(من صفحة 19 -23)
وبقينا هكذا طوال شهر ذي الحجة سنة ١٣٥٠هـ وهو يسمع في التقديس للإمام والغلو في حبه وحب أهل البيت ولا يتأثر لأنه كان حكيماً وصبوراً في مناقشته. وعقب عيد الأضحى من ذلك العام وقع حادث محمد ابن الإمام يحيى الذي كان يلقب بالبدر ذلك الحادث الذي غرق فيه في بحر الحديدة فتأثرنا وحزنا عليه وعلى والده كثيراً حتى تمانع أهل المقيل من الحديث عن الحادث لما كان يسبب لنا من حزن وألم، وكنت أنظر إلى المحلوي وهو يبتسم غير مبالٍ ولكنه يسايرنا في الحديث. فصادف يوم الغدير حيث كان يقام احتفال كل سنة يوم 18ذي الحجة يُذكر فيه الإمام علي وكيف أشاد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم بالإمام علي وقال من كنت مولاه فعلي مولاه… إلخ. وقد خرجت أنا والمحلوي من باب اليمن المسمى في الجمهورية باب الحرية خرجنا في جولة وصادف أن الإمام يحيى كان عائداً من الحفل المذكور وما إن رأيته حتى غرغرت عيناي بالدموع من شدة محبتي له فصادف أن اتفقنا بالطبيب القدير لطف حمزة فسلم على المحلوي وبقي يتكلم مع المحلوي بإشارات ورموز فلما فارقنا لطف حمزة والموكب أخذ المحلوي بيدي وتوجهنا طريق جبل نقم لنكمل جولتنا وقد صدمني المحلوي ثلاث صدمات:
الصدمة الأولى/ بدء الخروج من الحياة الأولى:
بعد أن عرف المحلوي قبولي لأفكاره رغم مــا امــتلأتُ به من المعتقدات والخرافات وبعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي كان يسمعها في المقيل مني ومن غيري، وكان المحلوي كما قلت حكيماً في أحاديثه لا يهاجم.. فأول صدمة كانت قوله: أنت تأملت في سيدنا لطف حمزة وثيابه التي لبسها اليوم أحسن من ثيابه التي يلبسها يوم العيد، أتدري لماذا؟ قلت: لا. فقال: لأنه يبغض بيت حميد الدين وإذا حدثت لهم مصيبة يفرح. فقلت له: وما مذهبه وما مراده؟ فقال: إنه يعتقد أن الإمام وأولاده ظلمة وأنهم وبال على اليمن. فقلت: يظهر أنه ناصبي يبغض أهل البيت.. فضحك وحول مجرى الحديث، وبقي يشرح لي عن العلماء الحقيقيين مثل الشوكاني والأمير والمقبلي وغيرهم من علماء السنة، ويملي عليَّ من مؤلفاتهم واعتراضهم على الأئمة من بيت القاسم. وافترقنا وفكري مضطرب، لم أدر علام أحمله؟ ولكني كتمت أمري. وفي اليوم التالي وصل إليَّ المحلوي بعد أن أنجز عمله وأخذ بيدي نحو جبل نقم، واستمر يذكر لي عن العلماء من أهل السنة وفتح لي الحديث عن الإمام محمد عبده، وبقينا متلازمين أربعة أيام حتى ملأ فكري، وما كنت أحكي لأحد ما جرى بيني وبينه إلا على جاري بالدكان وهو عبد الله بن أحمد حسن الثور وكان يقبل مني الحديث.
الصدمة الثانية:
وفي اليوم الخامس تلقيت منه الصدمة الثانية إذ حدثني عن الرجال الأذكياء والفرق بينهم وبين المغفلين والجامدين، فقال: إذا أردت أن تعرف الرجل العارف الذكي فيمكن أن تعرفه بمسألة واحدة فقلت: وما هي؟ قال: إن قال لك إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فهو مغفل متعصب، وإن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الأمر للمسلمين وأن الأمر شورى فهو الذكي الذي يفهم الأمور بحقائقها، فأحسست أن الأرض تدور بي، فلما نظر إليَّ وأنا حائر مبهوت قال: لا تتأثر وعليك أن تطالع بعض كتب التاريخ والتفسير، فرجعت إلى نفسي وإلى ما قد قرأته وطالعت وسمعت؛ قرأت في شرح الأزهار وما للإمامة من مكانة، وكذلك قرأت الثلاثين المسألة ونهج البلاغة ومقاتل الطالبيين وغيرها، وتذكرت بعض المشايخ الذين كانوا يفسرون لنا بعض الآيات والأحاديث على غير حقيقتها وإلى ما قد علق بذهني من القصص والكرامات التي للأئمة والشيعة وأشياء لا يقبلها العقل، بل قبلتها بالتقديس ولا تسأل عما كان يجري علي من أحوال مهولة واضطراب. فكرت حتى سهرت منامي فأول ما طالعته هو تاريخ ابن الأمير ثم فتح القدير للشوكاني والروض النضير للسياغي فعدلت فكري، ومن هنا رأى مني الإقبال والقبول لحديثه والاصغاء إلى كلامه وكل ما حدثني به أحدث به عبد الله الثور.
الصدمة الثالثة:
فتح لي الكلام عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقال: أنشدك الله هل أعمال الإمام يحيى مثل الإمام علي؟ فقلت: لا. وبعد حديث طويل قال إذا أردت الحقيقة فالإمام هو عدو الشعب وسيفقره ويهلكه فصدمني بهذا صدمة كبيرة، فلم يمهلني إلى اليوم الثاني – كما كان يصنع معي عادة – بل وصل إليَّ بعد الظهر وقال: سأقيل عندك، فجلست معه ومعنا علي هاجر فأشبع فكري وسلمت له بكل ما قاله، فما خرج من عندي إلا وهو مسرور ومستريح كأنه فتح بلداً.
وفي اليوم الثاني استعار كتاباً اسمه (خواطر في الإسلام) لعبد العزيز جاويش فقرأته وخرجت مرتاح الضمير ولكن كما يقال: للواصل وصلته، ولكل جديد لذة، وبعد ان انكشفت لي الحقائق ظننت أنني سأهدي الناس وأصلحهم وقد كنت أتكلم بصراحة. فقال: على مهلك تورع واصبر حتى أركب لك ميزان الفكر ومتى ركب ستعرف الحالة، ولا يقدر أحد يضلك وتعرف كيف تكون الدعاية وبقي يسرد لي ما لاقاه الأمير والمقبلي وغيرهم من الرجال المصلحين في سبيل الخير، وقال: إنك ستواجه سبَّاً وشتماً حتى من أقاربك وظل يسرد لي الآيات والأحاديث والقصص التي تشير إلى ما لقيه المصلحون من المتاعب في سبيل الإصلاح.
لقد عرف المحلوي بإدراكه وذكائه ولباقته أنه ما زال لدي بقية من رواسب القديم، وبما أنه غير هاشمي فقد أفسر ذلك بأنه ناصبي فأخبر الشهيد أحمد بن أحمد المطاع وقال له: لقد وجدت ضالة ستفيدنا. وقص عليه ما جرى بيني وبينه واقترح عليه بأن يجتمع بي ويؤيد لي كل ما ألقى إليَّ من أفكار ويؤكدها، وقد نفذ الشهيد المطاع الفكرة فجاء إلى بيت عبد الله السنيدار للمقيل وتعمد أن يجلس بجانبي سارداً لي مساوئ أعمال الإمام والأئمة من آل القاسم وعن علماء السوء المداهنين. وقد استغرق ذلك كل وقت المقيل، ولأن الكلام سيتردد كثيراً عن الشهيد المطاع فيحسن أن نعطي صورة موجزة عن حياته.
محمد المفرح من نواة الثورة والفكرة
(من صفحة 28-31)
ونعود إلى المحلوي فقد التقى في اليوم الثاني بالسيد محمد زيد الملقب بالمفرح أو الأعوج وأخبره عني فوصل إليَّ ووقف بباب دكاني واقترح أن أرافقه في منفعة له فخرجت معه، وظل يدور بي في بساتين صنعاء سارداً لي خلال ذلك أعمال الأئمة والولاة ويقارن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فما رجعت إلا وقد ذهب كل ما علق بذهني من التعليم القديم. ويحسن أن نعطي نبذة عن هذا الرجل:
كان من الرجال الذين يعدون من نواة الثورة ونشر الفكرة، وكان يضاهي الدعيس والمحلوي في أفكارهم وعقلياتهم، وكان رجلاً حكيماً، ومن حكمته أنه لا يستعمل الهجوم بل يرمز رمزاً، وكان يتفرس فيمن له قابلية لقبول الفكرة فيستميله إلى صفه، وقد نشأ في صنعاء وفيها تعلم، وكان كثير المطالعة في كل الفنون ويميل إلى أهل السنة وليس متعصباً، وكان زينة المجالس وكله عقل، يسير مع جميع الطبقات، وكان مجلسه من أحسن المجالس يجتمع عنده من العلماء والأدباء ومن التجار ومن السوقة وكان مع ذلك من الكرماء، وكل الناس يحبون مجالسته ومحادثته حتى القبائل، وله نوادر لا تحصى وأجوبة معجبة ومضحكة ومسكتة.
استدعاه الإمام يحيى ذات مرة وعيَّنه بمعية الذي سيقود الحملة على جبل برع أيام الحرب مع الإدريسي وقرر له مرتباً ثمانية ريالات، وعند سفره لقيه أحد أصدقائه فسأله: هل قررتم السفر؟ قال: نعم. فقال: وكم الراتب؟ فأجاب: ثمانية ريالات و(انهب لي) فصارت مثلاً. وكان نقَّادة ينتقد الولاة ولو كانوا من أسلافه بدون تعصب حدث مرة أنه باع من الإمام يحيى قطعة أرض وكان قد بتَّ في الموضوع مع وكيل الإمام ولكن الإمام لحذقه وشحه رفض ما توصل إليه وكيله واستدعى السيد محمد بن زيد وجعل يساومه أكثر ليحط شيئاً من الثمن، فقال للإمام: (لا تترجلونيش بعدا عيترجلوهم) أي: لا تبالغ في المساومة حتى لا يبالغ من سيشترون من أولادك في المساومة، وهو بهذا يذكره أن حذقه مهما بلغ وهلعه في جمع الدنيا فلابد أن يبيع أولاده ما جمعه فلا يبالغ في الحذق لئلا يبالغ من يشتري منهم بعده..
وذات مرة كان الإمام يحيى في منتزه سَنَع (بفتح العين والسين قرية في ضواحي صنعاء وبها كثير من أشجار المشمش والخوخ والجوز) ونزل المطر بكثرة فقال الإمام: سبحان الله مطر غزير، فقال محمد بن زيد: ولكنّا لا نستفيد منه ولا يستفيد منه إلا البحر، فسكت الإمام ونظر إليه بغضب.
وقد تخرج على يديه كثير من الناس لأنهم كانوا يُقبلون على كلامه وإذا رأى على أحد السامعين اشمئزازاً من كلامه حول الكلام إلى الهزل والضحك، وإذا سمع خرافة حاربها بكلام معقول. حضر في مجلس مع نفر من أهل السوق وإذا بفقيه يملي عليهم كتاباً في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن جملة ما حكاه أن الصحابة اغتصبوا الخلافة عليه وحرموه حقوقه فصاح السيد محمد بن زيد: أنت كذاب وصاحب الكتاب كذاب.. علي بن أبي طالب منزه عن هذا وهو جدي صوَّرته صورة رجل جبان ذليل طماع وهو الذي طلق الدنيا وسفهها.. حتى قلب الحاضرين إلى صفه واستمر يصف علي بن أبي طالب بشجاعته وزهده حتى فرَّ الفقيه من المجلس.
ومن كلام محمد بن زيد: يظن الناس أن اليمن لا يوجد فيها عقلاء مفكرون، مع أنه يوجد رجال أهل عقول، عقول يفهمون الأوضاع كما يفهمون عقلية القبائل، وقد جرت قصص منها أني وصلت إلى عند بعض الشركاء فرحب بي وجلست معه فتناقشنا في بعض الأمور وما يعانيه الناس من ظلم ولعب بالشريعة، فما وسعني إلا أن قلت له: كل هذا سهل يكفينا (الأمان) لمعرفتي بأنه متشيع، فقال: يا سيدي محمد أسمع عنك أنك من العقلاء العارفين، كان الخوف الذي تتحدث عنه محدوداً إذا خرجت من صنعاء أمنت من الدولة وحمتني القبيلة. وإذا خفت من القبيلة حمتني أسرتي وبيتي، أما أنتم خوفتمونا إلى كيس النوم ما حمانا منكم لا قبيلة ولا قرية ولا حتى ابني، وأي خوف أشد من هذا؟
ومما يرويه أن بعض الأئمة من آل القاسم استضاف بعض القبائل للغداء، وقد أكل الإمام معهم، فنظر أحد الضيوف إلى السمن يقطر من بين أصابعه مما يدل على أنه كان يبالغ في غمس يده في السمن، فقال الذي رأى ذلك للذي بجانبه: انظر يا أخي والله إن السمن يخرج من بين أصابع الإمام. فالتفتُ إليه وقلت: اعقل يا مغفل ما لقي النبي قطرتين من الماء إلا بعد ما طلع ونزل جبريل حتى تعب!
عاش محمد زيد مع الأتراك يعيش من أمواله وما كان يحتاج إلى أحد، عاش هادئ البال ومستريحاً في أحسن حال، وفي أيام الإمام لم يعمل في وظائف الحكومة إلا فترات قصيرة. شارك في حرب برع (جبل في غربي اليمن يطل على تهامة) كما تعيّن عاملاً في المخادر، وكان على أشد الخلاف مع الحسن ابن الإمام يحيى لأن المخادر تتبع محافظة إب حيث كان الحسن أميراً فيها.
وذات يوم جاء إليّ محمد بن زيد وقال: اليوم أريد أن نقوم بجولة معاً، فأخذ يطوف بي في بعض بساتين صنعاء وهو يسرد لي الأحاديث عن الإمام يحيى ويقيس لي الفرق بين الإمام علي وأولاده الصالحين، وختم كلامه بقوله: ما أردنا بالتشيع إلا القصور والخيول وابتزاز الأموال، انظر إلى أجدادي بيت القاسم كم خلفوا لأولادهم من أموال وصوافي (جمع صافية وهي مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية) وأفقروا اليمن حتى جعلوا يتفرجوا على الريال (أي أن الريال أصبح لديهم تفرجة يتفرجون عليه مما عز عليهم فأصبح فرجة من شدة فقرهم)، مائتا سنة كانت ولايتهم ماذا خلفوا؟ وماهي المشروعات والمحاسن؟ ويسلوكم (أي يعملون شيئاً لتسليتكم به) بعمارة مسجد أو مسجدين، اعقل الأمور يا ولدي.
وذات يوم خرجت أنا والسيد أحمد المطاع في جولة استمرت أربع ساعات وزودني بمعلومات كثيرة، وقد أعجب بي كما أعجبت به وسألني: أين تجلس؟ فقلت: في البيت لأنني خياط أخيط مضربيات وغيرها. فقال: أحب أن أقيل عندك، فقلت: مع استمراري في الشغل، قال: لا مانع.