في عصر تتلاطم فيه التحليلات وتتشابك فيه الرؤى، يبرز كتاب “المدخل إلى علم السنن الربانية”، كمنارة فكرية وعمل تأسيسي لا غنى عنه، يقدمه ببراعة علمية وبلاغة أدبية أحد أعلام الدراسات القرآنية المعاصرة، فضيلة الأستاذ الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن والقراءات، ورئيس (مؤسسة بصائر المعرفة القرآنية). هذا الكتاب هو الإطار النظري لسلسلة إصدارات ودراسات في الفقه السنني من منظور قرآني، وهي مشروع فكري متكامل يهدف إلى إعادة بناء “العقل السُّنَني” لدى المسلم المعاصر، وتزويده بالأدوات المنهجية لفهم قوانين الله الحاكمة في الكون والتاريخ والمجتمع، ليكون قادرًا على قراءة واقعه قراءة بصيرة، وصناعة مستقبله صناعة واعية.
بنية الكتاب: رحلة معرفية متكاملة من التأسيس إلى التطبيق:
لقد صاغ الدكتور المجيدي كتابه في بنية متدرجة ومحكمة، تأخذ القارئ في رحلة معرفية شيقة عبر محطات واضحة، كل محطة منها تمهد لما بعدها في ترابط وثيق:
المحطة الأولى: التأسيس والتأصيل (الفصول الأولى):
ينطلق المؤلف من وضع الأساس الفكري المتين لهذا العلم، حيث يعرّف القارئ بمعنى “السُّنَن الربانية” لغةً واصطلاحًا، ويستعرض مواضع ورودها في القرآن، موضحًا أنها ليست مجرد أحداث عابرة، بل هي القوانين الثابتة والمطردة التي أقام الله عليها نظام الخلق والأمر. هذه المحطة ضرورية لتأسيس وعي مشترك بالمصطلحات والمفاهيم.
المحطة الثانية: التصنيف والخصائص:
بعد التأسيس، يغوص الكتاب في تفصيل أنواع هذه السنن، مقسمًا إياها بوضوح إلى: السنن الكونية (في الخلق والطبيعة)، والسنن الاجتماعية (في حركة الأمم والحضارات)، والسنن الشرعية (في التكليف والهداية). كما يبرز أهم خصائصها من الثبات، والعموم، والاطراد، والارتباط بالأسباب، مما يمنح القارئ رؤية بانورامية شاملة لكيفية عمل هذه القوانين.
المحطة الثالثة: الأهمية والوسائل المعرفية:
هنا، يكشف الكتاب عن القيمة الاستراتيجية لهذا العلم في حياة الأمة، وكيف أن إدراكه هو مفتاح فهم أسباب النصر والهزيمة، والتمكين والاستضعاف. ثم يقدم للقارئ الأدوات العملية لرصد هذه السنن واستكشافها، وعلى رأسها التدبر العميق للقرآن الكريم، واستقراء التاريخ البشري، والنظر في السيرة النبوية.
المحطة الرابعة: الأسس القيمية الكبرى الحاكمة:
في قسم يُعد من أروع أقسام الكتاب، يربط المؤلف بين هذه السنن والقيم الإلهية العليا التي تحكمها، مثل الحق، والعدل، والرحمة، والخير، والإحسان. وبهذا، يؤكد أن سنن الله ليست قوانين مادية جافة، بل هي تجلٍّ لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، مما يضفي على فهمها بُعدًا إيمانيًا وأخلاقيًا عميقًا.
المحطة الخامسة: التطبيق العملي وصناعة النصر:
يُتوّج المؤلف هذه الرحلة المعرفية بفصل عملي تطبيقي فريد، يقدم فيه “قوانين تطبيقية” لإعمال هذه السنن في واقعنا المعاصر. فيستعرض قوانين البناء، ومعالجة الأزمات، وصناعة النصر، ليحول المعرفة من مجرد نظرية إلى أداة عملية للتغيير والبناء الحضاري.
مميزات الكتاب: لماذا يُعد عملًا رائدًا وفريدًا؟
1) الجمع بين الأصالة والمعاصرة: ينجح الكتاب ببراعة في استنطاق نصوص الوحي الأصيلة ليقدم إجابات شافية عن تحديات الواقع المعاصر، رابطًا الماضي بالحاضر والمستقبل.
2) الأسلوب البياني المشرق: يتميز أسلوب الدكتور المجيدي بلغة أدبية رفيعة، وعبارات جزلة ومؤثرة، تجعل من قراءة هذا الموضوع العلمي العميق متعة فكرية وروحية، بعيدًا عن الجفاف الأكاديمي.
3) المنهجية العلمية المتكاملة: يقدم الكتاب رؤية منهجية متكاملة لهذا العلم، فهو لا يكتفي بجمع الشواهد، بل يؤسس لقواعد، ويصنف الأنواع، ويحدد الخصائص، ويقدم أدوات البحث، مما يجعله مدخلًا حقيقيًا لعلم قائم بذاته.
4) إحياء علم قرآني أساسي: يُعد هذا الكتاب إحياءً حقيقيًا “لعلم السنن” الذي، رغم أهميته المحورية، لم ينل حقه الكافي من البحث والتأصيل في العصر الحديث. إنه يسد ثغرة معرفية كبرى في المكتبة الإسلامية.
5) مشروع للنهضة والتغيير: الكتاب في جوهره ليس عملًا وصفيًا فقط، بل هو مشروع نهضوي يقدم للأمة بوصلة قرآنية للخروج من التيه، وفهم أسباب الضعف، ورسم خارطة طريق واضحة نحو التمكين الحضاري.
باختصار، إن كتاب “المدخل إلى علم السنن الربانية” هو وليمة فكرية وعقلية، ودليل إيماني وعملي، وهدية حضارية قدمها الدكتور عبد السلام المجيدي للأمة، وهو عمل لا غنى عنه لكل قائد ومفكر ومصلح، ولكل قارئ يتوق إلى فهم أعمق للعالم على نور من كتاب الله.
إن قراءة “المدخل إلى علم السنن الربانية” هي أكثر من مجرد تثقيف، إنها تجربة فكرية وروحية تعيد تشكيل نظرتك للعالم، وتمنحك بصيرة نافذة ترى بها يد الله وهي تعمل في كونه. إنه بحق عمل رائد يستحق أن يكون مرجعًا أساسيًا لكل قائد ومفكر ومصلح، وكل شاب يتطلع إلى فهم أعمق لدينه، والمساهمة في صناعة مستقبل مشرق لأمته. لقد أهدى لنا الدكتور المجيدي بهذا الكتاب زادًا معرفيًا ثمينًا، وبوصلة حضارية نحن في أمس الحاجة إليها.