لم تقتصر المعاناة القاسية والمأساة الوحشية والإبادة الهمجية التي لحقت بشعبنا خلال أكثر من ألف عام لم تقتصر على الجسد وحسب ولكنها شملت الجسد والعقل والروح والمال والتراث والكرامة والحرية.
وقد أفرزت الأيديولوجية التي تجذرت في عقول وأذهان الأئمة في تلك الفترات صراعاً مريراً ودائماً كان طرفه الأول هم المتعصبين من الأئمة والمستفيدين من ذلك المستأثرين بكل شيء (الحكم والقضاء والعلم والمكانة الاجتماعية)، وأما الطرف الثاني فكان الشعب اليمني المظلوم وكل العلماء والثائرين ضد تلك العنصرية النتنة والعقلية المتعالية والمتوحشة أو الناصحين لهم ولو كانوا من نفس المذهب أو السلالة.
وبمجيء يوم السادس والعشرين من سبتمبر ١٩٦٢م أصاب الشعب اليمني تلك الخرافة الإمامية والأيديولوجية الحاقدة في مقتل وكانت الطعنة في القلب ليشيع جنازتها ويُواري جثمانها الخبيث إلى مزبلة التاريخ مهيلاً عليها التراب وإلى الأبد إن شاء الله.
فرس الجمل وفارس العصبية
لقد كان الأئمة يخوضون غمار معركتهم البشعة ضد الشعب والحق والوطن مستخدمين فرس الجهل الذي يعم اليمنيين وساعدوا على انتشاره بين صفوف الشعب أما الفارس الذي امتطى ذلك الفرس فهو العصبية العمياء والحقد الأعمى.
وإذا كانت المعركة هذا شأنها فليس بالغريب أن يقوم الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين بنسف بيت كل من تصل عنه وشاية وبالأسلوب هذا كان ينتقم ممن ينوي به شرا. وعندما قيل له إن البيوت التي يأمر بنسقها فيها نساء وأطفال لا ذنب لهم، يجيب المنصور:” الصغار في الجنة والكبار في النار” وهكذا أصدر كلمة عوضا عن الله عز وجل – تعالى الله عما قالوا وفعلوا في عباده-.
وكان الإمام القاسم من قبله قد أباح لنفسه أن يسلط اتباعه على معارضيه وأن يتفاخر بعدد القتلى الذين يتساقطون وبالغنائم الحسنة التي تم نهبها ويدفع القبائل لتخرب وتقتل وتعيث في الأرض الفساد, وسفك القاسم الدماء وخرب الديار وارتكب الجرائم في سبيل عمه (صاحب المواهب) كان يداهم قبائل المشرق ليلا حتى إذا أصبح الصباح عاد بالرؤوس محمولة والأسرى مغلولة والأسلاب مسوقة وذهب إلى قبائل (وادعة) فخرب ديارها وقيد مشائخها وفرقهم على السجون.
التلذذ بسفك الدماء
ويبدو أن مسيرة الوحشية وعقلية القتل والتدمير ابت إلا أن تتواصل وتستمر فالإمام شرف الدين وولده المطهر كانا أيضاً شديدي الوطأة على غير أهلهما ونموذجا آخرا للوحشية والحقد الأعمى وكل ما أججهما من تعصب وغلو ومبالغة وتكفير للخصوم. فقد قتل شرف الدين في الحسينيات شمال صعدة الفا وستمائة قتيل وهاجم في مقدمة كتابه (الأثمار) المؤرخين نشوان الحميري صاحب (شمس العلوم ) والهمداني صاحب (الإكليل) وكان هجومه وإساءته أشد تجاه الإمام والعلامة المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير الذي لقبه بإمام الحشوية وفي ترجمته له قال هذا المترجم له أكثر الناس تخليطا في أمر دينه وعلمه وعمله واعتقاده وكل العدول العلماء من أهل زمانه ومن بعده يجرحه؛ فمنهم من كفره والباقون بين مفسق وجارح ويأتي ولده المطهر لينفذ مانظر له الأب فسحق خصومه المعارضين من أهالي رداع عن بكرة أبيهم عام ١٤١هـ فأتي عليهم جميعاً وقتل خلال المعركة الفا وستمائة رجل وبلغ عدد الأسرى الفين وثلاثمائة.
ضرب أعناق الف منهم وهو راكب على بغلته حتى غطى دمهم حوافرها وأمر أن يحمل كل أسير من الباقين رأساً من رؤوس القتلى وتوجه بهم إلى صنعاء ومنها إلى صعدة وهم على هذه الحال ولما وصل أبواب صعدة قطعت رؤوسهم جميعاً .
وتشير المراجع التاريخية أنه كان يتلذذ بسقوط رأسين معا رأس المقتول في رداع ورأس حامله إلى صعدة)!.
قتل الرهائن وحصار الأب
وادخل المطهر بن شرف الدين ٩٢٩ هـ أغلب المدن اليمنية في طاعته بالسيف وغزا بلاداً كثيرة وأسر الكثير ثم أمر بقطع أيديهم وأرجلهم.
وعندما نشب خلاف بينه وخولان أثناء استقراره في صنعاء ٩٣٤هـ هدد بقتل رهائنهم التي لديه فلم يمتثلوا له فأمر بقتل أكثر من ثمانين شاباً في سن البلوغ وقطعت أيديهم وأرجلهم وتوجه بعدها إلى خولان فدمر ديارهم وقطع اعنابهم واشجارهم وأسر أكثر من ثلاثمائة رجل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وفي عام ٩٩٨ هـ على إثر تحصن الشريف صلاح بن احمد في حصن الطويلة أحاط به المطهر وأصحابه فلما مثلوا بين يديه لامهم وعاتبهم ثم أمر بربط أرجل أصحاب الشريف صلاح وأعوانه كلهم إلى الجمال فسحبتهم على وجوههم حتى تمزقت وتناثرت اشلاء اجسامهم في الطرقات وأمر أن لا يقبروا ولا يدفن الشريف صلاح بعد قتله وظل في العراء أياما كثيرة.
وحصد الإمام شرف الدين ثمار ما غرسه عندما حاصر المطهر واتباعه أبوه في الجراف بعد اختلافه معه وإخوته وكاد أن يعلن الحرب عليهم لولا وصول قوات موالية لوالده فرقت جموعه وأجلتهم من الجراف.
مراجعة الاعتقاد الزائف
وهناك العديد من القصص والحكايات ذكرتها الكتب التاريخية توضح ماكان في ذلك العهد من زيف واعتقاد باطل.
فقد ذكر العلامة المؤرخ إسماعيل الأكوع – حفظه الله- في كتابه (هجر العلم ومعاقله في اليمن).
حكاية تقول أن العلامة أحمد عبدالله الجنداري كان في بداية أمره ملتزما بالهادوية التزاماً كاملاً فكان لا يحضر صلاة الجمعة بحجة عدم وجود إمام يحكم صنعاء حيث كانت بيد الدولة العثمانية وتراجع عن اعتقاده ذلك بسبب موقف حدث له. فأحد العلماء- لم يذكر المؤرخ اسمه- رأى الجنداري ماراً بجوار الجامع فأشار إلى من حضر صلاة الجمعة مخاطبا الجنداري” هؤلاء سيدخلون النار لأنهم صلوا صلاة الجمعة وأنت وحدك ستدخل الجنة لأنك لم تصل معهم لاعتقادك بعدم وجوبها إلا في ظل حكم إمام فقط” .. وعلى إثرها وقر هذا الكلام في نفس العلامة الجنداري وبعد مراجعة مع نفسه رأى أنه على خطأ فيما يعتقد وانتهت سنواته بريادته في علوم السنة.
هذه القصة تجرنا إلى أن نشير إلى أن صلاة الجمعة والجماعة لم تقم في صنعاء من أيام الناصر أحمد بن الهادي حتى أيام الإمام عبدالله بن حمزة بسبب عدم وجود إمام وأيضاً لكون ساكنيها كانوا يسلمون الزكاة للأمراء والسلاطين من غير الأئمة فلا يقبل منهم ذلك إضافة إلى أن ذلك جر على أهل صنعاء غضب الأئمة وإباحتها ونهبها وسبي نسائها وقتل رجالها خلال ألف عام.
الخطاط باق في الذاكرة
أوقع الإمام المهدي عبد الله بقبائل برط وقتل الكثير منهم وشيخهم (علي عبدالله الشائف) وأمر بدفنه في موضع النجاسات ليكون عبرة لمن بعده من المشايخ.
وقتل جنود الإمام القاسم مائة قتيل من أهل (وادعة) ونهبوا أموالهم وخربوا دورهم لينتقل بعدها إلى حجور وغيرها.
ومما يوضح العقلية التي كان يمتلكها الأئمة ماجاء في رسالة من أحد أتباعه اسمه (الشيخ أبوزيد) حيث قال فيها: ” وكذلك أخربوا أموال بيت مأخوذ وبيت حجوش وسحنه اقماهم الله (يقصد أحرقهم ) وبعدهم من رحمته وأسكنهم النار بحق جدي محمد رسول الله و محمد ﷺ بريء من كل ما فعلوا وقالوا وحاشاه أن يرضى بذلك.
وتصدر الإمام القاسم لتحريم الزواج بين اليمنيين الذين يشهدون جميعاً بان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بحجة أن هناك شريفاً أو شريفة بالسلالة وهناك غير ذلك، بل بلغ الأمر أن يفرق بين من خالف ذلك. وأشاع الوهم بين الناس أن من تجرأ على فتواه وأقدم على هذا الزواج التهم أعضاء جسده (البرص).
وكان الإمام المتوكل على الله أحمد بن الإمام المنصور يؤلب القبائل بعضها على بعض ويغريها بالخطاط (والخطاط هو إرسال عدة من الجند على الآمنين من المواطنين في المدن والقرى وعلى المواطن باسم الضيافة أن يقدم لهم الأكل والشرب ومحل النوم كطاعة للإمام الذي أمر بالخطاط) وياويل من يرفض أو يقصر في ضيافته.
والخطاط والتنافيذ من الأمور التي لا يمكن أن ينساها اليمنيون مهما حاول البعض تناسيها شأنها شأن أخذ الرهائن.
مازال أجدادنا وآباؤنا يحكون لنا قصص دخول عسكر الإمام بأسلحتهم معرضة مما يجبر المواطنين على تخريب مداخل بيوتهم وجدرانها ليستطيع عسكري الإمام الدخول وهذا من الأمور التي لا يمكن أن تمحى من ذاكرة اليمنيين وتاريخ الإمامة الأسود.
النسل الأرقى
ومن بعض طرائف الحكايات التي نذكرها للإلمام بما كان عليه الأئمة فالمراجع التاريخية تذكر ان الإمام يحيى حميد الدين كآبائه كان يناقش الناس في المقابلة العامة بعض فضائل الآل ويستمد اللعن من السامعين لاعداء الآل وفي ذات يوم حضر أحد الموظفين وهو تركي الأصل وطلب من الإمام أن يقضي حاجته فقال: “الإمام حتى نصل إلى فتوى” وكان يناقش مع الجالسين عنده هل يجب ألعن الخليفة معاوية -رضي الله عنه- أم تترك كالتطوع وهو أمير نفسه ليلتفت الإمام إلى التركي قائلاً: ما رأيك أنت ؟ فأجابه: أنا من تركيا وأنتم عرب يلعن بعضكم بعضا!
ويذكر زيد بن عنان في كتابه «مذكراتي» أن الإمام يحيى عندما رأى ثوباً مصريا مع أحد تجار صنعاء (إسماعيل غمضان) ولا يوجد في صنعاء منه مع أحد إلا الإمام فاستنكر ذلك وقال مخاطباً التاجر “مازد خليتوا للإمام”.
وعندما رأى عمائم مذهبه مع عرسان في وادي ظهر استنكر ذلك وقال: “مازد خلوا لأولاد الإمام”
ومما ذكره زيد بن عنان في مذكراته أن الإمام أحمد حميد الدين كلف الحاج ناصر المحويتي صيام رمضان بدلاً عنه، مؤكداً أن العلامة زبارة أكد له ذلك حينما سأله، رغم عدم وجود عذر شرعي يمنعه من الصيام.
الحقد يطول حتى الأسماء
ووصل تعصبهم الأعمى إلى الأسماء والألفاظ فقد استنكر أحدهم – عبدالله بن الإمام يحيى حميد الدين على (محمد المطاع) تسمية ابنه بفاروق تيمنا بلقب الفاروق عمر بن الخطاب وتسمية ابنته هند على اسم هند بنت عتبة ام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ليغيظ المتعصبين بذلك فيخاطبه عبد الله قائلاً: “خير الأسماء ما عبد وحمد”… فأجاب عليه المطاع: “وهذا هو لقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولا ضير فيه” !!
وحكاية أخرى تقول أن الإمام يحيي كان يسخر من آل الوزير أبناء عمومته في عهده لأن جدهم العالم الإمام محمد بن إبراهيم الوزير سمي ابنه عثمان وسميت قريتهم في بني حشيش بقرية بيت عثمان مما جعلهم محل سخرية الإمام يحيى.
الخاتمة من العهد القريب
ونختتم التطواف لألف عام من تاريخ اليمن في عهد الإمامة البائدة بذكر بعض ما حدث في أعظم وأفظع مأساة تجرعت كأسها بلادنا اليمنية وعانى من وحشيتها شعبنا خلال ذلك العهد ولنقف قليلا مع بعض ما حدث في القرنين التاسع عشر والعشرين فالإمام الناصر محمد بن القاسم كأبيه من قبل عرف سفاكاً للدماء لمجرد الظنون والشكوك وقتل أحد العلماء لهذا السبب واصاب الناس في عهده رعبا وهلعاً وخوفا من بطشه. ففر الكثيرون حتى من أقربائه وبعض أولاده.
وفي عهد الإمام يحيى بن حميدالدين دخلت قواته إلى يريم ۱۳۲۹ هـ فنهبت بيوتها وحوانيتها ولم يبق شيء حتى وصل الحال بعسكره ان يأخذوا ما في أعناق النساء وآذانهن ومعاصمهن من الحلي ومن استعصي عليه نزعها بقطع اليد وبتر الأذن بصورة وحشية تشمئز لها النفوس وقتلوا في ذلك اليوم ثلاثين إنساناً أكثرهم من النساء والأطفال .. فقال في ذلك القاضي يحيى الإرياني (والد) الرئيس السابق القاضي عبد الرحمن) قصيدة شعرية طويلة تصور المأساة والجريمة الشنيعة ونقتطف منها بيتين
فكم من ضعيف قد أذيق بظلمهم
عذاباً من التنكيل والهتك للحرم
وقطعهمو أذن الشريفة واقع
لقرط حقير لايقوم بالقيم
نهب التراث العلمي وإبادته
وكان الطاغية أحمد حميد الدين شريراً تطربه رؤية الدماء ويهزه منظر الضحايا يتساقطون من حوله فكانت لا تهدأ ثورته إلا برؤية دماء تسيل وهناك حكايات كثيرة تدل على ذلك لا تكفي هذه المساحة لسردها وعندما كان وليا للعهد قام بمصادرة كتب علماء بيت الفقيه وغيرها من بلاد تهامة ونفائس أثريائها وكلف المقحفي بجمعها ونقلها إلى حجة.
المراجع:
- هجر العلم ومعاقله للقاضي إسماعيل الأكوع
- تيارات معتزلة اليمن لعلي محمد زيد.
- مذكرات المقبلي لـ( حسين المقبلي).
- مذكرات عنان لزيد عنان.