليس مجرد الإقرار فقط، بل يكون ممن أقر بالإيمان ولكنه ترك الطاعة: (فكل عاص لربه كافر كإبليس)(29). ومرة سمى العاصي منافقا(30): (كل مساتر بمعاصي الله أو معلن لها فهو منافق).
ويجعل الكفر ثلاث درجات: كفر الملة (المخرج من الملة)، وكفر المعصية (لا يزيل عن الملة، ولكنه يستوجب الحد)، وكفر الزجر(31). ويستشهد بآيات على أن الفاسق والظالم والمجرم والعاصي كافرون(32).
ويقرر عقيدة خلود أهل الكبائر، فيقول إن إيمان الفسقة والظالمين إنما ينفعهم في الدنيا لا الآخرة(33)؛ فيحقنون دماءهم في الدنيا، ويرثون، وتجري عليهم أحكام المسلمين. وينقل مقولة علي الشهيرة(34) بعد أن تتلبس بعقيدة المعتزلة، حين سأله رجل: يا أمير المؤمنين أرأيت قومنا أمشركون هم؟ يعني أهل القبلة ـ قال: (لا والله ما هم بمشركين، ولو كانوا مشركين ماحلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم ولا المقام بين أظهرهم، ولا جرت الحدود عليهم، ولكنهم كفروا بالنعم والأعمال غير كفر الشرك)(35)، ويعقب الأطروش بقوله: (يعني شرك العدل بالله، لا شرك الطاعة للشيطان مع الله).
ومن الواضح أن مصطلح “المنزلة بين المنزلتين” – كما هو لدى المعتزلة – لم يكن واضحا لدى الأطروش، ولذلك سمى هذه الحالة: “الكفر غير كفر الشرك”، أما مصطلح “منزلة بين المنزلتين”، فجعله لمن يجعل منزلة بين الجبر والتفويض (وفسره بالإهمال)(36).
كما ينقل الأطروش عن ثابت أبي المقدام قال(37): (أدركت أصحاب علي عليه السلام متوافرين قال: فسمى منهم رجالا كثيرا، قال: قلت لهم: أي شيء كنتم تسمون من خالفكم؟ قالوا: كنا نسميهم بالفسق والضلال والنفاق، وبالكفر غير كفر الشرك). فهذا الأثر يبين نظرة الزيدية إلى من خالف عليا من الصحابة أنهم (كفروا غير كفر الشرك)، وأنهم (فساق ضلال منافقون). ويقررون أن أصحاب الكبائر في النار، فالمحصلة إذن أن من خالف عليا من أهل النار. ولذلك تجد الزيدية يناقشون مسألة توبة من خرج على علي، كالزبير وطلحة وعائشة(38).
ومن الواضح أن زيدية الديلم – كزيدية اليمن – على عقيدة المعتزلة، ولذلك يقررون الأصول الخمسة في كتبهم، كما فعل المؤيد في التبصرة(39). ونفهم مدحهم للمعتزلة، ولا سيما أن كثيرا منهم تتلمذوا على أيديهم، فالأخوان الهارونيان تتلمذا على يد القاضي عبد الجبار الهمذاني، وعلى يد الشيخ أبي عبد الله الحسين البصري، ونجد أبا طالب يثني على عقيدة معتزلة الشيعة، فيقول(40): (ولابد للعاقل من أن يكون على مذهب يشهد له العقل والكتاب والسنة لينجوَ من تخاليط أهل الأهواء، وذلك ما ذهبت إليه شيعة المعتزلة ومعتزلة الشيعة، الذين تمسكوا بمذهب أهل البيت عليهم السلام). كما يروي أبو طالب الهاروني في الإفادة(41) أن “إبراهيم بن عبد الله (أخو النفس الزكية)، حين نزل البصرة: (بايعه بالإمامة علماءُ البصرة وفقهاؤها وزهَّادها، وبايعه المعتزلة، ولم يتأخر عن بيعته من فضلاء البصرة أحد، إلا أن المعتزلة اختصوا به مع الزيدية، ولزموا مجلسه وتولوا أعماله).
ولم يخض زيدية الديلم معارك دينية مع الإمامية، كما فعل الهادي وذريته من قبل، بل نجد مناقشتهم للإمامية مناقشة فقهية(42)، حتى في مسائل الإمامة والنص، وإن رموهم أحيانا بصفات الجهل؛ نتيجة لرفضهم إمامة زيد بن علي، وقولهم بالنص الجلي لكل إمام(43)، ولكن لم يحدث أن رموهم بالكفر أو الضلال أو غير ذلك مما ترميهم به زيدية اليمن. بل إن زيدية الديلم يعترفون بهم بوصفهم فرقة شيعية معتبرة، فيقول أبو طالب الهاروني: (علماء أهل البيت رجلان: زيدي وإمامي)(44).
وفي المقابل نجد زيدية الديلم يهاجمون الباطنية (الإسماعيلية)، ويحكمون(45). ومن المعلوم أن الباطنية كانت قد انتشرت في إيران، وكان النزاع بينهم وبين سائر الطوائف شديدا.
❃❃❃
وممن ناقش مسألة كفر أو فسق أو إيمان الفرق المخالفة، وتوسع فيها أبو القاسم إسماعيل البستي، في كتابه: ” البحث عن أدلة التكفير والتفسيق”، ويبدأه ببيان أنه كتبه لتمييز الأقوال المختلفة في مسألة (تكفير أو تفسيق المجبرة والمشبهة وأهل الأهواء)، فابتدأ ببيان مفهوم الإيمان والكفر والفسق، وبيان الخصال التي يلزم اعتقادها أو فعلها الكفر، كما يبين مفهوم المشبهة والمجبرة ويناقش بالتفصيل الأقوال التي يحكم عليهم بالكفر من خلالها، والتي لا تدخل في الكفر. ثم ناقش اعتقادات الجبر والتشبيه التي يحكم من خلالها على من يعتقدها بالفسق. ثم انتقل إلى مناقشة اعتقادات المرجئة وهل يحكم عليها بالفسق أو لا؟ كما ناقش تفسيق الخوارج بتكفيرهم علي وعثمان، وناقش مسألة تفسيق الزيدية للصحابة، كالخلفاء، وقد تناولنا نقاشه من قبل. وهو في عامة نقاشه يجنح إلى التماس التأويل للمخالف، وتجنب القول بتكفير أحد أو تفسيقه إلا بموجب واضح ودليل قاطع ونص لا يحتمل التأويل، ولذلك لا يطلق الأحكام على العموم، بل يناقش مختلف الاعتقادات التي تتبناها الفرقة، ثم يدرأ التفسيق بالمقصد، ولذلك يقول، مثلا: (وهذا الاعتقاد إن كان يقصد صاحبه كذا وكذا فلا دلالة فيه على التفسيق..).
كما ناقش البستي مسألة كفر أو فسق من خالف من الإمامية، واتجه إلى التفصيل في ذلك، فجزم بكفر مجموعة من الفرق وأنه لا يصح نسبتهم إلى التشيع، وهم: الخطابية والميمونية، والقرامطة والباطنية، وأصحاب التناسخ. (فهؤلاء، وإن أظهروا التشيع فهم كفار مكذبون بالله وبالرسل)(46) . ثم يفصل القول في بعض المسائل التي يقول بها الإمامية:
فالقول بالرجعة يطلق على نوعين: التناسخ (فالثواب والعقاب في الأجساد، وإنكار البعث والنشور)، والقول برجعة الرسول أو علي أو أحد الأئمة. فهذا النوعان كفر(47). والقول بأن الإمام يحدث في الشريعة، إن كان يقصد أنه يزيد في شرع الرسول أو ينقص، فهذا كفر؛ لأنه كمن يجعل الإمام نبيا.
وأما القول إن كل إمام له نص جلي باسمه وعينه ونسبه، فرأى خطأ هذا القول، ولا دلالة على كونه كفرا أو فسقا؛ لاعتمادهم على نصوص تروى، وإن كان يستدل به على جهلهم. وكذلك مخالفتهم في مسائل الفقه، ومن ذلك القول بالمتعة، فيقول إن هذا لا يدل على فسقهم أو كفرهم، بل يدل على خطأهم(48). كما ذهب – مخالفا عامة الزيدية – إلى أنه لا موجب للقول بفسق الإمامية أو غيرهم ممن ينكر إمامة أئمة الزيدية(49).
الهوامش:
- المراتب في فضائل أمير المؤمنين، 153.
- ج2/ 488.
- ص 29.
- ص 35، 83.
- الأمالي الصغرى، 107.
- فضل زيارة الحسين، 79 – 84.
- إثبات نبوة النبي، 312 – وما بعدها.
- إثبات نبوة النبي، 313، يقول: (فتأمل – رحمك الله – عجيب صنع الله في هذا الباب، وتنبيهه على عظيم محل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، فإنك إن قسَّمت بني هاشم أجمع – وأولادُ الحسن والحسين بطنٌ منهم، وهم آل عباس، وآل أبي طالب، من ولد عقيل وجعفر – وضممت إليهم أولاد علي عليه السلام، من غير الحسن والحسين، وهم أولاد محمد – يعني ابن الحنفية – وعمر والعباس. فهذه العترة الذين هم ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم تجد في الجميع من الفضلاء والنجباء، ما تجد في هؤلاء عليهم السلام، وإذا قارنتهم ببني أمية بأسرها، بل جميع آل عبد مناف، وهم قبيلة مثل بني هاشم في الكثرة، أو يكونون أكثر منهم، ثم قايست بين جميعهم وبين ذرية الرسول صلى الله عليه وعلى آله، فإنك لا تجد في جميعهم من الفضل ما تجد في هؤلاء.
ثم أزيدك بياناً، قس جميع قريش – وهم قبائل عدة، وبنو هاشم قبيلة من تلك القبائل، وأولاد الحسن والحسين بطن من بني هاشم – بهم، فإنك لا تجد في جميع قريش ما تجد في هؤلاء صلوات الله عليهم، فليشرح صدرك أن الله جل وعز أكرم نبيه صلى الله عليه [وآله وسلم] بأن جعل في ذريته من الفضل ما لم يجعله في سائر القبائل، مع كثرة عددها، وقلة عدد هؤلاء، ثم مع ذلك قد خصوا بحشمة في النفوس واثقة، وهيبة في الصدور راسخة، يشترك فيها أعداؤهم وأولياؤهم، لا يمكن لهم دفعها عن أنفسهم، وذلك مما لا يجوز أن يكون اتفق إلا بلطف من الله، يلطفه لهم، تعظيما لأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وتنبيهاً على عظيم محله صلى الله عليه وآله وسلم). - انظر مثلا: الحسن الأطروش، الاحتساب، 38، 55، 56. والمؤيد الهاروني في: التبصرة، 86.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، 258.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص261.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 262.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 268، يقول: (وإن كان الاعتبار في باب الحجة بإجماع أهل البيت على التحقيق)… (كل زمان يحصل فيه اتفاق أهل البيت على قول من الأقوال كان هو الحجة التي لا يجوز مخالفتها، ولم يعتبر قول مخالفيهم فيه، بل يلزم سائر الأمة الاقتداء لهم). وفي ص 269: (وأهل البيت إذا أجمعوا على قول، وسائر الأمة أجمعوا على قول آخر، فالحجة إجماع أهل البيت دون إجماعهم).
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 270.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 269.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 171.
- شرح البالغ المدرك، 148.
- راجع بحثنا: تأسيس الهوية وصورة الآخر عند الهادي.
- انظر: شرح البالغ المدرك لأبي طالب الهاروني، 54، 83، 104.
- انظر مثلا: الدعامة في الإمامة، 152، وشرح البالغ المدرك، 107.
- انظر: البساط، 133، والتبصرة، 60، والدعامة في الإمامة، 34.
- انظر: البساط، 139، 140، 142، 150…إلخ.
- يقول الحسن الأطروش في كتابه البساط، 50، مثلا: (اختلف الناس في ماهية الإيمان.. فتكلموا فيه على غير معرفة بحقيقته ولا إيقان، وأنا فمستغن عن وصف اختلافهم في ذلك).
- شرح البالغ المدرك، 89، 94، فقال أبو طالب شارحا قول الهادي أن بعض الأخبار مستحيل تصديقها، وسبيلها “الشذوذ والغلط في التأويل”.. “ومنها: ما هو في أصله منسوخ.. ومنها ما روي مرسلا بلا حجة فيه، ولا تبيان لمتدبر به”. فيقول أبو طالب: (وأما المرسل بغير حجة فهو ما قد ذكره أصحاب الحديث في كتبهم، وانتخبوا من الأحاديث، فيما قد كتبوه في كتابين وسموها الصحيحين صحيح البخاري، وصحيح مسلم). ويقول أيضاً: (قلد هؤلاء أهلَ هذه الأحاديث بعد علمهم بكذبهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن المقلدة بعد العلم مالك بن أنس…).
- شرح البالغ المدرك، 102.
- الدعامة في الإمامة، 20.
- إثبات نبوة النبي، 314 – وما بعدها، وفيه: (ثم الفقهاء الذين أصَّلوا أصول الفقه وفروعه، دققوا وأتقنوا، وبلغوا من ذلك المبلغ الذي لا تخفى مرتبته على أحد من العلماء…)… (ثم القراء من المسلمين ضبطوا أصول القراءات ووجوهها، ضبطا لا يحكى أقله عن أحد من أهل الكتاب، ثم النُّحاة منهم ضبطوا الإعراب، وفرعوا وأصلوا، كما ترى. وليس ذلك إلى هذا الحين لشيء من الأمم. ثم تأمل نقل أصحاب الحديث وضبطهم له، واختصاصهم منه بما لم يختص به أحد من الأمم).
- البساط، 59.
- البساط، 82- وما بعدها.
- البساط، 105.
- البساط، 84.
- البساط، 86 – وما بعدها.
- البساط، 54.
- الرواية المعروفة عن علي حين سئل: أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، فقيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم، قال: إخواننا بغوا علينا. [أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (7/535)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/300)، وغيرهم].
- البساط، 100.
- البساط، 169: (وروي لنا وأخبرنا عن أبي عبدالله جعفر بن محمد عليه السلام وعن جماعة من أهلنا رحمهم الله أنهم كانوا يقولون: بالمنزلة بين المنزلتين، لا إجبار ولا تفويض). وتكمن أهمية هذا النص في أنه يسند إلى جماعة من الشيعة الزيدية القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهذا يبين مدى تبنيهم للفكر الاعتزالي. ويبدو أن الخطأ لدى الأطروش في تفسير هذه المقولة، أما المعتزلة فيفسرونها بالقول إن الفاسق لا يسمى مؤمنا ولا كافرا. وهذا ما جرى عليه الهادي يحيى بن الحسين في رسالته “المنزلة بين المنزلتين”. من الجدير بالذكر أن الغزالي أيضا استخدم هذا المصطلح بمفهوم المذهب المتوسط بين القول بالجبر والقول بالاختيار، فقال: (ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض، وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين فإنه جبر على الاختيار). [إحياء علوم الدين، ج4/ 255]. في حين أنه استخدمه في كتابه قواعد العقائد، ص 245، بمفهومه المعتزلي.
- البساط، 104.
- كما نقلنا عن: البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، لأبي القاسم البستي، ص 148، وكذلك المعاصرون منهم حين يترجمون للزبير أو غيره من الصحابة الذين خالفوا عليا، يبحثون في مسألة توبته من عدمها، وعلى سبيل المثال حيت ترجم محمد العجري لأنس بن مالك، فقال: (إنه تاب، والله أعلم، وقد جزم بتوبة أنس علامة العصر عبد الله بن الحسن القاسمي)، وكذلك في ترجمة ابن عمر. [انظر: تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، ملحق به: بغية الطالب في تراجم رجال أمالي أبي طالب، ص 622، 631].
- التبصرة، 30 وما بعدها. وفيه يقرر: (لا نقول إنه عالم بعلم، وكذلك القول في سائر الصفات لمعاني هي: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر..)، وفسر الاستواء بالاستيلاء والغلبة. وقال باستحالة رؤية الله في الآخرة، ويقول بأن القرآن مخلوق، وأفعال العباد ليست مخلوقة لله، ويقول في الوعد والوعيد بخلود أهل الكبائر في النار، وأن يشفع للمؤمنين التائبين، ولا يشفع لأهل الكبائر.
- شرح البالغ المدرك، 97.
- ص54.
- مما تميز به زيدية الديلم أنهم يناقشون الإمامية مناقشة فقهية، لا عقدية، وقد أشرنا لذلك من قبل، ولعل لوجودهم في إيران بين الإمامية، واختلاطهم بهم، حتى تجد بعضهم كان إماميا فعاد إلى الزيدية، كأبي العباس الحسني مؤلف كتاب “المصابيح”، وما يرويه بعضهم عن أبي طالب الهاروني أيضا، وتجد في الأسرة الواحدة الزيدي والإمامي. فكل ذلك أسهم في تخفيف الحدة الدينية تجاه الإمامية. وبالنظر في شرح التجريد [ج1/ 142]، نرى أنه ناقش الإمامية في مسائل عديدة، مثال ذلك: مذهبهم في غسل القدمين، حيث ذهبوا إلى القول بالمسح، فناقشهم فقهيا ولم يناقشهم نقاشا عقديا كما فعل الهادي في مناقشتهم في قولهم (من طلق زوجته على غير طهر من جماع، أو طلق ثلاثا معا لم يكن ذلك طلاقاً) [الأحكام في الحلال والحرام، 1/ 390 – وما بعدها].
- الدعامة في الإمامة، 152.
- مسألة في أن إجماع أهل البيت حجة، ص 269.
- يقول المؤيد في إثبات نبوة النبي، 52: (فإن أرذلهم طبقة، وأخسهم طريقة، وأعتاهم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعداهم للمسلمين، وأحرصهم على التحيل لإطفاء نور الله المبين ، من ينتسب منهم إلى الباطن … قد زينوا عندهم ارتكاب الفواحش ، وأباحوا لهم قطوف المظالم ، وأحلوا لهم شرب الخمور ، وترك الصلوات ، ومنع الزكوات .. ينفون الصانع ، وينكرون النبوات أجمع ، ويجحدون الشرائع.. وينكرون البعث والنشور، ويقولون: معنى القيامة هو قيام محمد بن إسماعيل بن جعفر وخروجه …).
- البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، 97.
- البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، 98.
- البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، 99.
- البحث عن أدلة التكفير والتفسيق، 102، يقول: (فأما الخلاف في الواقع بين الزيدية والمعتزلة والإمامية، هل يؤدي إلى التفسيق أم لا؟ فقد ذكر كثير من شيوخنا أن من دفع إمامة إمام ثابت الإمامة أو أنكر أو جهل، كمن نابذه وحاربه، في أنه فسق، وإلى هذا القول ذهب كثير من الزيدية. والذي نختاره أنه لا دلالة على تفسيق من جهل بإمامة الإمام أو أنكر، إذا لم يقترن به خروج عليه ومحاربة له).