رغم وصفه المثير “شيخ مشاغبي العصر وإمامهم” الذي أطلقه عليه الكاتب الصحفي فهمي هويدي، يظل الصَّمت المطبق المضروب حول المفكر والفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي منذُ اعتناقه للإسلام ونشره لكتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية ” مثار استغراب واستفهام كبيرَيْن؛ فمن “مشروع مثقف القرن” بفرنسا إلى منبوذٍ بغيض عدوٍّ للسَّامية ضُرِبَ بينه وبين العالم جدار، إن لم يكن قد حُكِمَ عليه بالإعدام حيًّا في شقة متواضعة في ضواحي عاصمة الأنوار باريس.
قصة المفكر الفيلسوف الثمانيني مثيرة وغريبة، لا يمكن فهْمَها بدون معرفة الظروف التي عاشها هذا الرَّجل وتحولاته الفكرية التي حكمت عليه أن يعيش بقية حياته منبوذًا منسيًّا بعد أن شَغَل الدُّنيا وشَغَلَ النَّاس؛ فكرًا وسياسةً وفلسفةً وثقافةً، بمعرفته الموسوعية التي طافت شتى فروع المعرفة الإنسانية بحثًا عن الحقيقة.
إلا أن نقطة التحول الكبرى، بل الانقلاب الأكبر في حياته، هو اعتناقه للإسلام الذي “قتل جارودي”- بحسب تعبير عنوان مقال للكاتب والصحفي الجزائري المقيم في فرنسا هادي يحمد، الذي زار جارودي في منزله بباريس عام 2005.
لكن المخفي المعلن في قضية جارودي هما قضيتان اثنتان، إسلامه، وكتابه المشهور “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”؛ أمَّا القضية الأولى فقد عبر عنها بشكلٍ صريح الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي الشهير جان بيرك الذي قال: “إنَّ يوم إسلام جارودي يومٌ أسود في تاريخ الحضارة الغربية”!
وأمَّا القضية الثانية- موضوع الكتاب- فقد أثارت ضده موجة من النَّقد والعداء لدرجة محاكمته التي انتهت بِمَنْعِه من النشر والظهور الإعلامي، وتغريمه ماليًّا تحت ذريعة “معادة السامية”!
بالنسبة لموضوع إسلامه فقد كان بمثابة ضربة قاصمة لفرنسا وأوروبا، بحسب تعبير الفيلسوف جان بيرك, أمَّا بالنسبة للمسلمين فقد كان يومًا مشهودًا احتفى به المسلمون في أوربا وغيرها، لما يتمتع به الرجل من مكانة عظيمة في قومه؛ إذ يمثل أعظم فلاسفة الغرب في القرن العشرين، ومنظر الماركسية الأوحد قبل ذلك، فضلًا عما لاقته كتاباته الغزيرة والتي بلغت 54 كتابًا، والتي تُرْجِمَتْ لأكثر من 22، لغة من اهتمامات واسعة في أوساط الغرب والشرق الفكرية والسياسية والثقافية، ناهيك عن مكانته السياسية التي أحرزها في المعترك السياسي الفرنسي، والذي ظل لما يقارب 14 عامًا عضوًا في اللجنة الوطنية بالبرلمان الفرنسي، فترك هذا كله متخليًا عن مجده وانتصاراته، وهو في أوج عنفوانه.
لقد كان يدرك جارودي تمامًا أي مصير ينتظره بعد اعتناقه الإسلام, ومع هذا فإنَّ مبدأ الحرية الذي يؤمن به جارودي كعقيدة لا فرق بينها وبين معتقد الإيمان الذي تَسَرَّب إلى قلبه، ومن ثَمَّ لم يَخَفْ جارودي من مصيره؛ لأنَّ الحرية هي مصيره، وأي شيء غير الحرية لا يريده.
بكلمة واحدة قالها في المركز الإسلامي في مدينة جنيف السويسرية صبيحة الثاني من يوليو تموز عام 1982، قالها مُلَخِّصًا أكثر من نصف قرن من البحث عن الحقيقة باعتناق الإسلام، وهو يدرك تمامًا أي تبعات لهذه الكلمة، ويعلم جيدًا أنَّ الجميع سيتنكرون له، وأنهم لن يباركوا مثل هذا الصنيع من رجل في حجم جارودي ومكانته.
ومع هذا كله، فجارودي في مجال الحق والحرية لا يخاف لومة لائم، فالحرية عند جارودي دين ومعتقد، فضلًا عن هذا فإنها قبسات إيمانية تسللت إلى قلب الرجل المثقل بالبحث والتنقيب عن لغز حيّر الفلاسفة من أرسطو حتى جارودي نفسه؛ إنه لغز الإيمان الذي حيّر الفلاسفة والعباقرة على مرِّ التَّاريخ.
قد تقف حائرًا لا تدري من أين تبدأ حديثك عن رجل شرّق وغرّب بفكره في بحور المعرفة الإنسانية، تاركًا بصماتٍ واضحةً في حقول المعرفة، أنارت دروب الكثير من الحيارى الباحثين عن الحقيقة المطلقة في هذا الكون بعد أن ضلوا في صحارى الفلسفات والأيديولوجيات والنظريات البشرية القاصرة التي زجّت بالعقل البشري في سرابٍ من الأحكام الخادعة وكل هذا النظريات كانت تدعي أنها تنشد الحقيقة لا سواها.
ومن هنا ندرك ذلك السر الذي دفع فيلسوفًا كجارودي ظل عُقُودًا من الزمن متنقلًا بفكره، ومدفوعًا بقلق فكري يعتمل في داخله، متجوِّلًا بين الأفكار والأديان والمذاهب، حتى انتهى به الأمر مُلحدًا، أو مدافعًا في نفس الوقت عن فكرة الماركسية الإلحادية ردحًا من الزمان.
بداية الفيلسوف وفلسفة البداية
ولد المستر روجيه جارودي لأبوين ملحدين في مدينة مرسيليا الفرنسية سنة 1913، فنشأ في أسرة لا تعترف بالأديان قاطبة، ومع ذلك لا تخلو من الجدل والنقاش الذي أكسب الفتى ميلًا للجدل الفلسفي، مما كان له أثرٌ كبيرٌ في تشكيل شخصية جارودي المثيرة، والتي بدأت وكأنه يجمع بين المتناقضات، ويحب الطيران في الفضاءات المحرمة، فكان مسيحيًا كاثوليكيًا، وعضوًا في الحزب الشيوعي الفرنسي منذ سنة 1933 حتى 1997، واصفًا خلال هذه المرحلة كيف عاش تجربة كير كغارد وماركس في الوقت ذاته، وإن كانت الماركسية هي الأقرب وجدانًا إلى قلبه؛ لأنها كانت “مانشت” العصر العريض و”موضته” السائدة، وإن كان جارودي لا يؤمن بموضة الأفكار، بل يعتنقها بمحض إرادته واختياره، ما وافق ذلك عقله وضميره.
لم تكن الفلسفة عند جارودي مجرد شهادة دكتوراة حصل عليها من أشهر الجامعات الغربية (السوربون) الباريسية سنة 1953، بل كانت الفلسفة عنده تجربة حياة طويلة من البحث والإيغال العميق في فضاءات المعرفة الإنسانية، وهي قبل كل شيء قناعةٌ عقلية وجدانيةٌ، يأنس إليها العقل والوجدان في نهاية مشواره الطويل من البحث عن نقطة التقائها، التي ظل يبحث عنها في ركام الأفكار والآراء والمذاهب.
كان جارودي يرى بعد أن تبين له هول الزيف والهرطقة التي تمارسها المسيحية بمذاهبها المحرفة المختلفة من كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذوكسية.. كان يرى في الماركسية “المدينة الفاضلة” التي طالما ظلَّ الشعراء والفلاسفة والمصلحون يحلمون بها وينادون بالسعي إليها وتحقيقها على أرضِ الواقع، ومع ذلك فقد ظلت خيالًا يتغنون به إلى أن جاءت الفلسفة الماركسية لتقوم على أنقاض الكنيسة مدينة فاضلة. وسرعان ما تبين لجارودي زيف هذا الادعاء، وأن “يوتوبيا” البلاشفة في موسكو لم تكن غير نسخة أخرى لبيروقراطية الكنيسة في روما!
وهكذا تبين لجارودي أنَّ دولة اليوتوبيا هذه في طريقها إلى مزبلة التاريخ عاجلًا غير آجل، متنبئًا لها بهذا المصير قبل وقوعه بوقت قصير، فصدقت نبوءة الرجل بعد عشر سنوات بالتحديد، وهذه النبوءة تَحَمَّلَ نتيجتها بقرارِ فَصْلِهِ من الحزب الماركسي الفرنسي سنة 1970 تحت ذريعة تشكيكه بحقيقة الاشتراكية الروسية.
هذا المصير المشئوم للماركسية طالما حذَّر منه جارودي، لأنه رأى فيها انعكاسًا متماثلًا لرأسمالية الغرب مع استبدال ديكتاتورية بارونات المال بديكتاتورية الحزب أو دكتاتورية البلوريتاريا، فبقي الطرفان في خندق واحد وعند مصلحة واحدة. ومن هنا، فإنَّ الحضارة الغربية بِشِقَّيْهَا الماركسي والرأسمالي ينتظرهما مصير واحد، وهو مزبلة التاريخ!
ما البديل إذن؟
من ألطاف الله على هذا الرجل تلك الحادثة أو القصة الغريبة التي حدثت له وهو يقضي عقوبة السِّجن في إحدى السجون الفرنسية في الجزائر عام 1945، إذ كان سجنه على خلفية المظاهرات العارمة التي قادها يساريون فرنسيون ضد النِّظام الفرنسي القائم حينها، فأُودعوا السجن، وهناك في أحد سجون مدينة قسنطينة الجزائرية، قاد جارودي تمردًا عنيفًا على سلطات السجن, وعلى إثر ذلك, حُكِمَ عليه بالإعدام.
أوكلَ تنفيذ الحكم بالإعدام في حقِّ جارودي لأحد الجنود الجزائريين الذين كانوا يعملون في صفوف الجيش الفرنسي، الغريب في الأمر, التصرف الذي أقدم عليه الجندي، حينما رفض تنفيذ حكم الإعدام في جارودي، بحجة أنه أَعْزَلُ من السلاح، فذُهِل جارودي الإنسان من تصرف هذا الجندي ومنطقه في تبرير ما أقدم عليه, بقوله: “إنَّ دينه لا يسمح له أن ينازل خصمًا أعزل من السِّلاح”.
لقد تركت هذه القصة أعمق الأثر في حياة جارودي، فتوجه بفكره صوب هذا الدِّين الذي لا يسمح لأحد من أتباعه أن ينازل خصمًا أعزل من السلاح، فظل الرجل يقرأ ويتعمق في تفاصيل هذا الدين العظيم الذي لم يكن يعرف عنه جارودي غير صورة مشوهة وناقصة مبتورة تلَقَّاها في دراسته, وقرأها في الفكر الغربي، الذي صوَّر الإسلام – غالبًا – كدين وحشي همجي ليس فيه أي مكان للإنسانية.
ويومًا فيومًا تكشَّف لجارودي من خلال قراءته المتعمقة والمتأنية في الإسلام الكثير من مبادئ وقيم هذا الدين العظيم، التي تتجلى فيه الإنسانية في أعظم صورها وأسماها، كما راعه في الوقت ذاته ذلك التشويه والتحريف لصورة الإسلام في الفكر الغربي، فانطلق يدافع عن الإسلام، فألّفَ الكتب، وكتبَ المقالات الكثيرة دفاعًا عن الإسلام قبل أن يعتنق الإسلام بفترة كبيرة، فكان كتابه “وعود الإسلام” الذي ألفه قبل إسلامه أهم ثمار تلك المرحلة، والذي قال فيه: إنَّ الإسلام هو البديل الأنسب لإنقاذ البشرية مما هي فيه من ظُلم وشقاء وضياع وتخبط، وأن لا سعادة للبشر إلا في هذا الإسلام.
وبعد إسلام جارودي حمل معه خلفية ثقافية وفكرية من الماركسية والمسيحية مكّنته هذه الخلفية من أن يسبر أغوار الحضارة الغربية، ويفند كل ادعاءاتها الكاذبة فيما تدعو إليه، منطلقًا من منظوره الفكري الجديد في التعامل مع الكون والحياة، المنبثق من نظرة إسلامية شاملة لها، ورغم اختلاط الكثير من القناعات لديه، فقد بقي الإسلام هو الدين الوحيد الذي سلم من أي تحريف في مبادئه الأساسية.
ويعتبر جارودي أنَّ الإسلام مَكَّنَهُ بالعقل من بلوغ نقطة التوحيد بينَ العقل والوجدان، في حين يقوم القرآن على اعتبار الكون والبشرية وحدةً واحدة يكتسب فيها الإنسان الدور الذي يسهم في فهم معنى وجوده، وأي غياب لسياق خالق الكون في حياتنا تجعلنا عبيدًا هامشيين خاضعين للعديد من الاعتبارات الخارجية.
وعن الحضارة الإسلامية يقول جارودي: إنه لن يحصل الفصل والتخزين بين الأشياء في الإسلام، فالعالم متصل باليقين، والعمل مرتبط بالإيمان، والفلسفة مستوحاة من النبوءة، والنبوءة متصلة بالله، وبالتالي فإن هذه الوجدانية في مفهوم الحضارة ومفهوم الجماعية يحتاج إليها عالم اليوم في كل شيء، وهذا ما جذبني نحو المفهوم الإسلامي للوجود. ويضيف جارودي من جهة أخرى: إنَّ ما يجعل الإنسان إنسانًا هو إمكانية تحقيقه للمقاصد الإلهية، وفي استطاعته أن يلتزم بالعهد، أو أن ينفعه، والإنسان حر هنا، ومسئول مسئولية كاملة عن مصيره. ويؤكد جارودي على أن القرآن خالد وأبدي، ويستطيع في كل وقت وزمن من التاريخ أن يُفَهِّمَنا ويُوَضِّح لنا الطريق أو الصراط المستقيم، وهناك الكثير من الأفكار التي تستحق التأمل والقراءة لها في عدد من الكتب التي ألّفها بعد إسلامه.
ومن هذه الكتب: “الإسلام دين المستقبل”، “المسجد مرآة الإسلام”، “الإسلام وأزمة الغرب”, و “حوار الحضارات”, و”كيف أصبح الإنسان إنسانًا”, و”فلسطين مهد الديانات السماوية”، و”مستقبل المرأة”. وترك في هذا الجانب ما يربو على الأربعين كتابًا، أهمها هو كتاب: “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، والذي فنّد فيه مزاعم الإسرائيليين فيما يزعمونه من وقوع اضطهاد، وأكذوبة “الرقم الذهبي” -6 مليون يهودي أحرقوا!- والذي يبتزون به الضمير العالمي.. ولقد واجه جارودي حملة ضاريةً في أوروبا بعد صدور هذا الكتاب، وحُوكِم بسببه.
شاهد على سقوط
وكما أسلفنا فإنَّ جارودي أقبل إلى الإسلام حاملًا معه تجربته الطويلة والثرية في النصرانية والماركسية، مؤكدًا أنه وجد في هذا الدِّين ما كان يبحثُ عنه في غيره سابقًا، ويرى أنَّ ذلك هو حصيلة بحث متواصل عن المطلق. وقد رأى في الإسلام البديل الممكن والأمثل للحضارة الغربية، إذا ما خرج عن انكفائه على ذاته، وتخلص من خصوصياته الشرقية، وقراءة أهله له بعيون الأحياء لا بعيون الأموات، وانفتح على مشكلات العالم الأساسية.
ويرى جارودي أنَّ الديمقراطية الغربية ليست النظام الأمثل الذي يمكن أن يحل مشكلات العصر الرئيسية، وذلك أنها- ومنذ بداياتها- قامت على أساس التفرقة والتميز، وأنها في النهاية ذريعة لبسط مزيد من السيطرة على العالم لصالح الطرف الأقوى، وهو الغرب.
ويرى جارودي أنَّ صدام الحضارات الذي تروج له دوائر صناعة القرار في الغرب ليس بأمر حتمي بقدر ما هو خيار غربي لاستكمال حلقات السيطرة على العالم وأمركته.
ويؤكد جارودي أنَّ الحضارة الغربية تكمن فيها عقيدة ملعونة ظلت تلاحقها منذ الإغريق واليهودية إلى اليوم، وهي: “عقدة الاستعلاء والتفرد” التي ستكون سبب في انهيارها. ويرى أنَّ الحضارة الغربية عملت على فصل الثقافة الإغريقية عن أصولها الشرقية، وعملت كذلك على تهويد النصرانية، وتنكرت لدور الثقافة الإسلامية التي أيقظت أوروبا، وأخرجتها من قرونها المظلمة، وبالتالي فإنَّ حضارة تقوم على مثل هذه العوامل التي تحمل فيها جرثومة الفناء لا مستقبل لها سوى الانهيار!