تناولنا في ثلاث حلقات شهادة القاضي عبد السلام صبرة على حكم الإمامة، ونرى أن نختم بكلامه عن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) الظافرة.
يقول صبرة:
وأخيرًا، نتكلّم عن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) الظافرة، والخاتمة بجهاد وجهود اليمنيين الذين قاوموا الظلم والاستبداد والاستعلاء منذ بزوغه، والذين قدّموا الأرواح الكثيرة رخيصة، ورووا بدمائهم الأرض وشجرة الحرية اليمنية التي لم تذهب – رغم طول المدة وتكرار النضال – هباءً وسُدًى، بل قد تكلّلت بنجاح الثورة “الستّمبرية” التي قضت على الحكم العفن ومخلّفاته إلى الأبد.
وأصبح الشعب ينعم بالثورة وبمنجزاتها الكثيرة، ومنها – على سبيل المثال – التعليم، الذي كان ضيّقًا ومحصورًا في عهد الإمامة على فئات في بعض المدن، وكانت المدارس هي المساجد في أماكن محدودة، أو مدارس قد أُنشئت، وعددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
وللعلم، ما كانت إقامة المدارس أو التعليم في المساجد عن رغبة صادقة من الإمام، ولكنها كانت حينذاك دعاية الشكل، سياسية المحتوى.
أمّا المدارس في الحاضر، فهي منتشرة في طول البلاد وعرضها، وهذا العلم هو نور وحقّ من حقوق المواطنين، بدون تمييز أو احتكار، جاء مع الثورة وأهدافها.
أمّا في حقل الصحّة، فقد كان الإمام يفرض التمائم والكيّ، وما يعتاده الناس من الأعشاب، ويحتكر الطب والعلاج لنفسه ولأسرته ومحبّيه. ولم يبنِ في هذا السبيل أيّ عمارة، عدا ما تركه الأتراك، أو ما بناه من مصحّات في بعض المدن الرئيسية، قاصدًا بذلك التغطية.
ولم يكن يستطيع الوصول إلى مثل هذه المصحّات المعدودة والخالية، إلّا من استطاع إليها سبيلًا من الوجهاء والمقرّبين والقادرين، وهم أقليّة قليلة، بينما الأكثريّة يعانون المرض والموت.
غير أن الثورة قد جاءت بالعدد الكثير من المستشفيات والمصحّات والأطباء، واعتبرت العلاج حقًّا من حقوق الشعب، وقد يُسفَر إلى الخارج من استعصى علاجه في الداخل.
وقد كان هذا من المستحيل في أيام الإمام، ولا يعرف مثله أبناء الجيل عن عهد الإمام.
أمّا المواصلات، فقد كانت الإمامة تسعى لأن يظلّ اليمني يمشي على رجليه، أو راكبًا على الحمار أو الجمل – إذا كان يمتلكهما – بحيث تقضي على اللقاء والتجمّع وما قد ينجم عنهما من تعارف.
ولهذا، لا تجتمع قرية بقرية أخرى، أو عزلة بعزلة أخرى، إلّا بمشاكل، ومن الصعب أن تلتقي ناحيةٌ بناحيةٍ أخرى، أو محافظة بمحافظة، ولهذا كانت الجفوة قائمة بين المواطنين.
لكنّ الثورة جاءت لتقضي على مثل هذه الجفوة، وأصبحت المواصلات البرّية والبحرية والجويّة تجمع بين الإخوة اليمنيين في الساعات، التي كانت تُقطع في أيام الإمام بالأيّام والشهور.
وكذلك القوات المسلّحة. فالجيل ما كان يعرف كيف كان الجيش النظامي الجائع، الجاهل، الحافي، الذي كانت تُقطع مرتّباته القليلة مقابل قيمة الحصيرة والملابس الملوّنة والرديئة، وكان يرجمه الإمام في التنافيذ فوق الشعب.
وقد كان “الجيش الدفاعي” اسمًا بلا جسم، قاصدًا به تغريم المواطنين، بأنهم يُجنَّدون في كلّ المراكز بالقوة، ويُرمى بهم في العرضي لفترة، ثم يُتركون، ويُطلَب بديل عنهم من الآخرين. وليس لذلك من مغزى غير التغريم والإلهاء والإذلال.
وكذلك “الجيش البرّاني”، الذي كان يُجعَل منهم عُرَفاء وأفراد، ويُدفَع لهم صرف من الطعام وشيء رمزي من النقود، ويُركَّز على الخلاف بينهم وبين الجيش النظامي في المراكز.
وهكذا، لم يكن باقٍ مع الإمام في الأخير غير “الجرمل”، يُسلّح به حرَسه الخاص، وعَكفته، وحرس أولاده.
أمّا معظم الجيش، فكان مسلّحًا بما تركه الأتراك (كالموزر، والبِشْلِي، والسَّك)، وكذلك الأسلحة الثقيلة التي كانت عتيقة وبالية، وما اشتراه في الأخير من إيطاليا من أسلحة ثقيلة كانت معدودة ومخزونة.
والحاصل، أنه ما كان يوجد مثله جيش في التخلف والجهل والعراء، في أي شعب من الشعوب، حتى المتخلّفة والفقيرة.
والمعروف الآن، كيف أصبح الجيش: تدريبًا، وتعليمًا، وتسليحًا، وتنظيمًا، وغذاءً، وكساءً، وكفاية برًّا وبحرًا وجوًّا.
كم نحن اليوم سعداء، ومرتاحو البال والضمير، بوجود الثورة والنظام الجمهوري.
ونرجو أن تنمو وتكبر ثورة الشعب، وتنفّذ أهدافها كاملة، ويَشمل خيرها جميع أفراد الشعب، وينعم بالأمن والعدل والتطوّر والازدهار.
وألّا تبقى أيةُ شائبة من شوائب العهد المُباد ومثالبه، وأيّ شيء من مخلفاته التي تُسيء إلى الثورة أو النظام الجمهوري، أو يستفيد منها أعداء الثورة، ومن يحنّ إلى العهد المنقرض الذي لن يعود.