محمد يحيى عزان
مرجعية إصلاح الخطاب الديني
في ضوء ما تقدم من تمييز بين أنواع الدين ومقاصد خطاب النص الديني وبيان خصوصية كل منهما، يمكننا القول: إن التجديد والإصلاح الديني وارد فيما يتعلق بأيّ دين من أديان الرسل أو الشعوب أو الملل؛ بل واجب ليتمكن من مواكبة المسارات التي رسمها دين الله لمسيرة البشرية.
ومن أوضح الأدلة على ذلك «الرسالات» نفسها، فقد جعل الله اللاحق منها إصلاحاً وتجديداً للسابق وليس إلغاء له، فقال: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ٤٨﴾ {المائدة: 48}
وفي هذا يرى العلامة محمد حسين فضل الله «أنَّ الدين – في الرسالة الإلهيّة الواحدة – لا يريد أن يجعل من نفسه وسيلة من وسائل تأكيد الانقسام التاريخي الديني الّذي حوّل الأديان في أتباعها إلى طوائف مغلقة لا مسؤوليّة لإحداها بالأخرى، بل إنَّه يعمل على توحيد الإنسان كله في أيّة مرحلةٍ زمنيّة، أو موقعٍ مكانيّ، على رسالة الله التي عنوانها العريض، الممتد في كل مراحل الرسالات، هو «الإسلام لله تعالى»؛ لتكون كل رسالةٍ في دور أيّ نبيّ تجسيداً للإسلام، باعتبار أنَّها كلمة الله في تلك المرحلة الّتي يمثِّل الالتزام بها معنى الإسلام في علاقة الإنسان بالله، في الوقت الَّذي كانت فيه الرسالات المتتابعة مفتوحةً على بعضها البعض لتكمل الأخيرة ما ابتدأت به الأولى، فكان عيسى عليه السلام مكمّلاً للناموس، وكان النبيّ محمَّد صلى الله عليه متمماً لمكارم الأخلاق، كتعبيرٍ عن إكمال ما نقص من التشريع في الحاجات الجديدة الّتي فرضتها تطورات الواقع الإنساني أو تبديل بعض الأحكام الّتي كانت خاضعةً لظروفٍ محدودةٍ على صعيد الزمان والمكان، وأصبح من الضروري استبدالها بأحكام جديدة تتناسب مع الظروف الجديدة.
وفي ضوء هذا فإننا لا نجد أن هنالك إلغاءً من الرسالة اللاحقة للرسالة السابقة، بل إنَّنا نلاحظ امتداداً لكل منها في داخل الأخرى، وإذا كان هناك حديثٌ عن النسخ، فإنَّه لا يشمل الرسالة كلها، بل يختص ببعض أحكامها، تماماً كما يقع النسخ في داخل الرسالة نفسها، وذلك مثل نسخ القبلة – في الإسلام – من بيت المقدس إلى الكعبة.
وليس هناك إلغاءٌ للكتاب، فلم يلغ الإنجيل التوراة، ولم يلغِ القرآن التوراة والإنجيل، بل إنَّه أوحى بأنَّ للنبي أن يحكم بما أنزل الله فيها من أحكامه الّتي لم ينسخها في القرآن، وهذا ما نلاحظه في الإيمان الإسلامي الَّذي يؤمن بالرسل كلهم و﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285] وبالكتاب كله ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران: 119]، في إيحاء بأنَّ الكتاب واحد في مدى الرسالة في فصول متعددة أو أجزاء متنوعة.
وعلى هدى ذلك كله فإنَّنا نفهم من قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ أنَّ الخطاب فيها للأنبياء، فلكل نبيّ شرعة ومنهاج يحرّكه في مرحلته تبعاً لحاجاته وظروف الواقع الإنساني آنذاك، من دون أن ينفي امتداد كل شرعةٍ ومنهاج في الشرعة الأخرى والمنهاج الآخر»[1].
ومن خلاصة ما تقدم، يتضح أن سبب الجدل حول إمكانية التجديد في الدين من عدمها يقوم على أساس الخط بين مفهوم الدين المضاف إلى الله المعبّر عن القيم الكبرى ذاتها، وأديان «الملل التشريعية» المتعلقة بالتطبيقات والكيفيات والصور التي شرعت لتحقيق الغايات، ومن طبيعتها الاختلاف باختلاف الزمان والمكان، إلى جانب دعوى صلاحية كل تشريع نبوي لكل زمان ومكان، وإنما الصلاحية والدوام متعلق بالقضايا الدينية الكبرى التي عبرنا عنها بدبن الله.
فمن اعتبر التشريعات المرحلية – التي أتى بها الأنبياء أو من بعدهم من علماء ملتهم – من الدين الذي يتسم بالثبات والديمومة، فإنه يمنع التفكير في أي شكل من أشكال التَّجديد، ويعتبره نوعاً من أنواع الإلغاء والتبديل للدين الصادر عن الحكيم. وأما من يميز بين الأمرين فإنه لا يمانع من التّجديد فيما يقبل التجديد، ولا يعتبر ذلك إلغاء لشي من نظريات الدين الصادر عن الله.
عوائق في طريق التَّجديد والإصلاح الخطاب الديني
أقدّر أن التجديد الديني واقع بالفعل منذ أيام النبي نفسه، فقد كان – كما جاء في الروايات – يأمر بأمر أو ينهى عنه لغاية معينة، فإذا تحققت الغاية وزالت العلة ألغى الأمر والنهي لتعود الأمور إلى طبيعتها، ومن ذلك ما روى أحمد بن حنبل (ت241هـ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، وعن الأوعية، وأن تحبس لحوم الأضاحي بعد ثلاث. ثم قال: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة، ونهيتكم عن الأوعية فاشربوا فيها، واجتنبوا كل ما أسكر، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تحبسوها بعد ثلاث، فاحبسوا ما بدا لكم»[2].
وقبل ذلك ردّ القرآن على من اعترض على مسألة التجديد والتغيير في الآيات التي اتبعها القرآن لتحقيق هدف التثبيت والبشرى، فقال: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ١٠١ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ١٠٢﴾ [النحل: 101-102]
ووصف القرآن الكريم من اعترض على مسألة التجديد والتغيير بـ«السفهاء» فقال: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 142 – 143].
واستمر التجديد في زمن الصحابة فألغى أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ بعض التشريعات وشرعوا أخرى كل ذلك في ضوء ما فهموا من مُجمل الدين وظاهر نصوص القرآن الكريم وسيرة النبي المبلِّغ.
وكذلك فعل أئمة الفقه المعتبرون حتى أن الشافعي اكتفى عن الشهود في النكاح بالإشهار لكونه يحقق الغرض، ولم يشترط أبو حنيفة الولي للبالغة لتحقق الغرض بوعيها بما تفعل بنفسها. وأسقط أبو حنيفة نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة بحجة أن الإسلام قد صار عزيزاً من دونهم، ومسائل كثيرة لا تُحصى.
ولكننا ابتلينا في الوقت الحاضر بتيارات شديدة الجمود سطحية الفهم، تريد أن تقصر كل التشريعات على ما تم إنتاجه سلفاً سواء جاء عبر النص الأصلي أو كان موروثاً من اجتهادات السابقين. ومن أهم أساب ذلك الجمود:
1. خلط الفكرة الموصوفة بدين الله مع التشريعات والتطبيقات التي أتت لتحقيق المعاني السامية وفرض القيم الإنسانية، بحيث صارت التطبيقات والتشريعات التي تم إنتاجها للتعبير عن الدين هي الدين ذاته، وبالتالي أخذت قُدسيته وباتت وكأنها مقصودة في ذاتها، بحيث لا يمكن تحقيق الدين في سواها.
2. تقديس المنتج التاريخي الذي أفرزته حركة الحياة وجادت به عقول وتجارب السابقين، ثم التهيب بعد ذلك من مخالفته؛ تارة بحجة أنه فهم السّلف وله ماله من المكانة، وتارة بدعوى أنه مما أجمع عليه السابقون ولا يَصلح آخر الناس إلا بما صلح به أولهم، وتارة بسبب التخوّف من تشنيع العامة عند مخالفة المألوف. وأهم من كل ذلك أن منتج الاسلاف قد تحول إلى تراث مذهبي وأضفى عليه الاتباع حالة قدسية حتى بات يخيل إليهم أن أيّ مسعى للتحديث فيه إنما يأتي في إطار تفكيك عُرى المذهب والنّيل من أئمته والتقليل من شأن رموزه.
3. غياب المؤسسات المؤهلة التي تتولى عملية التجديد والإصلاح بشكل مستمر ومنتظم، على أن تكون متمكنة ومفوضة ومتنوعة بحيث يشارك فيها المتنورون من مختلف المدارس الدينية وغيرهم من ذوي الاختصاص كلٌ في مجال تخصصه، كعلم الاجتماع والصحة والمال وعلم النفس والبيئة وكل ما له مدخل في التشريعات والاحكام وبيان العلل والأسباب وآثار النفع والضر، كل ذلك في ظل استحضار النص الديني الثابت كالقرآن الكريم وفي ضوء استيعاب طبيعة ما تضمن من أنواع الخطاب ومقاصد التشريع.
وأخيراً..
أرى أن جماع الأمر في مجال التجديد والإصلاح الديني، يتمثل في: احترام النص الديني أولاً لكونه يتمتع بميزة خاصة، لذلك لا بد من التأكد من التثبت من صحة كونه نصاً دينياً وليس من الملصقات التي كثيراً ما نجدها في أديان وشرائع ومذاهب الناس. والتفريق بين طبيعة النص الديني المتعلق بالأفكار والمبادئ، والنص المتعلق بالكيفيات والتطبيقات المناسبة لطبيعة الحال ومقتضيات الظروف. على أن يكون أي تجديد وإصلاح مجرد اجتهاد بشري لا ينبغي تحويله إلى حالة دينية لازمة، ولا يسمح له بأن يلغي ما سواه سواء مما سبقه في الماضي أو اختلف عنه في الحاضر.
فجميع التشريعات التي يتم انتاجها للعمل التطبيقي يمكن التعامل مع الاصلح منها سواء كانت قديمة أم جديدة، وليس لأحد أن يختزل الحق والصواب فيما يراه هو، حتى وإن استند إلى أدلة دينية يعتقد صحتها.
وفي جميع الأحوال ينبغي ان يبقى النص الديني على حاله دون أي تغيير فيه الفاظه أو سياقه، ولا يطوّع بشكل تعسفي ليخرج عن سياقه التاريخي، ويكتفى بالتمييز بينه وبين الاجتهاد التجديدي في ضوئه وكفى.
هوامش:
- من وحي القرآن، تفسير العلامة محمد حسين فضل الله، ج 8/199 – 200.
- مسند أحمد بن حنبل حديث رقم: (1237).