الصحوة 739 || 2000/9/7م
ولو بحثنا قليلاً في صفحات تاريخنا اليمني في فترات ما بعد الإسلام لوجدنا كماً من الأوراق التي يظللها السوء والسواد ولأصابتنا الفاجعة وأسرتنا الدهشة لهول ما اعترى تلك الفترات من مآس وآلام وأحداث مروعة وفظيعة أصبحت اليوم طي النسيان خاصة عند من يقلقهم تقليب أوراقها والبحث في وقائع أحداثها المفزعة والمخزية في آن واحد..
فعلى الرغم من محدودية فترة الاستقرار التي نعمت بها اليمن بعد أن أنعم الله على أبنائها بنعمة الإسلام إلا أنها ابتليت سريعاً وبعد زمن قصير لا يكاد يصل إلى ثلاثمائة سنة بوصول فكر عنصري أثار بين أبناء اليمن فتنة صراع شرس اتسم بالغلو والتشدد وتكفير اتباع المذاهب الأخرى حيناً وبالوحشية والإبادة والنهب والسلب وإفناء الآخر وإنكاره حينا آخر.
وقد استمر هذا الصراع طويلاً ليصل إلى أكثر من ألف عام أججته خلال ذلك أطماع سلطوية سياسية ومادية واجتماعية ونفخت في نيرانه الحمراء شهوة الرغبة في السيطرة والتملك والاستعباد والاستيلاء على البلاد والعباد تحت قناع ديني وغطاء مذهبي وجلباب سلالي.
ألفية الفزع والهلع
سنوات وعقود وقرون من الرعب والخوف- الذي لا يمكن تخيله – عاشها شعب اليمن وسط صرخات الفزع والهلع عمل كثير من الأئمة خلالها في سبيل إنجاح مشروعهم السلطوي السياسي على تنمية ايديولوجية الحقد والإلغاء والإنكار بكل ما تحمله الكلمات من معنى – ومن أجل فكرة خاطئة وشهوة خادعة وحياة فانية أخذ تيار الإمامة يعمل على تغليب فكره الضيق الأفق وإرغام الناس على اعتناقه والتسليم بما جاء فيه بغض النظر عما يقوم عليه من إفناء للآخر وتفسيق وتكفير وإقصاء للمخالفين في الرأي. وإثارة للأحقاد والضغائن والنعرات وممارسة القتل والتدمير والتخريب والنهب والسلب والسبي واستباحة في صورة تاريخية مأساوية كان الرائد فيها التعصب المذهبي السلالي المتستر بالدين الإسلامي المعروف عنه أنه دين التسامح والعدل والمساواة والرحمة ولم يصل الأمر إلى ذلك فحسب بل طالت أيديهم الملوثة كل من يشك في ولائه للمخالفين ولو كان من نفس السلالة والمذهب. وأخذ التمييز العنصري يصول ويجول ليأخذ بزمام أمور كثيرة تتمثل في الحكم والمكانة الاجتماعية واكتساب العلم والمعرفة وتولي القضاء والزواج ليطال الممارسات التعبدية والألفاظ وأسلوب الحديث مع الناس و…و.. وغيرها كثير.
بداية التحول نحو الاستبداد
منذ قدوم الإمام يحيى بن الحسين من طبرستان ووصوله إلى صعدة عام ٢٨٤هـ / ٨٩٧م يرافقه الكثير من أنصاره المقاتلين وحتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر ١٩٦٢م كانت فترات الأئمة واشتداد عودها وسيطرتها هي أسوأ فترات ومراحل العصبية النتنة والمذهبية المنغلقة والتمييز العرقي والسلالي والممارسة الوحشية ضد الآخر التي واجهها اليمنيون في تاريخهم الإسلامي.
ولما يزيد عن ألف عام غرس الأئمة روح الاستعلاء والتكبر العرقي والأسري بمبررات دينية وروحية واهية ومغلوطة وإثارة للفتن الطائفية والقبلية والمناطقية في صفوف الفئات اليمنية ليسهل تمزيقها وتفريقها ومن ثم السيطرة عليها وتسييرها وفق رغبات الإمام (المعصوم) أو الحاكم (المقدس) فقد كانت صورة الإمام دائماً محاطة بهالة من قداسة وسط تخلف قلما عرفته البشرية.
وفي الغالب قادت السفينة اليمنية خرافات وأساطير وشعوذات امتزجت بالنزوع إلى التقديس للحاكم (الإمام) والإنكار والإبادة للآخر والإلغاء للمخالف والناصح فأصبح الشعب اليمني أغلبه إن لم يكن جميعه- مجرد عبيد مسلوبي الإرادة لا يهتمون إلا بممارسة ماهو مطلوب منهم بالضبط.
صعدة وقصاة الإمامة
وبين رحى الأحقاد والغارات والأطماع استبيحت الأموال وسفكت الدماء واعتدي على الحرمات فصعدة التي كانت موطئ قدم يحيى بن الحسين والحصن الذي عاش فيه وأنصاره القادمون من طبرستان كانت أكثر عرضة من غيرها للتخريب والدمار والهوس الإمامي الأهوج فاستبيحت وخربت ونهبت عشرات المرات.
وعلى سبيل المثال فخلال حكم المنصور القاسم العياني نهبت وخربت صعدة ست مرات وقبلها في أيام حكم أبناء الهادي ٣٢٢ هـ خربت و نهبت أموال أهلها وفعلها أيضاً إبراهيم بن موسى داعية الإمام محمد بن إبراهيم والذي أمر وباشر بخراب سد الخانق في صعدة تأديباً لمواطنيها.
وقد قتل الإمام شرف الدين في الحسينيات – شمال صعدة – الفا وستمائة قتيل. وبدأت الوحشية يصل فعلها إلى خارج صعدة منذ البداية فعندما ثار أهل خولان أيام الإمام البادي ضده أمر بهدم منازلهم وقطع أعناقهم وعلق جثث القتلى على الأشجار.
وغزا الإمام الهادي ٢٩٢ ه بني الحارث بنجران وحاصرهم واستباح مع عسكره أموالهم بعد قطع نخيلهم وتدمير مزارعهم.
في البدء كان المال !
لقد مارس القتلة والظلمة المستبدون خلال تاريخ حكمهم (المظلم) سفك الدماء واستباحة الأعراض ونهب الأموال وتخريب كل ما فيه صلاح للأمة إضافة إلى ممارستهم الدجل والكهانة وإثارة الفتن والاستعلاء بالنسب والتمييز على أساس طبقي وسلالي والاحتقار لكل ما عداهم من أبناء الأمة بغض النظر عن مقياس الخالق عز وجل – لعباده المعروف (التقوى).
وأنا هنا لا أعمم ولكن الأغلب من الأئمة كانوا مصابين بداء العظمة والتمييز والوحشية والحقد والاحتقار وهم من مارس كل ذلك؛ فما بين إمامة الهادي وإمامة عبدالله بن حمزة تعرضت صنعاء للهجوم والنهب والتخريب مرات عديدة فضربت دُورَهَا ونُهبت أموال أهلها على إثر الصراعات التي كانت تدور بين أبناء الهادي وأحفاده وبين مخالفيهم أو كانت في أكثر الأحيان تدور بين الأئمة بعضهم البعض. ومازالت : حادثة النهب والتخريب لصنعاء بعد فشل ثورة ١٩٤٨م شاهدة الحال على المنهجية التي سارت عليها الإمامة طوال حكمها لليمن.
فإلى جانب الجري وراء السلطة كان المال هدفهم الثاني ومنذ البداية، وإلا فما ذنب حجاج صنعاء الذين سجنهم علي بن زيد من آل الهادي ٥٣١هـ في صعدة وهم في طريقهم إلى الأماكن المقدسة واستولى على أمتعتهم وعندما أرادوا أن يستخلصوا أنفسهم منه دفعوا له أربعة آلاف دينار عن كل واحد منهم وأرسلوا من يأتيهم بها من منازلهم في صنعاء.
الحسينيون ووهم العودة
وأتى عهد أحمد بن سليمان الذي دشن عهده بفتوى القبائل نجران يجيز فيها لهم وحدهم النهب والسبي وعمد إلى تخريب دور خصومه وكبس آبار مانهم حتى لا يبقى لهم أثر وبرزت وحشيته أكثر عندما تمردت الجوف على سلطته فجمع حشوده و توجه نحوها لإنهاء التمرد ٥٣٦هـ. وفي أثناء تلك الصراعات التي كانت تجري بهدف توطيد أركان دولة الأئمة ونشر شرها ليعم كل أرجاء اليمن ظهرت فرقة من نفس التيار الإمامي تسمى الحسينية. نسبة إلى الحسين بن القاسم العياني الذي قتل في صنعاء ٤٠٣ هـ أثناء معركته مع منافسه محمد بن الحسين اليزيدي، ويعتقد أفراد هذه الفرقة أن إمامهم الحسين بن القاسم العياني لم يقتل وأن اختفاءه هو غياب تليه عودة قبل الموت الحقيقي واعتقدوا فيه المهدي المنتظر، وأنه حي لم يمت.
البداية للانشقاق الأكبر.
وتحت رعاية الأئمة المتنازعين على السلطة فيما بينهم الجاحدين والمنكرين والمحتقرين لغيرهم ترعرعت شجرة العصبية الخبيثة لتكون باسقة الحقد مورفة الكراهية حمراء الثمر شأن الدماء التي سالت في سهول وجبال وأودية اليمن السعيدة.
فقد شهدت فترة حكم الإمام أحمد بن سليمان بداية أول انشقاق يكشف أوراق الأئمة الباطنة حين انشق عن التيار فرقة سميت بالمطرفية – والتي سنتحدث عنها وتفاصيل مأساتها وإبادتها من قبل الإمام عبد الله بن حمزة لاحقا، وعلى إثر ذلك الانشقاق بدأت الحرب ضد هذه الفرقة فكلف أحمد بن سليمان قاضيه جعفر بن عبد السلام ليقود عملية مواجهة شرسة لأتباع تلك الفرقة وإبادتهم (فكريا) فأخرجهم القاضي جعفر – كان أبوه قاضياً للصليحيين في جبلة – بجداله معهم من الزيدية جملة وتفصيلاً ولم يكتف بذلك بل نفى عنهم اتباعهم للأئمة من آل البيت وذهب إلى تشبيههم باليهود والنصارى ليبالغ أكثر فيشبههم بعبدة الأوثان
نشوان الحميري وجمود الأئمة
من يبحث عن اخبار تلك الفترات من التاريخ اليمني لابد أن يصادفه اسم نشوان الحميري في أكثر من موضع والذي لازال صيته وعلمه وتراثه الفكري الضخم. ، محل فخرنا و اعتزازنا نحن اليمنيين رغم المحاولات الحثيثة لدفن اسمه وتراثه.
إنه العالم والمؤرخ الكبير نشوان بن سعيد الحميري صاحب كتاب شمس العلوم- فأبوه سعيد الحميري كان من الحسينيين القائلين بغيبة الحسين العياني ونشأ نشوان في وسط ثقافي زيدي وشهد جزءاً من الصراع مع المطرفية في البداية وبدأ يتمرد على الحسينية في شبابه خاصة عندما خرج مع علي بن زيد مقاتلاً ثم اتجه إلى مناصرة احمد سليمان الذي ادعى الإمامة ٥٣٢ هـ ولم تدم نصرته طويلاً بسبب إنشاده اشعاراً تنفي غيبة الحسين العياني وتنفي أن يكون هو المهدي المنتظر وقال عنه أنه مات شهيداً. ولم يعجب قوله ذلك الحسينيين فعمد زعماؤهم إلى مهاجمته والرد عليه مما دفع به إلى الانغماس في قراءة اللغة والأدب والتاريخ وعلم الكلام حتى صار من أهم علماء عصره فأخذ يؤكد على أن الإمام ينبغي أن يكون أفضل أهل زمانه علما وأخلاقاً وينبغي أن يكون أيضاً أكرم الناس بصرف النظر عن نسبه، وصدم نشوان بالجمود الذي وجده عند الائمة وأدعياء المذهب وسائر فرقهم وانغلاقهم داخل مذهبهم بحيث لا يأخذون إلا ما يناسب مذهبهم ويرفضون ما يخالفه حتى لو كان صحيحاً.
التقرب إلى الله بالدماء
وفي خضم الجدال الذي ساد تلك الفترة بين نشوان الحميري والأئمة وأنصارهم عبر من خلال إشعاره عن صدمته بانغلاقهم فقال وهو يرد على أهل مذهبه :
إذا جادلت بالقرآن خصمي
أجاب مجادلاً بكلام يحيى
فقلت كلام ربك عنه وحي
أتجعل قول يحيى عنه وحيا
وقصد في البيتين ب”يحيى» الإمام يحيى بن الحسين – مؤسس دولة الأئمة في اليمن – وفي قصيدة أخرى يوضح نشوان صلة المسلمين جميعا برسولهم محمد ﷺ وأنهم جميعاً من آله:
آل النبي هم أتباع ملته
من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن اله إلا قرابته
صلى المصلى على الطاغي أبي لهب
وانتهى الأمر بنشوان إلى أن يدعي الإمامة لنفسه كونه -كما رأى- أكثر علماً وأرجح عقلاً مقارنة بادعياء الحق في امامة المسلمين في اليمن رغم عدم انتسابه إلى آل الهادي وفشلت محاولته تلك فأصبح أحد أهم مجتهدي الزيدية آنذاك وبخاصة في مسائل رفض التقليد وفتح باب الإمامة أمام كل مسلم تتوفر فيه شروط الكفاءة.
وكون الحميري بدأ اجتهاده من داخل الزيدية فقد أصبح علما يحلق فوق المذاهب وإن اضطر لمسايرة القبائل التي تحتكم إليه في القضاء وفقاً للاعتقاد الهادوي.
وبعد وفاته ولي ابنه محمد على خولان مدة من الزمن ثم تنازل عنها بعد فترة قصيرة فحاول الإمام عبدالله بن حمزة قتله عن طريق رجل تم الإيعاز له أنه بذلك يتقرب إلى الله وفشلت المحاولة وقد كان هذا السلوك الغادر هو نفس ما أعوز به عبد الله بن حمزة لبعض أعوانه بقتل يحيى بن أحمد بن سليمان منافسه والذي قتل خنقا بعمامته.
أحرار اليمن طابور متجدد
ما لا يستطيع متعصبو الإمامة اليوم إنكاره أن أبدي عصبية أسلافهم العمياء قد طالت نجوم يمنية كثيرة كان قد سطع نورها الفكري والعلمي في مختلف المجالات ولم يكن الحميري وولده وحدهما من طالتهما تلك اليد الحاقدة والظالمة.
فهناك طابور طويل كان فيه: المقبلي والشوكاني وابن الوزير وابن الأمير والهمداني والجلال والموشكي والإرياني والحورش والعنسي والزبيري والنعمان وغيرهم كثير طالتهم يد الإيذاء والإنكار والإقصاء والجحود خلال ألف عام من الاستبداد والطغيان الإمامي.
وسنتعرض هنا إلى بعض مما لحق بالعالم والمؤرخ الكبير الحسن بن أحمد الهمداني صاحب كتاب (الإكليل ) والذي ساءته العصبية العرقية عند بروزها لدى الشعراء المتعصبين وخصوصاً بعد سيطرة الناصر أحمد بن الهادي على صعدة وتمكينه إياهم من المناصب العليا وإفرادهم بها فأخذوا يتعالون على أهل اليمن ويمقتونهم وبلدهم ويتناولون أعراضهم بالأذى؛ فما كان أمام المؤرخ الهمداني إلا أن يقتحم معممة الصراع العنصري مدافعا عن قومه اليمنيين رافعاً لذكرهم وأنشأ قصيدته المشهورة الدامغة. وتلتها المذهبية وغيرها فلما بلغ المتعصبين أشعاره (هنا هم أحفاد المقاتلين الذين قدموا مع الإمام الهادي من طبرستان حيث أنهم ليسوا من اليمن) ناصبوه العداء ووبخوه بالكلام وأخذوا يؤلبون عليه فأمر الناصر بسجنه ولكن أمره لم ينفذ بسبب تذمر ورفض رؤساء قبيلة خولان بن عامر .
مراجع:
- معتزلة اليمن في القرن التاسع عشر… د. علي محمد زید
- هجر العلم ومعاقله .. القاضي إسماعيل الأكوع