الأصل الثاني: العدل أو القضاء والقدر
والخلاف في مسألة العدل أو الجبر والحرية، والقضاء والقدر مما انشغل به المسلمون طويلا، وفي تفسير ظهور هذه القضية اقتضت ضروريات الصراعات على السلطة، وكراهية بني أمية التي كرستها العصور التي تلت دولتهم، أن ينسب ظهور (الجبر) حصريا لبني أمية بمعنى أنهم حرصوا على إيهام الناس أنهم تولوا الحكم بقدر الله، ومن يعارضهم فإنما يعارض إرادة الله! أو كمثل الذين يقولون إن تعليل رفض عثمان تنازله عن الخلافة بطلب من المتمردين عليه أنه (لن ينزع قميصا ألبسه الله) هو مظهر من مظاهر الجبرية!
والثابت من مجريات الأحداث في التاريخ الإسلامي (والإنساني أيضا) أن مسألة مسؤولية الإنسان عن أفعاله ودور الإرادة أو المشيئة الإلهية في ذلك مما تداوله المؤمنون كثيرا من قبل ظهور بني أمية.. وعلى سبيل التوضيح – ولعله من المفارقات المدهشة ذات الدلالة- فإن المفسرين لرفض عثمان التنازل عن الخلافة بأنه لن يخلع قميصا ألبسه الله إياه بأنه مظهر من مظاهر النفسية الجبرية.. هؤلاء يتجاهلون الرواية الأخرى التي تقول إن المتمردين ضد عثمان المحاصرين له في بيته- وهم بذرة المعادين لبني أمية المتهَمين بنشر فكرة الجبر- كانوا يبررون رميهم له بالحجارة أنه بقدر الله تعالى قائلين:( الله هو الذي يرميك..) وكان عثمان هو الذي يرد عليهم: (كذبتم.. لو رماني الله ما أخطأني!).
ولم يكن عثمان متفردا في ذلك الفهم لمعنى القضاء والقدر فقد كان صحابة كبار مثل أبي بكر وعبد الله بن مسعود ينسبون الخطأ في الرأي والفتوى لأنفسهم والشيطان وليس لله! وفي عهد عمر برر سارق فعلته بأنه سرق بقضاء الله فأقم عمر عليه الحد ثم أمر بضربه عدة أسواط تأديبا له لكذبه على الله.. وهناك الرواية الموجودة في نهج البلاغة التي تقول إن أحد أنصار علي سأله عن مسيرهم إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ وهل له شيء من الأجر طالما أن كل شيء يتم بقضاء وقدره؟
والشاهد مما سبق أن مسألة الجبر والحرية والمسؤولية الإنسانية عن الأفعال كانت معروفة قبل ظهور بني أمية؛ بل هو مما تقتضيه طبيعة الحال في كل بيئة دينية تتعبد إلها خالقا متحكما في الكون، وحتى في الجاهلية وعصر النبوءة كان المشركون يحاججون النبي عليه السلام أن الله – تعالى عما يقولون- هو الذي شاء لهم الشرك وارتكاب المعاصي.(1)
على أنه ليس غريبا أن تروج ( مع ملاحظة أن هناك فرقا بين الترويج وبين التأسيس لشيء ما) سلطة ملوك مثل الأمويين مثل هذه الفكرة، فهذا ديدن الملوك في كل عصر وأوان، وليس غريبا أن يوجد من العامة والمتزلفين من يؤيدها في ذلك بوصفه أمرا دينيا.. وهل يختلف الأمر هنا عن الترويج لطاعة الأئمة عند الاثني عشرية أو الإسماعيلية أو الهادوية، وغرسها في نفوس الاتباع؛ لأنها من طاعة الله، وتحريمهم ما يسيء إليهم حتى لو كان من خطرات النفوس؟ وأن الله منح أئمتهم حق الحكم حصريا لأنهم من أهل بيت النبوءة إما بنص صريح مزعوم أو نص خفي أو بحق الانتماء للسلالة النبوية التي ليس لهم أي فضل فيه؟ وما الفرق بين من أقروا بحق بني أمية في السلطة بقضاء الله وواجب طاعتهم.. وبين من يؤمنون بالحق الإلهي لسلالة معينة ووجوب طاعتهم ظاهرا وباطنا؟
وماذا كان يفعل المعتزلة في بلاط خلفاء بني العباس إلا أنهم كانوا يعززون سلطة يزعم ملوكها أنهم يحكمون بقدر الله، ومتأخروهم كانوا يقولون إنهم ظل الله في الأرض؟
وهؤلاء زعماء الدول الطغاة من غير الأئمة في عصرنا وكل عصر ما يزالون يروجون بين الشعوب صراحة أو تلميحا لطاعتهم وضرورة الالتزام بها لأنها قدر مع اختلاف مسمى القدر عندهم، وفي الأنظمة المعادية للدين يزعمون أن الشعوب هي قدرهم وأن من يعارضهم يعارض قدر الشعوب الذي يسمونه: الإرادة الشعبية!
وعلى أية حال؛ فإن التاريخ الإسلامي يقول لنا إن جبرية الأمويين المزعوم أنهم نشروها لم يكن لها تأثير حقيقي في المجتمع المسلم، ولا في حياة المسلمين، ولا في عقيدتهم، فقد واجهت دولة الأمويين من التمردات والثورات الشعبية ما لم تواجهه دولة أخرى حتى تم إسقاطها! فالخوارج ظلوا دائما في حالة حروب شرسة معها، وعدد من الصحابة والفقهاء ثاروا ضدهم بدءا بثورة الحسين بن علي ثم عبدالله بن الزبير، وأبي عبيدة الثقفي، وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمن الأشعث وصولا إلى ثورة زيد بن علي وآخرين، وحتى من داخل البيت الأموي ظهرت ثورة شعبية بقيادة يزيد بن الوليد بن عبد الملك (كان متأثرا بالقدرية الأوائل) على الخليفة الفاسق الوليد بن يزيد.
ومشهورة الحوارات الشديدة بين معاوية وبين بعض الصحابة والتابعين وأتباع علي؛ فقد كان يستمع لكلمات نقدية قاسية تؤكد أن الجبر لم ينجح في فرض سلطانه على نفوس المسلمين، ولا كان مهيمنا كما يصوره البعض!
وهل نشأت مباديء الفرق الإسلامية الرافضة للجبر، والملك العضوض إلا في زمن الأمويين؟ وهذا غيلان الدمشقي أشهر معارضيهم كان مرجئا إرجاء سنة، ومثله الجهم بن صفوان كان جبريا ومع ذلك لم يمنعهما ذلك من معارضة بني أمية بل وقتالهمّ، فقد شارك الجهم بن صفوان في ثورة الحارث بن سريح، وقتل في المعركة عام128ه.
[ ينفي البعض فكرة الجبرية عن الجهم بن صفوان، ويستدل على ذلك بمشاركته في ثورة ابن سريح، لكن مع اتفاق الجميع على جبريته فإن نفيها عنه بسبب مشاركته في الثورة تساوي نفي إيمان الأمويين بالجبر بسبب خوضهم الحروب دفاعا عن ملكهم وتوسيع الفتوحات، فلو كانوا جبرية لخضعوا للقدر وما رفعوا سيفا لحماية دولتهم بل لم يسعوا للحكم أصلا، ولما جيشوا الجيوش لفتح العالم شرقا وغربا!].
والجدال في تفاصيل كيفية علاقة مشيئة الله تعالى ودورها في أفعال العباد؛ مثلها كمثل الخوض في تفاصيل صفات الله تعالى؛ نوع من التورط في شيء من أمور الغيب، فهو فعل ناتج عن تشارك إرادتين (إن جاز القول): إلهية وبشرية كما تدل على ذلك عدد من النصوص القرآنية والنبوية، والحديث عن دور الطرف الإلهي في هذه العلاقة إقحام للعقل البشري المحدود في أمور عالم الغيب، فإذا كان الإنسان يجهل ذات الله تعالى وصفاته فكيف يستطيع معرفة كيفية عمل أو نفاذ مشيئته وإرادته في الهداية أو الإضلال؟
والقرآن مليء بالآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال وأسبابهما ودور المشيئة الإلهية ومسؤولية الإنسان فيها؛ والتعبير عن ذلك له حالات وصور تتناسب كل منها مع مقتضى الحال والحكمة من إيرادها في مقامها:
1- ففي الصورة الأولى من الآيات التي تتحدث عن الهداية والضلال هناك تركيز على دور المشيئة الإلهية من مثل: ( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) التكوير 29، و( … أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل فلن تجدوا له سبيلا) النساء88 و(… من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) الكهف17، و(وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله..) آل عمران 166 و(.. وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك؛ قل كل من عند الله) النساء 78… والواضح أولا أن هذه من الآيات المطلقة ولا يمكن فهمها إلا بحملها على الآيات المقيدة في الموضوع نفسه كما سيأتي، وأما ثانيا فإن الهدف منها هو تقرير دور المشيئة الإلهية في فعل الهداية أو الإضلال لدفع الإنسان للتواضع إن اختار طريق الإيمان والخير في ألا ينسى أن هناك هداية دلالة وهداية عناية من الله له تعينه على السير في طريق الهداية والثبات عليه فعليه الأخذ بها.. أو الحذر إن اختار طريق الضلال والشر في أن اختياره طريق الضلال والشر والإصرار عليه سيقابل بإضلال مصدره الله نفسه.
2- وفي الصورة الثانية من الآيات هناك تركيز على الدور البشري ومسؤولية الإنسان عما يحدث له، وعن اختياره طريق الخير أو الشر من مثل: (أوَ لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم…) آل عمران165، و( قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها) الشمس9-10، و( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه..) الكهف57.. وهو أمر بديهي لكيلا يتحجج الإنسان بالآيات المطلقة بأنه لم يكن لديه خيار في سلوك طريق الشر، وأن كل شيء بأمر الله الفعال لما يريد، وهو مسير لا قرار له، ومن ثم فإنه لا يستحق العقاب!
3- والصورة الثالثة من الآيات هي تلك جمعت بين الإرادة الإلهية؛ أو الدور الإلهي في الأفعال البشرية؛ وبين الدور البشري من مثل:( فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى* فسنيسره للعسرى*) الليل 5-10 و(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت 69 و(.. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم* والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف 5، و(ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) مريم76.
ومع وضوح دلالة هذه الآيات في حالة النظر إليها في سياق واحد؛ إلا أن البعض (مثل المعتزلة ومقلديهم) ركز على الآيات التي تتحدث عن مسؤولية الإنسان وحده على كل أفعاله لأن ذلك مما يتفق في فهمهم مع عدل الله في ألا يعذب أو يثيب إلا على الاختيار الحر للإنسان لأفعاله.. وفي المقابل ركز (الجبرية)على الآيات التي تتحدث عن مشيئة الله وإرادته وأنه فعال لما يريد فقط فنفوا عن الإنسان مسؤوليته عن أفعاله.. ولا شك أن الصواب والأقرب إلى الحق هو في الجمع بين الصورتين، وحمل المطلق على المقيد من الآيات؛ ففيهما تتبين مسؤولية ودور كل طرف في أفعال العباد، فالإنسان له دور في اختيار أفعاله وبذل الأسباب لذلك وإلا ما كان هناك عدل في عقاب المسيء ومكافأة المصيب.. وللمشيئة الإلهية دور في تيسير إنفاذ اختيار الإنسان سواء اختار طريق الخير أو طريق الشر كما تدل على ذلك الآيات الواضحة التي تشير إلى أن المشيئة الإلهية لم تترك العباد بدون عون وتيسير إن أراد سلوك طريق الخير وعمل الخير.. وهي نعمة إلهية قدرها الله تعالى تأييدا للإنسان الضعيف في مقابل إعلان إبليس إصراره على ممارسة كل أنواع الغواية والإضلال في حق بني آدم، وليثبت أنه لم يكن مخطئا حينما رفض أمر ألله له بالسجود تكريما لآدم عليه السلام.
ويبقي الخلاف هل نسمي دور المشيئة الإلهية ب (خلق الأفعال) كما قال أقوام أو ب (اللطف الإلهي) كما استقر الأمر عند كثيرين من المعتزلة والهادوية. وفي كل الأحوال فإن المسلم يجد في الاستعانة بالله على الهداية والخير والإقلاع عن الشر مستندا في النصوص المقدسة، وأيضا في التجربة البشرية الطويلة التي من الصعب المراء في أن المؤمن يجد عونا من الله في لحظة ما في أمر ما على الانعتاق من الشر أو فعل الخير.
وصحيح أن هناك من نفى عن الإنسان حرية الاختيار بين الخير والشر، وجعله كالريشة في مهب الريح.. لكن الحق أن معظم الفرق الإسلامية رفضت هذا الأمر وفي مقدمتهم أهل السنة والجماعة، فكتبهم مليئة بما يعزز إيمانهم أن الإنسان مسؤول عن اختيار طريقه! وأنقل هنا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة فهو مفيد لحسم الجدل ورد الاتهامات.. إذ يقول في كلام طويل ومتين وواضح تحت عنوان: الاحتجاج بالقدر:(2)
[ وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر؛ بل القدر يؤمن به ولا يحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض فإن القدر إن كان حجة وعذرا لزم أن لا يلام ولا يعاقب ولا يقتص منه، وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم ولا يغضب عليه ولا يذمه، وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدا أن يفعله فهو ممتنع طبعا محرم شرعا.].
وفي العواصم والقواصم أورد ابن الوزير مجموعة من الأحاديث مروية عن أئمة أهل البيت تخالف المبدأ الاعتزالي الذي قلدهم فيه هادوية اليمن في العدل أو القضاء والقدر، وعلى النحو التالي: (3)
– عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الدعاء يرد القضاء). خرجه السيد أبي طالب في الأمالي.
– وعن الحسن بن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت وتعاليت).. رواه الإمام الهادي في الأحكام.
– وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (من زعم أن الله يشاء لعباده الطاعة فلم تنفذ مشيته، وشاء لهم إبليس المعصية فنفذت مشية إبليس فقد وهن الله في ملكه، وجوره في حكمه).. رواه أحمد بن عيسى بن زيد بن علي فقيه آل محمد من قدماء أهل البيت.
– (أعمال العباد كلها على مشيئة الله وإرادته) رواه محمد بن منصور بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– وعن محمد بن منصور رحمه الله أنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد).
الهوامش:
- انظر كتاب/ الإمام زيد حياته وعصره للشيخ أبو زهرة ص 139-140.
- مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية، ص102.
- العواصم والقواسم، مصدر سابق، الجزء الثاني، ص 523 وما بعدها.