محمد يحيى عزان
يؤدي التفاوت في استيعاب طبيعة الخطاب الديني إلى اضطراب معرفي وتشويش في الرؤية واختلافات حادة، ينتج عنهما إما تشدد ومبالغات أو تَفَلّت وشكوك. وأقدر أنَّ تلك نتيجة طبيعية لأي اختلال معرفي وأنه لا يمكن تلافي ذلك إلا بالغوص عميقًا في لجة مقاصد الخطاب الديني في إطار النظرة الشاملة لفلسفة الدين من حيث المبدأ.. على أننا نفرق بين مفهم الدين ومفهم الخطاب الديني، فالدِّين هو منظومة القيم، بينما الخطاب هو ما يعبر عنها، كما سيأتي تفصيل ذلك.
صحيح أنَّ الحديث عن الخطاب الديني والدَّعوة إلى تجديده تارة وإصلاحه أخرى، قد كثر وتشعب وقيل فيه ما قيل، غير أنه ما يزال هنالك ما ينبغي أن يقال، ومن ذلك – في تصوري – ما سألخصه هنا من مقاربات، راجيًا أن يسهمَ في خلق رؤية متوازنة تساعد على تفكيك بعض العقد، وتكون صالحة للاستمرار قابلة للنمو والتطوير لمواكبة تساؤلات الأجيال.
أما السَّابقون فقد خاضوا في مسألةٍ طبيعة الخطاب الديني ومقصده العام، وأبعاد الفلسفة التي يقوم عليها الدين، وانتهوا – بشكل عام – في اتجاهيين:
اتجاه يرى أنَّ الخطاب الدِّيني (المتمثل في تبليغ الرسالة بجميع مفرداتها) خطابًا إلاهيًا مقصودًا في ذاته وكيفياته وصوره وتطبيقاته، فهو مُغلق جامد لا يمكن تطويره أو إعادة النَّظر في شيء منه، سواء فهمنا مقاصده أم لم نفهمها، ولا فرق إن تحقق العرض منه أم لم يتحقق، وبالتالي لا بد من تَكييف واقع الحياة مع الخطاب ذاته، وفي ضوء فهم البيئة الاجتماعية والمعرفيّة التي جرى فيها، مهما اختلفت ظروفها وتغيرت أحوال الإنسان فيها، وهذه المدرسة تَعتَبِر الإنسان مخلوق من أجل الدِّين يَحيا في سبيله ويموت في سبيله.
- والاتجاه الآخر يرى أنَّ الخطاب الديني – وإن كان في أصله إلهيًا – إلا أنه جاء من أجل الإنسان، وتتلخص مهمته في: تصحيح مسار اعتقاده وارتباطه بالغيب من جهة، وتقويم السلوك البشري بما يصلح الحياة من جهة أخرى، وعلى هذا تكون الغاية التي جاء الدين من أجلها هي المقصد والهدف، وليست مجرد القوالب والتطبيقات التي تُقدم فيها كطقوس وإجراءات شكلية، وعلى هذا يمكن التَّجديد والإصلاح في ضوء المقاصد والغايات، إذ أن الدين جاء من أجل الإنسان، وعليه أن يواكب متطلبات حياته بالتشريعات المناسبة التي تلائم الفكرة الأساس مع الواقع المعاش.
ويبدو لي أنَّ مشكلة الاتجاهات الدينية ليست فيما أنتجت من رُؤى اقتضتها طبيعة المراحل التي عاشها كلٌ منها، ولا في طريقة تفسيرها للنص الديني؛ لأن النّمو العقلي ونَقَلات التراكم المعرفي الذي يمر به البشر منذ أول التاريخ يفرض عليهم التفكير والفهم والعمل بطُرق مختلفة.. ولكنَّ المشكلة تبدو في تحوّل تلك المنتجات والتجارب البشرية إلى «دين لازم»، يتعين على اللاحق أن يتبع فيه السّابق، وإن تطوَّر بناؤه المعرفي وتغيرت متطلبات حياته واختلفت لديه منظومة القِيم الاجتماعية المتحوّلة.
وعلى هذا لا بد من أن يدرك أتباع المذاهب الدّينية أنما لديهم من موروث مذهبي ما هو إلا مجرد «مُنتج بشري» لا يمكن فرضه على الغير بحجة أنه دين الله، ولا يصح تقديمه على أنه سبيل المؤمنين الأوحد، ومن ﴿يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء:115]. حتى وإن رأى كل منهم ما خلص إليه كذلك.
تحرير مفاهيم (الدين والإصلاح)
حينما نراجع ظاهرة الجدل في مسألةِ الإصلاح الديني نجد أنَّ جزءً منها يعود لاختلاف فُرقاء المسألة في تصور مفهومي: «الدين» و«الإصلاح». لذلك نجد أننا مضطرون للحديث عن دلالة هذين المصطلحين في اللغة والاستعمال القرآني خاصة.
أما «الدِّين» فقد خَلُص كبير اللغويين “الخليل بن أحمد الفراهيدي” (ت170هـ) في (كتاب العين) إلى أنَّ الدين في اللغة يعني: «الجزاء، الطاعة، العادة»([i]). وهذا يعني أنَّ السِّياق يُجبر لفظ (الدِّين) على أن يكون مصطلحًا تتحكم في دلالته الإضافات والسِّياقات، كما هو شأن كثير من المفردات.
وفي معنى الدين قال ابن فارس: «(الدال والياء والنون) أصل واحد إليه يرجع فروعه كلها، وهو جنس من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة، يقال دان له يدين دينًا، إذا أصحب وانقاد وطاع. وقوم دين، أي مطيعون منقادون»([ii]).
ويمكننا هنا أن نستخلص لـ«الجزاء والطاعة والعادة والانقياد» – فيما ذكر لها من سياقات – معنى جامعاً، وهو: «الانتظام بكيفيةٍ مّا لتحقيق غاية». ويكون هذا هو المعنى اللغوي الجامع للفظ «دِين».. والانتظام والكيفية والغاية يحددها من يضاف إليه الدين.
وأما «الإصلاح» فهو عكس الإفساد كما قرَّر اللغويون، وهو ما يتفق مع استخدام القرآن له، وفيه قال الراغب: «الصَّلَاحُ: ضدّ الفساد، وهما مختصّان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسّيّئة. قال تعالى: ﴿خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً﴾ [التوبة/ 102] ، ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها﴾[الأعراف/ 56] ([iii]).
فإذا أُريد بالإصلاح هنا إصلاح ما فَسَد، فهو يتضمن تعبيرًا عن الرَّغبة في العودة إلى القَديم الخالي من الشوائب، باعتباره الأصلح لولا ما اعتراه من فساد، وبالتالي لا بد من التخلص من الإضافات التي ألصقت به على أنها منه، بخلاف ما إذا أُريد به تجديد النَّظر إلى طبيعة التشريعات ذاتها، وكيفيَّة التعامل معها، في ضوء مقاصدها وبما يجعلها تُحقق الغايات التي جاءت لتحقيقها.
الدين في الاصطلاح القرآني
في استعمال القرآن لمصطلح «الدين» نجد أنه يتحدث عن: (دين الله، دين الكفار، دين الإسلام، ودين الأنبياء، دين المسلمين، دين الآباء، ودين بني إسرائيل، دين الملك، دين المنافقين) وغيرها.
ولم يرد لفظ الدين في القرآن إلا مضافًا أو مُعَرَّفًا، والإضافة والتَّعريف تجعله مُخَصَّصًا، وتُحدد مَوضوعه وطبيعة الكلام عنه، وتميز سائر مقتضياته وما يترتب عليه وما يجري فيه وعليه من ثَبَات وتحوّل.
الدين في الاصطلاح القرآني
في استعمال القرآن لمصطلح «الدين» نجد أنه يتحدث عن: (دين الله، دين الكفار، دين الإسلام، ودين الأنبياء، دين المسلمين، دين الآباء، ودين بني إسرائيل، دين الملك، دين المنافقين) وغيرها.
ولم يرد لفظ الدين في القرآن إلا مضافًا أو مُعَرَّفًا، والإضافة والتَّعريف تجعله مُخَصَّصًا، وتُحدد مَوضوعه وطبيعة الكلام عنه، وتميز سائر مقتضياته وما يترتب عليه وما يجري فيه وعليه من ثَبَات وتحوّل.
وما يعنينا من ذلك كله هو الدين المضاف إلى الله أو إلى الرّسل أو إلى أولي أمر المجتمع المؤثرين في نمط حياته، لما للأوّلَين من إلزامية ارتبطت بذاكرة البشر المتدينين، باعتبارهما آتيان من وراءِ الغيب ومعبِّران عن القيومة الإلهية المحيطة بكل شيء، فضلاً عما يلبيان من رغبة الإنسان في الحماية والخلود، ولما للأخير من التصاق بحياة الناس وتأثير في انتظام مسيرتها وتحكّم في خياراتهم، وهو ما يصفه السابقون بـ«عموم البلوى عَمَلاً» فكل فرد في المجتمع مَعنيٌّ به عمليًا بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
وهنا يكون الاعتراف بأنَّ للدين المضاف إلى الله وإلى الرسل وإلى المجتمع ميزة ومكانة خاصة، على أن لكل منهما خصوصية تترتب عليها أمور كثيرة، منها الثبات أو قابلية الإصلاح والتجديد ومواكبة الظروف، وذلك ما سنوضحه في الآتي:
الدين المضاف إلى الله
إذا تتبعنا موضوع الدين المضاف إلى الله في القرآن الكريم، فإننا نجد أنه يبرز من خلال عدة أمور رئيسية أهمها:
1. التأكيد على واحدية الإله الذي وهب الحياة ووضع نظام الكون وسيّره، وله وحده تجب العبادة، وهو ما أكده الرُّسل على مرّ الزمان وعن ذلك جاء في القرآن: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وبعد تأكيد القرآن على أنه ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ .. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ يقول: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: 79- 83]. فما سوى الله لا يمكن أن يحل محله في الربوبية أو يشاركه في عبادة العباد.
12. قضايا الحياة العامة، مثل: جَلب النّفع ودفع الضر وحسن العدل وقُبح الجور وشكر المنعم وصيانة الحقوق والحفاظ على نظام الحياة، ونحو ذلك من أمور الفطرة التي تتمحور حول إنسانية الإنسان من حيث هو إنسان، وقيمة الحياة وما تنتهي به وما يترتب عليها من عاقبة وجزاء.
وحول محورية الخير كمعيار لما ينبغي أن يقوم عليه الدين في أي مِلّة يخاطب الله النبيين وأممهم بأنه جعل لكلٍّ منهم ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: 48]. فأشار إلى أن استباق الخيرات هو جِمَاع اختلاف الشرائع. وعن الأنبياء قال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 73]. وفي هذا إشارة قوية توحي بأنه اختزل الوحي في فعل الخيرات.
وتلك أمور فطرية يجدها الإنسان كامنة في ذاته أيّاً كان دينه وجنسه وموطنه ولغته، وإنما تتعدى عليها الأهواء المندفعة باختلاف المنافع والمضار والصراع عليها، حتى يتحول القُبح والحسن والنّفع والضّر إلى عكسه؛ وتضطرب معايير الضبط وتدخلها النِّسبية وهنا يحل الصراع ويتدخل الدِّين ليعيد الأمور إلى مسارها الفطري الأول، وهذا كله في إطار العموم المطلق ولا شيء من التفاصيل النسبية فيه.
3. القضايا الغيبية الكبرى الثابتة في جَميع الملل السَّماوية، مثل الإيمان بضرورة الجزاء والحساب كنتيجة لأعمال الخير والشَّر، وما يعقبه من جزاء عادل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بطبيعة العمل وليس بنوعية الانتماء. فالحنيفي واليهودي والمسيحي والمسلم وغيرهم من البشر يُجَازون على العمل الحسن والقبيح بالنسبة للفطرة الإنسانية بصرف النظر عن العناوين التي ينتمون إليها، وكلّ بما يتناسب مع عمله، فالظالم – على سبيل المثال – يستحق العقوبة من أي ملّة كان، والمُحسن يستحق المثوبة من أي مِلّة كان.
هذه المحاور الثلاثة تعني أن «دين الله» يتمثل في جملة معان وقيم عامة ثابتة، ومقصودة بذاتها، فلا تتغير أو تتبدل باختلاف الزمان والمكان، وإنما تختلف وتتغير وسائل تطبيقها والتَّعبير عنها، وتلك هي وظيفة الأديان «الشرائع» المضافة إلى الرُّسل والمجتمعات.
وعن الحديث في معالم دين الله، جاء في القرآن الكريم: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ، وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ﴾ [آل عمران: 2-4].
الدين المضاف إلى الرسل
أمَّا الدِّين المضاف إلى الرسل فهو عبارة عن منظومة من التَّشريعات أبرَزَها القرآن الكريم بأمرين:
أحدهما: أنَّ أديان الرُّسل تتناول تشريعات معينة تُراعي خصوصية المرحلة البشرية النَّاتجة عن اختلاف الزمان والمكان ومدى النّمو العقلي لدى المجتمعات، بحيث تُحقق أعلى مستوى من مقتضيات «دين الله» بتطبيقات وتشريعات خاصة يتناسب كلٌ منها مع ظروف كل مرحلة.
فالعدل والإحسان وحفظ الحقوق والتكافل وبناء الحياة وعمارة الأرض وإرساء النَّظام مطالب أساسية لعمومِ الدين، ولكن اسقاطها على واقع معين يتطلب تشريعات خاصة، ليكون واقعيًا وتحقق السعادة للإنسان. وأهم ما في تلك التشريعات أن تكون مصممة لتحقق أكبر قدر وأدوم وقت وأوسع مساحة وأشمل أثر. ولا يضر اختلافها ما دامت تحقق الغاية على وجه دقيق.
ثانيهما: ارتباط أحكام دين كل رسول وتشريعات ملّته بعلل وأسباب وموانع مَعروفة، تأتي وفق القِيَم العامّة لدين الله وتمضى في مساراتها. ولهذا علاقة بما يعرف في أصول الفقه بتراتبية الأحكام الوضعية والأحكام التَّكليفية.
فصلاة اليهود والنصارى وصيامهم وزكاتهم وقوانين تعاملاتهم التّجارية والاجتماعية تختلف في كيفياتها عما لدى المسلمين، مع أن هذه وتلك مما بلّغه رُسُل الله عن مُرسلهم، وما ذلك إلا لأن تشريعات الأنبياء العملية التطبيقية تأتي بما يتلاءم مع طبيعة إنسان تلك المرحلة وظروفه، فالخالق واحد والقيمة واحدة ولكن وسائل تحقيقها تختلف من زمان إلى زمان آخر.
الدين المضاف إلى المجتمع
دين المجتمع هو مجموع التشريعات التراكمية التي استنبطها فقهاء الشريعة «صحابة الأنبياء وعلماء أتباعهم» من إيحاءات النصوص الدينية الأولى، سواء كانت كُتب منزلة أو ما يصدر عن الأنبياء أنفسهم بهدف التّشريع الديني المعبّر عن رسالاتهم.
وهذا الدِّين لا يمكن نسبته إلى الأنبياء على وجه التعيين؛ لأنه نتاج فهم النَّاس لما جاءت به شرائع الأنبياء، ولكن يمكن توصيفه بأنه مستمد من النَّص ليحقق غايته فيما يُستجد من الأحداث إما بالاستفادة من عموم النص أو مماثلة لحالة أو تحقيق الغاية والغرض.
فهو من جهة مُنتج بشري خاضع لمتطلبات وظروف المرحلة التي يمر بها المشرّع «الفقيه»، الذي لا يختلف حاله عن حال المشرّع «القانوني» في ضوء الدّساتير العامة والقوانين المجملة. ومن جهة يعبر عن خلفية دينية لاعتماده النص الديني مرجعية أساسية لتشريعاته.
وهنا لا بد من التَّنبيه على أنَّ تشريعات الفقهاء ليست مذمومة ما دامت تحقيق الغايات النبيلة التي ما أتى الدين بمجمله إلا ليحققها، ولكنها لا تُنسب بتفاصيلها وتصوراتها إلى المُشرّع الأول فتتمتع بالإلزامية والدوام.. وما يقدم الفقيه من أوجه الاستدلال بالنص الديني لا يتجاوز كونه دليل على تسويغ العمل بما رآه يتماشى مع الدين، وليس دليلًا على كونه مراد الشَّوارع على وجه التّنصيص.
وحتى نكون أكثر دِقة يُمكننا أن نحدد طبيعة وسقوف التعامل مع المستويات الثلاثة للدين، وذلك بأن نجعل الأول الذي هو دين الله غايةً ومقصدًا يتعين على الدِّين الثاني الذي هو دين الرسل أن يدور – بتطبيقاته وتشريعاته – في فلكه. ويكون دين الله ودين الرسل أساسًا ومرجعية لدين المجتمع، يتحرك في ضوئه وينسج على منواله.
وهذا أمر مستساغ شرعاً، فقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا «اللَّهَ» وَأَطِيعُوا «الرَّسُولَ» وَ «أُولِي الْأَمْرِ» مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء : 59] فالطاعة تكون لله بشكل مطلق، والرسول وأولي الأمر «كلٌ في مجاله واختصاصه»، ولا يعني أنهم سواء فيما يُقّدمون للبشرية، ولذلك أرجع حُكم ما اختلف فيه أولي الأمر في المجتمع إلى الله والرسول، وأرجع اختلاف الملل وشرائع الأنبياء وما ورد فيها من أحكام إلى الله وحده فقال: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة : 48].
وبهذه المقاربة لمعنى الدين ومساراته العامة والخاصة، لن نحتاج للدخول في مواجهة مع التيارات الدينية بسبب ما يبديه بعض الحداثيين من دعوة للتَّخلص من الدين جُملة، فالدين – أيّاً كان – جزء من التكوين الوجودي للإنسان ولا يستطيع – من حيث هو إنسان – أن يعيش في فراغ منه، ما يُشكل علينا، فالغالب فيه أنه يتعلق بالتشريعات الرسولية التي هي مجرد تطبيقات تتناسب مع الزمان والمكان والأحوال لتحقيق القيم العليا لدين الله المتمثل في القيم الفطرية التي ترتبط بإنسانية الإنسان من أي ملة وفي أي وجهة كان.