هل الشذوذ الجنسي هوية وانتماء؟
مع شيوع قضية الشذوذ الجنسي في الآونة الأخيرة، خصوصًا مع الانخراط في النشاط السياسي من طرف بعض الداعمين للتوجّهات الجنسية الشاذّة، التي تجعل من الميل الجنسي – الشاذ تحديدًا – هويةً وانتماء، وتجعل من أصحاب هذا الانتماء – على تنوّع شذوذاتهم – مجتمعًا؛ بَدا أنّ ثمّة تحوّلا لا تُخطئه عين في الاجتراء على دعم الشذوذ أو فلنقل قضايا التوجّهات الجنسية الشاذّة تلك من طرف بعض الناشطين الليبراليين وشريحة من الشباب في المجتمعات العربية، وهذا المقال هو محاولة للفهم والتفسير، أي فهم ظاهرة الدفاع عن الشذوذ الجنسي في المجتمعات العربية والمسلمة، باعتبارها ظاهرة حديثة ومتزايدة تخالف الفطريَّ السائد في هذه المجتمعات.
لقد كانت الكثير من هذه الشرائح – الشبابية تحديدًا – تنظر إلى المنخرطين في الشذوذ وتوجّهاته المختلفة نظرة استنكار ورفض إنْ لم تكن نظرة اشمئزاز ونفور. كان المعيار الأخلاقي المهيمن هو المعيار الفطري الشائع بين الشباب من مختلف الطبقات والمستويات الفكرية، ولطالما كان الشاب الشاذّ أو الداعم للشذوذ موضع تندّر حتى من أبناء بيئته الأيديولوجية أو الحزبية. لقد شهدتُ ذلك ورأيته بأمّ عيني في المرحلة الجامعية قبل أكثر من عقد بقليل. ثم شهدنا الآن عصرًا آخر، ينقلب فيه النافرون من الشذوذ وقضاياه في الأمس القريب إلى مدافعين عنه، من منطلقات أخلاقيّة جديدة، غلبتْ على المنطلقات الأخلاقية الفطرية القديمة التي كانت – وما تزال – سائدة في مجتمعاتهم.
وهنا يجدر بنا التساؤل: كيف حدث هذا الانقلاب؟ أي كيف تحوّل الشاب الذي وإنْ لم يكن متديّنًا أو كان بعيدًا عن الدين، فقد كان يحمل حدّا أدنى من القيم الأخلاقية الفطرية التي تجعله يرفض فكرة أن يختار الإنسان ميلا جنسيا غير ما ينبغي من جنسه البيولوجي الذي وُلد فيه، وأن يجعل من هذا الميل الجنسي “هويّة” ينافح عنها ومحور تمظهر يدفع به إلى المعترك الحقوقي والسياسي، فكيف تحوّل إلى مدافع عن كل هذا الذي كان يرفضه؟ وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نشير إلى ثلاثة محاور، ستتّضح لنا أسباب هذا الدفاع ودلالاته عند الفراغ منها بإذن الله.
المحور الأول: الإمامة الفكرية الغربية
لماذا يدافع الغرب عن الشذوذ الجنسي؟
لعلّه من تحصيل الحاصل أن نقول إنّ نزعة الدفاع الحقوقي عن التوجهات الجنسية الشاذة قد نشأت أولًا في الغرب، أي في أوروبا وأمريكا بشكلٍ أساسي، تمامًا كما نشأت تلك التوجهات التي تجعل من الميول الجنسية الشاذّة هويةً وانتماءً ومجتمعاتٍ في الغربِ أيضًا. فأمّا ملابسات هذه النشأة وعلاقتها بالمزاج الليبرالي وبالعلم فهو ما سأرجئه إلى المحور الثاني، لكن ما يهمّني هنا هو الإشارة إلى المأساة التي تعيش البشرية في ظلّها، وهي تُولّي هذه الحضارة الغربية المفلسة في عالم القيم والأخلاق قيادتها الفكرية، لسبب أساسي وهو: تفوّقها في مضمار القوة والعلم والمال؛ فقد تغلّبت الأمم الأوروبية في القرنين الأخيرين على العالم، وكان أن شاعتْ مذاهبها الفكرية وأيديولوجيّاتها المتلاطمة في العالم، فكلّما شاعَ مذهبٌ أو أيديولوجية وجدتَ صداها في العالم، لا لشيء إلا لأنّ القوم أهل غلبة وعلم، قهروا الأمم بأسلحتهم التي طوّروها بالعلم الذي موّلوه بثروات البلاد التي احتلّوها ونهبوها كالأمريكيّتين وغيرهما، فكانت دورة “المال-العلم-القوة” أسرع لديهم من غيرهم من الأمم.
ولقد ارتبطت الأفكار والمفاهيم التي راجت في هذه الحضارة الغربية المتفوّقة بالتقدّم والأفضلية بطريقة ما، لا لأنّها أفضل حقّا أو أكثر أخلاقيةً، ولكنّ لأنّ أصحابها متفوّقون في مضمار العلم والقوة والمال، ومن ثمّ فهم – بحسب بعض النخب في الأمم المغلوبة – الأحقّ بتحديد المعايير الأخلاقية، ولا شكّ أنّ تفوّقهم العسكري والسياسي والمالي والعلمي ينطوي على تفوّق في عالم القيم بحسب تلك النخب أيضًا. وهنا تكمن الخطورة، أنْ تَحسُنَ القيم الفاسدة أخلاقيّا في القلوب حين ينتصر أصحابُها في ميادين الدنيا؛ لأنّ النصر الدنيوي على جميع الأصعدة له لذّة، وكل إنسان يحبّ أن ينتمي إليه كي يحصل على شيء من هذه اللذّة، ولهذا تجد بعض النخب في الأمم المغلوبة تسعى جاهدة إلى تبنّي المزاج الفكري الذي للأمم الغالبة، لا لشيء إلا لكونها تظنّ أنّ هذا هو طريق النصر والعلوّ والسؤدد، وهو لعَمري طريق التبعية والانحطاط لو كانوا يعلمون.
لماذا يدافع الليبراليون العرب عن الشذوذ الجنسي؟
وفي ظلّ هذا الشعور الطاغي بتفوّق المتغلّب الغربي في المعايير الأخلاقية، وجدنا الكثير من النخب العلمانية في بلادنا العربية تتابع بحرص آخر الموضات الفكرية في الغرب، لتتبنّاها فتكون بذلك جديرة بوصف التقدّمية والانفتاح، وبالجملة لمواكبة الحساسية الأخلاقية التي تُحدَّث كل عام في الغرب، غير مدركين أنّها في واقعها انحدار أخلاقي سريع، يكاد يلقي بالجميع إلى الهاوية. ومن هنا أُتِيَ هؤلاء المدافعون عن الشذوذ، فقد كانوا قانعين بنفورهم الفطري من الشواذّ ودعواتهم، حتى زاحم هذه القناعةَ الفطريةَ الموضةُ الأخلاقيةُ الجديدة، أو آخر صرعات الانحدار الأخلاقي في الغرب، وخلاصتها: أنّك لكي تكون ليبراليّا حقيقيّا فعليك أن تقبل المختلفين أيّا كانوا، حتى لو كنت تنفر منهم على مستوى المعتقد الشخصي، فكما تقبل بمعتقدات الأديان الأخرى فعليك أن تقبل بأي انتماء مُحْدَث أو هوية جديدة، حتى لو كان في دينك ومعتقدك ما يجعل هذا الانتماء أو الهوية أو الممارسة التي يتمحوران حولها انتهاكًا فجّا للقيم والأخلاق. فاصبر، وأَخْفِ معتقدك وفطرتك وكنّ ليبراليّا إلى آخر رمق، فإنْ أبيتَ فعليك إثمُ الرجعيين ووصمتُهم التي لا يحبّها أحد ينتمي إلى المجتمعات العلمانية والليبرالية في بلادنا. وكثيرا ما ينخرط الشاب في هذه الدعوات في الدفاع عن الشواذ لا لشيء إلا لأنّه لا يحبّ أن يظهر بمظهر الرجعي المتخلّف عن ركب الحضارة والليبرالية في وسطه الأيديولوجي أو الحزبي، فهذا هو “التحديث” الأخير لليبرالية، ومن لا “يُحمّله” في عقله ورأيه فهو متخلّف أو منغلق أو رجعيّ!
ولننظر الآن – في المحور الثاني – إلى هذا المزاج الليبرالي، وكيف يتفاعل مع العلم والواقع في الغرب.
المحور الثاني: المزاج الليبرالي والشذوذ (الهوى والعلم)
هل يثبت العلم وجود أجناس اخرى غير الذكر والأنثى؟
لم يحدث في السنوات الأخيرة اكتشاف علمي أظهر بأنّ الأجناس الموجودة ليست الذكر والأنثى فقط، أو بأنّ الرغبة الجنسية تجاه نفس الجنس أو الرغبة بالتحول إلى جنس آخر أمر فطري، أو أنّ الميل الجنسي يمكن أن يصبح هوية وأن يصبح أصحاب الميل الجنسي (أو عدة ميول) مجتمعًا، فالعلم لا يتطرّق إلى هذه المسائل أصلًا، والأمر برمّته مرتبط بمزاج فكري أيديولوجي ليبرالي يضخّم من الخيارات الفردانية وحقّ المرء في اتّباع ما يُمليه عليه هواه، وإنْ خالف العلم والحقّ، وإنْ آذى الإنسانُ نفسَه والخلْق.
إنّ كل ما يصدر من كتابات تخرج في وصف “العلمية” قد جاء في الواقع لاحقًا لنشأة هذا الهوى، فالشذوذ باعتباره ميلًا مخالفًا للفطرة نشأ في البداية هوًى له أسبابه النفسية وتفسيره الديني الذي لا مجال لتفصيله هنا، ثم جاء الحديث عن علاقته بالعوامل الوراثية البيولوجية بعد أن تأسَّسَ الهوى واستفحلَ وصار نحلة شريحة لا بأس بها من الساسة وأصحاب النفوذ والمال والجاه، فكما تُموّل شركاتُ المشروبات السكّرية أبحاثًا هشّة لتُظهر أنّ أمراض القلب والأوعية الدموية تسبّبها الدهون لا السكريات، فكذلك يدعم هؤلاء الأبحاث التي تحاول جعل الشذوذ أمرا طبيعيّا، فتارة يكون جبريّا لا خيار للإنسان فيه (وهذا في تلك الأبحاث الطبيّة الهشّة)، وتارة يكون أمرا متعلّقا بالذات المتجاوزة للجسد، والتي تعبّر عن أشواقها بصرف النظر عن الجسد وحقائق البيولوجيا. فهذا روح أنثى في جسد ستّيني جعد، وتلك شاب جلْدٌ في جسد أنثى نحيلة، وهكذا، لا يكون للحقائق البيولوجية الصارخة أيّ اعتبار في ذلك الطرح الأيديولجي الشاذّ. إنّ الحقائق العلمية ليست هي التي أسّست هذه الميول الشاذّة، بل أسّسها الهوى وشَرْعنَها المزاجُ الليبرالي بمنظومته الفكرية الهشّة، التي تستعير أحيانا وسائل البحث العلمي لتضفي شيئا من “الشرعيّة” على هذه الميول.
سبب ظهور الليبرالية الغربية:
نشأ المزاج الليبرالي عندما خلع القوم عن أفئدتهم وعقولهم قيمَ الكنيسة وأفكارها وأغلالها، وارتدوا حللا فكرية أخرى كان آخرها وأكثرها شيوعًا حتى عصرنا هذا هو المذهب الليبرالي الذي أسمّيه “المزاج” في مقالي هذا؛ لأنّه أقرب إلى الهوى من المذهب الفكري المتماسك. وهو يرتكز على فكرة الحرّية، أي حريّة الإنسان في تعبيره عن آرائه ومواقفه واختياره لدينه ومذهبه، وبالجملة في أن يعيش كما يشاء ما دام لا يؤذي الآخرين، بمفهوم خاص للإيذاء. أي بكلمات أدقّ: أن يعيش كما يُملي عليه هواه. وانطلاقا من هذا المزاج شاعت الكثير من الدعوات في القرنين الأخيرين، وبدأت تشيع قبل عقود الدعوة إلى حرية الشذوذ، بل حرية استعلان الشواذ بشذوذهم، بل حريّة جعل شذوذهم هويّة وانتماء وقضية كبرى ينافحون عنها ويستعلنون بها في المجال العام.
إنَّ الكلام عن هشاشة هذا المزاج الليبرالي وبأنّه في حقيقته اتّباع للهوى يهوي بالإنسان إلى هاوية تلوَ أخرى مهمّ جدًا لفهم نقطة محورية: وهي أنّ الضمير الأخلاقي الذي يشعر بعض الشباب العربي الليبرالي بصدقه حين يعبّرون عنه وهم يدافعون عن التوجّهات الشاذّة هو في الواقع ضمير أخلاقي زائف؛ لأنّ تفوّق هذه الحضارة في مضمار العلم والقوة والمال لا يعني صحّة ما تنتجه من أفكار بل أمزجة وأهواء، وكثيرًا ما اقترن الترف بالإيغال في السفاسف والموبقات، وارتباط هذه المعايير الأخلاقية المتجدّدة كل بضعة أعوام في الغرب بالعلم هو ارتباط زائف كما أشرت. إنّ أزمة هذا الجيل الليبرالي العربي الكبرى أنّه لا يستند إلى معيار أخلاقي ثابت، أصيل، متناسق ليحاكم من خلاله الظواهر والقضايا، وهو المحور الثالث والأخير في هذا المقال.
المحور الثالث: انعدام المعيار الأخلاقي الأصيل ومأزق الليبرالية العربية
نحن بحاجة إلى خطاب عاقل وصريح مع أولئك الشباب. خطاب لا يستكبر عليهم بقدر ما يحاول إيقاظهم من الوهم الذي يعيشون فيه، ولا عيب في أن يراجع الإنسان مسلكه، ولا عيب في أن يُبصر حاله بعيون غيره ممّن ينظرون من منظور آخر قد لا يخطر في باله يومًا. والمنظور الذي ننظر من خلاله إلى هؤلاء الشباب الذين يحملون مزاجًا ليبراليّا هو أنّه يمكن تلخيص سلوكهم المتحوّل من استنكار الشذوذ قديمًا إلى الدفاع عنه حديثًا، حين صارت له صولة وجولة في الغرب وصار الدفاع عنه مزاجًا أخلاقيا هناك، بأنّه سلوك عبثي، لا يستند إلى أساس أخلاقي ثابت، وهو مع ذلك تبعيّ لا يعبّر عن أصالة فكرية. فكأنّ صاحبه رضيَ أن يكون هملًا لا رأي له ولا أصالة، حتى إذا اختارت الأممُ مساراتها بأمزجتها المحضة كان تبعًا لها كي لا يقال إنّه خارج عن مضمار الحضارة. وإذا كانت هذه الكلمات فجّة في التعبير عن حال هؤلاء، فإنّ حالهم في الواقع أكثر فجاجة وأسى من هذه الكلمات!
ومهما ظنّ أصحاب هذه التحوّلات أنّهم يعبّرون في الواقع عن قناعاتهم الشخصية في تحوّلاتهم السريعة تلك والمواكِبة للمزاج الغربي، فإنّ السياق الذي شرحتُه أعلاه حاكم عليهم لا ريب، إذ لا فرار من حقيقة أنّ تحوّلاتهم جاءت تبعًا للتحوّلات الغربية وبأنّها ليست تحوّلات أصيلة. وكثيرًا ما يظنّ المرء أنّه يمضي إلى حيث يختار، فإذا المسارات من تحت أقدامه تمشي به إلى حيث شاء محرّكوها، وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئًا.
وكي تتأكّد من هذه التبعية التي يستبطنها بعض أولئك الشباب، انظر إلى مواقفهم من الاتفاقيات والمواثيق الصادرة عن المؤسسات الغربية الكبرى كالأمم المتحدة وغيرها، مثل ميثاق حقوق الإنسان، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية (سيداو) المتعلّقة بالأسرة والمرأة، فكثيرًا ما تكون هذه المواثيق والاتفاقيات محلّ “استشهاد”، مع أنها خرجت عن بشر لنا عقول مثلهم، فأي شيء جعلها محلّ تقدير واستشهاد سوى أنّها خرجت عن الحضارة الغربية الغالبة وبمزاجها ومباركتها؟
وكثيرا ما يظنّ هؤلاء الشباب أنّهم يقاومون سائدًا رجعيّا قديمًا، وأنّهم في مقاومتهم هذه يخوضون نضالا عتيدًا ضدّ الوعي الجمعي المتخلّف. ولكن الحقيقة أنّ هذا وهم آخر كوهم الضمير الأخلاقي الذي بينّا فساده؛ فالحقيقة أنّهم ينتمون إلى بيئة ليبرالية محليّة لها ضغوطها التي تمارسها، سواء باعتبارها إطارًا أيديولوجيا أو إطارًا حزبيّا يفرض اختياراته على المنتمي، كما أنّهم يخضعون إلى الضغوط الإعلامية العالمية، والقرارات الحكومية والتوجهات الفكرية التي تشيع على ألسنة شخصيات مشهورة في العالم. فهذا كلّه “سائد” آخر أكثر تأثيرا من السائد المجتمعي في عقولهم، بل إنّ مقاومة السائد المجتمعي تضفي عليهم سمة “النضال”، أما مقاومة السائد الليبرالي الغربي فإنّها تضفي عليهم وصمات الرجعية والتخلف والانغلاق وأمثالها، فهم واقعون تحت ضغط مجاراة الصوابية السياسية والخضوع إلى المفاهيم الليبرالية التي ينتمون إليها. فليس في المسألة محلٌّ للنضال، حتى لو أقررناهم على وجود ضغوط مجتمعية وسائد شعبي ضاغط تجاه التوجه الفطري، ففي المقابل ثمّة سائد آخر أكثر تأثيرًا في حياتهم. وكلّ امرئ يختار الجهة التي يقف فيها، والفاصلُ هو الأساس الذي بَنى عليه موقفه واختياره.
واجب المسلم في الوقوف ضد الشذوذ:
إنّ المسلمين حين يقفون موقفًا مضادًا لهذه التوجّهات الشاذّة فهم يستندون إلى أساس أخلاقي ثابت واضح، فهو محجّة بيضاء ليلها كنهارها، يتمثّل بالقرآن والسنّة وما بُني عليهما، ولهم حجاج عقلي متين يؤسس لصحّة مصادرهم واتساقها وشمولها ومصداقيّتها. أمّا الليبراليون العرب فهم لا يستندون إلا إلى التحوّلات الغربية، فهم كمتابع الموضة في الأزياء، يتابعون الموضة الفكرية ويمضون حيث يمضي القوم، فلا استباق هنا، ولا موقفا فكريا يستجدّ لديهم قبل الغرب، ولا رفض لشيء يشيع في الغرب ويصبح من ضمن “الصوابية السياسية”، وبالجملة فليس ثمّة “ذات” مستقلّة تفكّر وتستند في تفكيرها إلى معيار فكري وأخلاقي مستقلّ تحدّد من خلاله مواقفها المتّسقة من الظواهر والحوادث، ولهذا وجدنا تلك التحوّلات التي سرعان ما تنسخ القديم وتمضي مع الجديد.
خاتمة:
وأخيرًا، إذا كانت لهذا التحوّل من دلالة فهي دلالة انحدارنا الفكري والحضاري، وفقداننا للإمامة الفكرية. أي بكلمات أخرى: هذا ما يحدث حين تفقد الأمة الإسلامية الإمامة الفكرية التي كُلّفتْ بها في كتاب الله، إذ تصبح بعض نخبها نهبًا للإمامات الفكرية غير الجديرة بقيادة الأمم، فهي لا تستند إلى رصيد قيميّ أخلاقي، بل تستند إلى رصيد القوة والعلم والمال.
علينا أن نتذكّر بكلِّ ثقة واعتزاز، أنّنا وإنْ كنا في ذيلِ الأمم في مضمار القوة والعلم، فإنّنا نمتلك أساسًا أخلاقيّا فيه صلاح البشرية والعالَم. وعلينا ألا نغترّ بذلك التفوّق المادّي الذي للأمم الغربية، وألا نخجل من القيم التي ما زلنا متمسّكين بها، فهي القيم التي ارتضاها الله للبشرية. وإذا كان التصريح بما تمليه علينا الفطرة السليمة قد يحمّلنا الوصمات فإنّها صادرة ممّن لا يستحقّ أن يضع الوصمات على الناس. والأهمّ من ذلك أنّ دَفْعَ هذه الوصمات لا يستقيم بغير أساس فكري ثابت راسخ، وليس هذا الأساس سوى الإسلام بكامل شحنته الفكرية والروحية والعبادية، فهو وحده الذي يُخلّص المسلم من أي شعور بالدونية أو التردّد أو التبعية للقيم الأخلاقية التي يخترعها البشر ثم يلعنونها بعد أعوام قليلة!
لقد سلّطتُ الضوء في هذا المقال على هشاشة بل فضائحية هذا التحوّل الفكري في قبول الشذوذ عند بعض النخب الليبرالية في عالمنا العربي، واستناده إلى أوهام أخلاقية حقيقتها اتّباع أعمى لحضارة قائمة على أساس غير أخلاقي. ولعل هذه الكلمات تنفع في تنبيه المغترّين بهذا المسلك من منطلقات مجاراة الصوابية السياسية وتبنّي الاخلاق الليبرالية. وقد يجد هؤلاء أنفسهم – إنْ لم يستيقظوا من أوهامهم – يقرّون في الغد القريب ما يجدون قبوله اليوم من سابع المستحيلات، فالأساس الفاسد في قبول الأفكار يُفضي إلى ما لا يتوقّعه المرء في لحظته الآنية.