س: هل صحيح أن علماء اللغة يرفضون الاستشهاد بالحديث النبوي في مجال اللغة لاحتمال روايته بالمعنى؟
ج/ هذا الزعم غير صحيح على إطلاقه، فهناك خلاف بين العلماء في هذه المسألة، والأكثرية مع صحة الاستشهاد بالحديث النبوي فهو الأصل، وحتى مع التسليم جدلاً أن الأصل هو الرواية بالمعنى فما هي النتائج السلبية الخطيرة التي ترتبت على ذلك والرواية بالمعنى تمت في زمن الفصاحة وقبل فساد اللسان، والرواة هم من أهل ذلك الزمان. كما أن اختلاف ألفاظ الأحاديث يرجع في جزء منها أنها لم تكن كلها أحاديث قولية فمنها الكثير مما هو إخبار عن النبي عليه الصلاة والسلام، ومنها ما أصله قولي لكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا.
س: متى ظهرت هذه الدعوى؟
ج/ ظهرت دعوى أن علماء اللغة يرفضون الاستشهاد بالحديث النبوي في مجال اللغة لاحتمال روايته بالمعنى، متأخرة في القرن السابع الهجري على يد أبي الحسن بن الضائع الإشبيلي (ت686ه)، وتلميذه أبي حيان الاندلسي (ت745ه)، ولم تكن معروفة قبلهما.
س: ما مذاهب علماء اللغة في الاستشهاد بالحديث النبوي؟
ج/ بالإجمال هناك ثلاثة مذاهب في شأن الاستشهاد بالحديث النبوي في مجال اللغة، وعلى النحو الآتي:
– المذهب الأول: وهم المجيزون مطلقا الاستشهاد بالحديث النبوي ثقة بفصاحته؛ بوصفه مروياً باللفظ والمعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد، كما أن الصحابة والتابعين الذين نقلوا الحديث النبوي هم من أهل زمن من يستشهد بكلامهم بوصفه من الكلام الفصيح قبل شيوع اللحن في اللغة العربية.
وينقسم استشهاد هؤلاء العلماء بالحديث النبوي إلى مرحلتين؛ ففي المرحلة الأولى كان هناك كثير من العلماء الأقدمين الذين بنوا أصولهم وقواعدهم على كلام الله تعالى وكلام العرب الفصحاء، إلا أنهم كانوا يستشهدون بالحديث النبوي في كتبهم، وتفاوت استشهادهم بالحديث النبوي على النحو الآتي:
1- الاستشهاد العارض بالحديث النبوي ودون الإشارة إلى أن العبارة حديث: ويمثلهم أبو عمرو بن العلاء وتلميذه الخليل الفراهيدي صاحب الريادة في الاستشهاد بالحديث والأثر، ثم تلميذه سيبويه، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة الدينوري، والزجاج، وأبو هلال العسكري.
2- الاستشهاد الواسع بالحديث النبوي: ومن أشهر علماء اللغة القدامى الذين استشهدوا متوسعين بمفردات الحديث النبوي وتراكيبه، وأساليبه اللغوية: جار الله الزمخشري الذي استشهد بالحديث: لغةً ونحواً وصرفاً في (أساس البلاغة، والفائق في غريب الحديث)، وابن جني في (الخصائص) الذي استشهد بالحديث في مواضيع كثيرة لإثبات أبنية كثيرة، بل احتج بكلام الصحابة كالصديق في مسائل لغوية، وأبو محمد دستورويه، وابن خالويه، وأحمد بن فارس، والمبرد في كتابيه (الكامل والمقتضب) وأبو علي الفارسي في كتابه (الحجة) حيث احتج بالحديث: نحوا وصرفا ولغة، وروى الأحاديث بأسانيدها، ووثق متون الأحاديث أو ضعفها، وأبو البركات الأنباري، ومكي القيسي.. وأما الكوفيون فقد اعتمدوا على الحديث كثيراً في استشهاداتهم.
3- وفي المرحلة التي أعقبت ظهور مزاعم ابن الضائع وتلميذه أبي حيان الأندلسي؛ ظهرت مجموعة كبيرة من أبرز علماء النحو واللغة الذين توسعوا في الاستشهاد بالحديث النبوي، وقاموا باستقراء الأحاديث النبوية واستخلاص ما جاء فيها من قواعد جديدة أثبتوها أو استدركوا بها على قواعد النحاة الأوائل مما ورد في الأحاديث ولم يرد مثله في القرآن الكريم ولا فيما جمعه النحاة من كلام العرب الفصحاء. وأبرز هؤلاء: [ابن خروف، وابن مالك صاحب الألفية، وابن هشام الأنصاري في قطر الندى وشذور الذهب، والأشموني، وابن الطيب المغربي، وابن الحاجب صاحب الكافية والشافية والأمالي النحوية، ورضي الدين الاسترابادي شارح الكافية الشافية لابن حاجب، وابن منظور صاحب لسان العرب، والفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط، والعقيلي صاحب شرح ابن عقيل، والسمين الحلبي صاحب الدر المصون.].
س: هل كانت هناك جهود علمية لغوية أخرى في دراسة الحديث النبوي؟
ج/ نعم؛ فقد تجلى اهتمام علماء اللغة بالحديث النبوي بــــ (علم غريب الحديث)، وهو العلم الذي يدرس الألفاظ اللغوية البعيدة المعنى والغامضة التي تحتاج إلى شرح وإيضاح في الحديث النبوي، وعلم غريب الحديث فن قائم بذاته ألفت فيه مؤلفات عديدة. وبدأ الاهتمام به مبكراً من قبل معظم علماء اللغة العربية، بدءاً من أبي عبيدة المثنى، فالأصمعي المشهور، وقطرب، وأبي عبيد بن سلام، وابن قتيبة الدينوري، والمبرد اللغوي، والأنباري، والزمخشري، وابن الأثير صاحب (النهاية في غريب الحديث والأثر) الذي يعد النهاية في هذا الفن، وأكبر مرجع في غريب الحديث.
كما صدرت كتب درست الحديث النبوي دراسة نحوية؛ ومن أبرزها: (إعراب الحديث النبوي) لأبي البقاء العكبري، و(شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح) لابن مالك، و(عقود الزبرجد في إعراب الحديث النبوي أو عقود الزبرجد على مسند الإمام أحمد) للسيوطي.
– المذهب الثاني: وهم المانعون مطلقاً، وأبرزهم أبو الحسن بن الضائع، وتلميذه أبو حيان الأندلسي، وتابعهم جلال الدين السيوطي.. وعللوا رفضهم أن الحديث النبوي نقل بالمعنى مما يعرضه لتغيير الألفاظ، ووقوع اللحن من الرواة لأن أكثرهم كانوا غير عرب.
لكن كلاً من أبي حيان الاندلسي وجلال الدين السيوطي تراجعا عن موقفهما المؤيد لرأي أبي الحسن بن الضائع، وإشاعة لشبهاته والترويج لها؛ فبعد تعمق تجربة أبي حيان في البحث النحوي، وبعلوم الحديث الشريف وحقائقه: ممارسةً وتطبيقاً في كتابه: البحر المحيط؛ ظهر تخليه عن تقليده لشيخه أبي الضائع في الامتناع عن الاستشهاد بالحديث النبوي كما بدا في كتابه (ارتشاف الضرب من كلام العرب)، ثم صنف كتابه في تفسير ألفية ابن مالك: (منهج السالك في الكلام على ألفية ابن مالك)، وفيه تأكد مذهبه الجديد فأكثر من الاستشهاد بالأحاديث.
أما السيوطي الذي كان في مراحل حياته الأولى مقتدياً بأبي حيان في رفض الاحتجاج بالحديث النبوي، ويراه نحوي العصر ولغويّه ومفسّره، ومحدثّه، ومقرئه ومؤرّخه وأديبه؛ فقد حدث له ما حدث لشيخه أبي حيان بعد أن تعمق في البحث النحوي، وتابع علوم الحديث وروايته حتى أصبح إمام المحدثين والنحاة في عصره، وصار يستدل بالنصوص النبوية في استدلالاته النحوية كما في كتابه (همع اللوامع) الذي ضم 132 حديثاً شريفاً بين شواهده. (2)
– المذهب الثالث: وهم الذين اتخذوا موقفاً وسطاً بين المجيزين مطلقاً والمانعين مطلقاً، وكان المدافع عن هذا المذهب الإمام الشاطبي تلميذ أبي حيان الأندلسي. وقد قسم هذا الفريق الأحاديث إلى أقسام في قبول الاستشهاد بها؛ ما بين قسم لا يجوز الاستشهاد به وهو ما يعتني ناقله بمعناه دون لفظه. وقسم يجوز الاستشهاد به وهو ما يعتني ناقله بلفظه لمقصود خاص كالأمثال النبوية، وكأحاديث فصاحته.
س: كيف رد العلماء على حجج المانعين للاستشهاد بالحديث النبوي؟
ج/ انتقد الإمام الشاطبي المانعين مطلقا لأنهم يرفضون الاستشهاد بالأحاديث الصحيحة في الوقت الذي يستشهدون فيه بكلام أجلاف العرب. كذلك اعترض بعض العلماء على حجة (أن الحديث نقل بالمعنى) بأن نقل الحديث بالمعنى كان مقيداً بمعايير التشدد في الضبط والتحري في النقل للأحاديث، كما أن اليقين ليس مطلوباً في احتمال النقل بالمعنى، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية. وما دام الراوي/المبدل عاش في عصر يحتج بشعر شعرائه فمن باب أولى أن يحتج بما رواه وبما نقله الرواة عن النبي وإن بدلوا لفظاً ما فهو مما يصح الاحتجاج به، كما أن الخلاف حول جواز النقل بالمعنى عند من أجازه إنما هو فيما لم يدون ولم يكتب، وأما ما دون وكتب فلا يجوز بالإجماع التصرف فيه ولا تبديل ألفاظه بوجه من الوجوه.
وفي المقابل فقد عرفت رواية الشعر وكلام العرب كثيراً من التبديل والتحريف، بل وتأليف الأشعار ونحلها لكبار الشعراء القدامى، وبرز من هؤلاء: ابن دأب، وخلف الأحمر، والكلبي وإخوانهم، ولم يمنع ذلك من الاستشهاد بالشعر العربي القديم كما هو معروف.
أما بالنسبة للقول إن أكثر رواة الحديث كانوا من الأعاجم غير العرب؛ فقد أوضح المنتقدون إن تدوين الحديث بدأ في مرحلة مبكرة في عهد النبي ﷺ ثم بدأ التدوين الموسع في زمن الخليفة عمر بن العزيز (ت101ه)، والعصر كان عصر السليقة والطبع اللغوي فلم تكن اللغة قد فسدت وشاع اللحن، فلم يكثر اختلاط العرب بالأعاجم إلا في العصر العباسي (132ه)، ولم يأت عهد رواة الحديث المتأخرين كالبخاري ومسلم والنسائي إلا وقد كان معظم ما في كتبهم معروفاً في الكتب المصنفة قبلهم.. كما أن الرواة الأعاجم ليسوا حجة فقد كان أئمة النحو واللغة من الأعاجم مثل: سيبويه، ورواة الأشعار فيهم كثير جداً من الأعاجم، ولم يمنع ذلك من الاستشهاد بالشعر.
س: ما التفسير العلمي لظهور مذهب الامتناع عن الاستشهاد بالحديث النبوي؟
ج/ قدم د. فخر الدين قباوة تفسيراً لذلك، وأعاده إلى سببين هما: النهج التقليدي لقدامى النحاة -وخاصة في المرحلة الأولى- بسبب ضعف صلتهم بعلوم الحديث النبوي وروايته وأحواله، وانكبابهم على محفوظات القرآن الكريم والنثر والشعر القديم بوصفه مصدرهم الاستدلالي الأوحد، والذي صار نهجاً سائداً. وكان لشيخ النحاة سيبويه – بعد انصرافه عن علوم الحديث- دور حاسم في إحداث انتكاسة بعد أن كان شيخه الخليل الفراهيدي قد نجح في كتابه (الجمل) في تعزيز أهمية الاستدلال بالحديث النبوي في علوم اللغة.
أما السبب الآخر فهو الدور الذي قام به كل من أبي حيان الأندلسي تلميذ أبي الضائع، وجلال الدين السيوطي في الترويج لآراء أبي الضائع بكل ما يمثلانه من شهرة وقوة تأثير علمية في زمنهما. (3)
س: ما هو موقف علماء اللغة في العصر الحديث؟
ج/ انقسم علماء اللغة المعاصرون إلى قسمين ما بين مؤيدين للاحتجاج بالحديث وما بين معارضين.. وكان أبرز المؤيدين هو الشيخ العلامة محمد الخضر حسين (شيخ الأزهر السابق) الذي وضع إفادة خاصة في الموضوع لمجمع اللغة العربية في القاهرة، وقرر المجمع بعد مناقشة الموضوع إقرار معظم اقتراحات الشيخ في كيفية الاحتجاج بالحديث النبوي في أحوال خاصة هي:
1- لا يحتج بحديث لا يوجد في الكتب المدونة في الصدر الأول كالكتب الستة فما قبلها.
2- بالنسبة للصحاح يحتج بالحديث المدون فيها على الوجه الآتي:
– المتواتر المشهور.
– الأحاديث التي تستخدم ألفاظها في العبادات.
– الأحاديث التي تعد من جوامع الكلم.
– الكتب التي كتبها النبي ﷺ لبعض الأشخاص، وبياناً لبعض الأحكام في الزكاة وغيرها.
– الأحاديث المروية لبيان أنه كان يخاطب كل قوم بلغتهم.
– أحاديث الرواة المعروف أنهم لا يجيزون رواية الحديث بالمعنى؛ مثل: القاسم بن محمد، ورجاء بن حيوة، وابن سيرين.
– الأحاديث المروية من طرق متعددة وألفاظها واحدة.
س: هل توجد دراسات حديثة في مجال الاحتجاج بالحديث النبوي؟
ج/ انتعشت الأبحاث العلمية العصر الحديث في هذا المجال، مع ازدياد القناعات العلمية بأخطاء الممتنعين عن الاستشهاد بالحديث النبوي في علوم اللغة العربية والضرر الذي ألحقوه بها، ومن الأمثلة على هذه الأبحاث:(4)
– الأساليب اللُّغويّة الشّائعة في الأمثال النّبويّة.
– المقاصد الأسلوبيّة للاستفهام في لغة الحديث الشّريف.
– أسلوب المدح والذَّمّ في لغة الحديث النّبويّ.
– النحاة والحديث الشريف حتى القرن التاسع.
– أسلوب النداء في صحيح البخاري.
– الجموع في أحاديث الموطأ.
– أساليب اللزوم والتعدية في الأحاديث القدسية.
– أسلوب الاستفهام في أحاديث الموطأ.
– الحديث النبوي في معجم العين.
– معاني الحروف الجارة في اللؤلؤ والمرجان.
– الاستشهاد بالحديث في معجم الصحاح.
– مواقع الاعتراض النحوي ومقاصده في أحاديث الموطأ-دراسة تطبيقية.
– الصفات اللغوية في أحاديث صحيح مسلم: صيغة ووظيفة ورتبة.
– الأفعال الناقصة في صحيح البخاري: دلالة وتركيباً وعملاً- دراسة تطبيقية.
– التركيب النحوي في سنن النسائي.
– الجملة في أسلوب القص النبوي- أحاديث البخاري نموذجاً.
– التركيب اللغوي في الحديث الشريف فيما اتفق عليه الشيخان.
– غريب الحديث وأثره في علوم اللغة والبلاغة.
– الحديث النبوي في المعجم العربي حتى نهاية القرن الرابع.
– الحديث النبوي في المعجم العربي من بداية القرن الخامس إلى نهاية القرن التاسع.
– الاحتجاج بالحديث النبوي في شروح ألفية ابن مالك.
– الصورة الفنية في الحديث النبوي الشريف.
س: هل هناك توافق بالضرورة بين المانعين للاستشهاد بالحديث النبوي في اللغة وبين الرافضين أو المتحفظين على ظاهرة الترادف في اللغة؟
ج/ لا.. ليس هناك توافق بالضرورة، بل إن من أبرز المؤيدين للاستشهاد بالحديث النبوي هم من أبرز المتحفظين على ظاهرة الترادف اللغوي مثل: أبي علي الفارسي، وأبي هلال العسكري، وأحمد بن فارس، وابن درستويه، والراغب الأصفهاني صاحب المفردات في غريب القرآن.
س: هل يعنى منع الاستشهاد بالحديث النبوي في اللغة لاحتمال روايته بالمعنى أن هؤلاء المعارضين يرفضون كون السنة النبوية وحياً إلهياً؟
ج/ لا تلازم بين الموقفين؛ فأبو حيان الأندلسي أحد أبرز المانعين للاستشهاد بالحديث النبوي في اللغة والنحو والصرف هو نفسه الذي يبرر موقفه خشية أن بعض الرواة قد يخطئ في نقل أحاديث النبي الكريم والرسول وأصحابه بريئون من اللحن: [والمعلوم أن حديث النبي ﷺ هو وحي من الله سبحانه ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ {النجم: 4} مثله مثل القرآن كما جاء في الحديث الصحيح (.. أوتيت القرآن ومثله معه) فحاشا الوحي أن يجري عليه الخطأ.].
يثير البعض الغبار على حجية السنة النبوية بحجة أنه قد تم نقل الحديث في مجمله بمعناه لا بألفاظه التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوجد ما يضمن أن مقاصد النبي لم تتغير بتغير ألفاظه وفقاً لقاعدة (أدنى تغيير في المبنى يؤدي إلى تغيير في المعنى).
التوضيح (5)
– من الثابت أن العرب كانوا يتمتعون بذواكر قوية قادرة على الحفظ حفظاً تاماً، وهو الثابت عن العرب في عصور التدوين ناهيكم عن عصر صدر الإسلام والخلفاء الراشدين، والصحابة، وما بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، وكذلك حفظ العرب الشعر الجاهلي وشعر عصر الإسلام والعصر الأموي قبل عصر التدوين، وحفظوا أمثالهم وحكاياتهم اعتماداً على الذاكرة، وكلها معتمدة يندر أن يشكك فيها أحد.
– إن الأصل المجمع عليه عند علماء الأمة المحققين أن رواية الحديث وقعت باللفظ والمعنى لا بالمعنى فقط كما يزعم البعض، لأن تحريف الألفاظ كتحريف المعاني منافيان للأمانة والعدالة والصدق، وما كان الصحابة والتابعون ليقدموا على ذلك بأي حال.
– ومن المعلوم أن الرواية بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة، وكانت استثناء أو رخصة نادرة الوقوع، فقد كان الصحابة يروون السنة مع الحرص الشديد على ألفاظها ومعانيها، وكانوا إذا اضطر أحدهم إلى رواية بالمعنى في لفظ من عنده؛ نبّه على هذا حتى لا يظن ظان أن ذلك اللفظ من كلام النبي ﷺ. وفي كل الأحوال فإن الرواية بالمعنى على ندرتها لم يجزها العلماء إلا في الراوية الشفهية عند الضرورة القاهرة وفي أضيق الحدود، أما في تدوين الحديث في كتب فلم يجز علماء الحديث إبدال اللفظ النبوي، وإذا شك الراوي فإن عليه أن ينبه على ذلك بأن يقول: أو قال… كذلك فإن مخرجي الأحاديث يحرصون على ذلك كأن يقولون: (شك من الراوي). وأحياناً يضيف الراوي عبارة أو جملة توضيحية بين أجزاء الحديث، وهذا الأمر وضع له رجال الحديث ضابطاً أسموه (الإدراج) أو (المدرج) ليميزوا بينه وبين متن الحديث النبوي.
– كان النبي الكريم يحث أصحابه أن يرووا عنه الأحاديث باللفظ والمعنى، وثبت أنه نهى البراء بن عازب عن تبديل لفظ واحد عندما وضع لفظ (ورسولك) بدلاً من (ونبيك) في حديث آخر ما يقوله المؤمن قبل أن ينام. وأشهر حديث رواه الصحابة بلغ مبلغ التواتر بعدد لا مثيل ومنهم العشرة المبشرون بالجنة هو حديث: (… وحدثوا عني ولا حرج ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
س: هل يؤثر نقل الحديث النبوي بمعناه لا بألفاظه على دقة فهم مقاصد النبي ﷺ؟
– عرفنا أن ثمة شروطاً دقيقة لقبول الرواية بالمعنى، ومن ثم فإنه من المستحيل أن يؤدي استبدال لفظ من قبل عالم باللغة ومقاصد الحديث إلى تبديل معنى الحديث.
– لا توجد قاعدة تقول إن (أدنى تغيير في المبنى يؤدي إلى تغيير في المعنى)، فهناك كلمات عديدة في اللغة مختلفة كثيراً ومع ذلك تدل على معنى واحد: (بيت- سكن- دار)، (انظر فصل الترادف في اللغة).
– إن نقل الحديث النبوي قد تم بجهود هائلة وبمعايير عالية الدقة: سنداً ومتناً لم تعرفها أمة من الأمم، وقد سبق الحديث عن ذلك، ورواية الحديث بالمعنى حدث في زمن ما قبل فساد اللسان العربي ومن صحابة عاشوا زمن الوحي وتنزلاته، وهم ممن يستشهد بفصاحتهم كغيرهم من رواة الشعر العربي وشعرائه المعاصرين لهم.
– الأصل في رواية الحديث هو: منع الرواية بالمعنى مطلقاً؛ بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين عارف بمعاني الألفاظ أو غير عارف، لأن الضبط هو أحد شروط قبول الحديث، وأن يكون الشخص الذي ينقل الحديث ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، وهذا مذهب كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، ومذهب الإمام مالك ومعظم المحدثين، ومذهب الظاهرية.
– الرأي الآخر في هذه المسألة هو الترخص في الرواية بالمعنى ولكن بشروط دقيقة؛ وللعالم بمدلول الألفاظ والمرادف لها على وجه الوجوب؛ أي من كان عالماً بالألفاظ ومدلولاتها ومقاصدها، وخبيراً بما يحيل معانيها، وبصيراً بمقادير التفاوت بينهما، وقاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه. ولأصحاب هذا الرأي حجج عدة لتأييد رأيهم؛ ومنها:
أ- إن أمر النبي الكريم لأصحابه بتبليغ سنته المطهرة في الوقت الذي ينهى فيه عن كتابتها دليل على جواز روايتها بالمعنى، فلو كان اللازم أن يؤودها كما سمعوها بأعيانها بلا زيادة أو نقصان، ولا تقديم ولا تأخير؛ لكتبها الصحابة الكرام.
ب- النبي الكريم نفسه كان يذكر المعنى الواحد في كلمات متعددة بألفاظ مختلفة.
ج- المعروف أن الصحابة كانوا يؤدون الأخبار: حفظاً وكتابة، ويقدمون ويؤخرون، وتختلف ألفاظ الرواية فيما لا يتغير معناه، فلا ينكر ذلك، ولا يرون بذلك بأساً، لأن المقصود المعنى دون اللفظ، باستثناء أنواع من الأحاديث أو النصوص التوقيفيَّة والألفاظ التعبُّدية مثل أحاديث الدعاء التي يحرص على أدائها بلفظها.
د- الرخصة في قراءة القرآن على سبعة أحرف، وهي عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ بدون اختلاف في المعنى.
ه- أخبر الله تعالى عن قصص موسى وفرعون وكذلك قصص الأنبياء في القرآن بغير لغاتها، وبألفاظ مختلفة في معنى واحد.
– الرواية بالمعنى ليست أمرا جزافياً، والمقصود بها:
أ/ إبدال لفظ مكان لفظ مثل: (صبوا وقعد بدلا من أريقوا وجلس).
ب/ رواية الحديث أو الأثر بالاختصار فيه أو الزيادة بما لا يؤثر في المعنى.
ج/ الرواية بأوضح مما جاء في الحديث أو الأثر.
د/ الرواية بتقديم بعض ألفاظ الحديث أو الأثر على بعض، أو تأخيرها.
ه/ الرواية بتغيير الراوي الكلام المروي من تركيب إلى تركيب آخر يساويه في المعنى (لفظ آخر غير لفظه) كأن يقول في حديث: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء) = (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب دلو ملأى من الماء على بول الأعرابي).
– إن المشكك في حدوث تغيير مقاصد النبي الكريم في أحاديثه في حالة تغيير بعض الألفاظ عليه أن يقدم الدليل على كلامه بأمثلة واضحة لا تقبل التأويل، ولا يكتفي برمي الشبهات فالبينة على من ادعى، ولا سيما أن الحديث ليس متعبداً بتلاوته فالمقصود به المعنى وليس اللفظ، فلم يتعبد الله المؤمنين بتلاوته ولم يتحداهم بنظمه كالقرآن، ولذا تجوز روايته بالمعنى بشروط وثيقة حددها علماء الحديث كما سلف.
– اختلاف ألفاظ الأحاديث يرجع في بعض الحالات إلى أنها لم تكن كلها قولية، فكثير منها ما هو إخبار عن النبي الكريم، ومنها ما أصله قولي لكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا.
– أما في عصر التابعين وأتباع التابعين فقد ظل كثير من الرواة يؤدون حديث رسول الله بلفظه ونصه حتى في الحروف، وكانوا يقيدون نسيانهم رغم قلته بل ندرته بقولهم: (أو كما قال، أو كما ورد، أو نحوه، أو شبهه).
1- للمزيد في موضع الاستشهاد بالحديث النبوي:
أ – رواية الحديث والأثر بالمعنى: دراسة نظرية تطبيقية، د. خالد بن مساعد الرويثع، نسخة إلكترونية.
ب – موقف النحاة من الحديث النبوي الشريف، د. يحدر غضبان الجبوري، موقع شبكة جامعة بابل.
ج – المجلس العلمي، موقع الألوكة.
د – موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث النبوي، د. خديجة الحديثي، نسخة إلكترونية.
ه – الحديث النبوي في النحو العربي، د. محمود يوسف فجال، نسخة إلكترونية. وله بحوث أخرى في المجال نفسه مثل: السير الحثيث إلى الاستشهاد بالحديث في النحو العربي، وارتكاز الفكر النحوي على الحديث والأثر في كتاب سيبويه، وتحقيق كتاب: تخريج أحاديث الرضي في شرح الكافية لعبد القادر بن عمر البغدادي.
و – الاستشهاد بالحديث النبوي لحل المسائل النحوية خلال كتاب: إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك، لابن قيم الجوزية: دراسة نحوية صرفية إحصائية، إعداد/ صالح موسى محمد إبراهيم، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، نسخة إلكترونية.
ز – توظيف الحديث الشريف في البحث النحوي، د. فخر الدين قباوة، القسم الثاني، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد83، الجزء4، نسخة إلكترونية.
ح – كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها، عماد السيد محمد إسماعيل الشربيني، الفصل الأول، المطلب الثالث: شبهة رواية الحديث بالمعنى والرد عليها. موقع المكتبة الشاملة.
ط – حكم رواية الحديث النبوي بالمعنى، د. عبد العزيز أحمد جاسم، مجلة بجوث السنة، جامعة قطر، العدد العاشر، 1422ه-2001م، نسخة إلكترونية.
ي- جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي الشريف، د. محمد طاهر الجوابي، 1986، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، نسخة إلكترونية.
2- توظيف الحديث الشريف في البحث النحوي، مصدر سابق.
3- المصدر السابق.
4- انظر: الأبحاث الثلاثة الاولى في موقع إسلام ويب. وسائر الأبحاث الأخرى في: توظيف الحديث الشريف في البحث النحوي، مصدر سابق.
5 – انظر مقالات: الاحتجاج بالحديث النبوي في مجال الدراسات اللغوية. ومصطلح الحديث ورجاله، ص42.