من ذكريات الطفولة:
صور من مظالم الأئمة وعمالهم بحق اليمنيين في ريمة
يقال: ” إن ما يراه الطفل في المراحل المبكرة من حياته يرتسم ويرسخ في ذاكرته طيلة عمره، وخاصة إذا كان ما شاهده يتعلق بأحد من محيطه الاجتماعي وتحديدا بأحد من أسرته، ومن هنا لا بد من التذكير بمرحلة من تاريخنا وذاكرة الطفولة الصادقة هي بداية الوعي الذي ينضج مع نضوج المرء.
أ/ ظلم الأئمة الرعية ما زال في الذاكرة:
فلنبدأ بذكريات الطفولة من ذلك اليوم الذي ما زال حيا في ذاكرتي وسيبقى ما دمت حيا حين دخل ستة جنود من حاشد باسم منفذين إلى منزل أسرتنا وفي أيديهم عصي غليظة تسمى (الصمّل) وفوقهم السلاح، وانهال أربعة منهم بالضرب دون سبب على عمي الأكبر الحاج يوسف مهدي رحمه الله، واثنان آخران يحميان الجنود الذين كانوا يضربون هذا الشيخ المسن ضربا مبرحا، وبقية أفرد الأسرة من رجال ونساء يشاهدون ذلك. وقف الرجال في باب والنساء في الباب الآخر والجميع مستغيثون بهم لترك ولي أمرهم من العدوان عليه دون ذنب مما اضطر زوجته أن ترتمي فوقه لتحميه من الضرب وأخذت من الضرب نصيبها دون ذنب، وكان عامل الإمام أيامها يحيى محمد عباس المتوكل قائد الفشل (ويقصد به قائد جيوش الإمام التي نالت الهزيمة في جبال لحج والضالع ويافع ضد الإنكليز)، وعين بعد ذلك عاملا بقضاء (ريمة) مكافأة له، ثم رئيس محكمة الاستئناف من قبل الإمام (أحمد حميد الدين)، وقد قتل أول يوم الثورة ومعه أحد أبنائه. شاهدت هذا المنظر الأليم وأنا في السابعة والنصف من عمري، ولم أكن أعرف سبب هذه الروح العدوانية التي كان يستخدمها الإمام ضد أبناء الرعية في المنطقة الشافعية بشكل خاص وفي اليمن بشكل عام مع أنهم كانوا يتقاسمون لقمة العيش معهم أولئك بعرقهم وكدهم وأولئك بظلمهم وجبروتهم! هكذا كانت الإمامة تمارس ظلمها حيث كانت تستنفر جزءا من أبناء الشعب (وخاصة من أبناء قبائل حاشد ونهم وخولان وآنس) على مناطق الرعية في ألوية تهامة، وحجة وصعدة وصنعاء وإب والبيضاء وتعز والمحويت وغيرها. وكانت هذه المناطق (توهب) لجنود من الجيش البراني والنظامي والعكفة وغيرهم للترفيه عليهم بسبب مناطقهم الجدباء. وقد قتل (يحيى محمد عباس) المذكور آنفا في أول يوم من الثورة بسبب دعوة المظلومين قال عليه الصلاة والسلام:” اتقوا دعوة المظلومين فإنها ليس بينها وبين الله حجاب”. كان الحكم الإمامي يستخدم جنودا من القبائل يدعون الجيش البراني، وهم من غير الجيش النظامي الذي كان قوامه حوالي عشرة آلاف جندي وضابط وصف.
ب/ الهجرة منذ الطفولة المبكرة بسبب الظلم والرحيل إلى المراوعة:
نتيجة لظلم الأئمة ولما عرفه والدي من الظلم والاضطهاد وخوفا على نفسه وعلي اضطر إلى الهجرة بي إلى المراوعة بعد موت أمي (صفية محيا)، رحمها الله تاركا ديارنا الجميلة وأراضينا الخصبة. يوم رحيلنا أتذكر تلك الليلة المظلمة ونحن نعبر القفار كيـف شـدني والدي وأسرع بي إلى شجرة كبيرة عندما هاجمنا أحد السباع فبقينا على هذه الشجرة إلى الصباح ثم واصلنا رحيلنا إلى المراوعة التي وصلنا إليها. وقد وصلناها ثالث يوم وشاء الله أن أنزل عند أسرة كريمة من آل الأهدل وكان بينهم (أم محمد الفقيهة دحمانة)، وهي فقيهة وعالمة وكانت تدرس القرآن الكريم، وبعض مواد السنة، جوار الجامع الكبير في المراوعة وتقيم الموالد النبوية، والأدعية في المآتم داخل مدينة المراوعة وخارجها، وقد حفظت القرآن الكريم وكتاب (دلائل الخيرات) و (الزبد) على يديها وأيدي غيرها من الشيوخ في الجامع الكبير منهم الشيخ الجليل ( عبد الله اللحجي)؛ لأن مدينة المراوعة بجامعها العريق كانت منارة علم لكل طالب علم يفد إليها من جميع أنحاء اليمن ولحل قضايا الناس، وكان علماؤها من آل الأهدل رسل إصلاح وخير لمناطق (ريمة) و(برع) و(وصابين). لقـــد كـــان المواطنون حين اشتداد الظلم عليهم وعدم حل مشاكلهم من قبل الدولة يلجئون إلـــى هؤلاء العلماء لحل قضايا الناس بالصلح صلحا ودياً ودون مقابل، وأغلب تلك القضايا هي التي استعصى حلها لدى مسئولي الدولة الذين كانوا يعملون على توسيع الخصومات بين المواطنين ويدفعون إلى أولئك المسئولين أموالا كثيرة حتى يصاب المتخاصمون بالفقر المدقع وكانوا يجدون في هؤلاء العلماء الأفاضل الملاذ لإخراجهم من هذه المشاكل التي كانت تؤدي أحيانا إلى سفك الدماء، وكان هؤلاء العلماء الأجلاء يحلون المشاكل بين المواطنين دون أي مقابل، وكان مسئولو الإمامة يتذرعون باللباس الأبيض والتدين، وأعمال بعضهم تغضب الله ورسوله، وقد غرسوا التمزق والفرقة داخل البيت ناهيك عن قرية وقرية، وعزلة وعزلة ومخلاف ومخلاف آخر، لقد تفننوا في السيطرة على هذا الشعب وأشاعوا فيه الجهل والبغضاء، وألبسوا قادته اللباس الأسود في (حاشد) و (بكيل)، وهذا كله باسم الدين، فأين هــم من الدين؟ لقد تسلّل هؤلاء القوم مثل السرطان على الجسد اليمني وساموه سوء العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومرة ثانية تسجل الذاكرة مشهدا مثيرا ومؤلما يعود دائما إلى شاشة العقل وجعلني أنفر من الظلم والظالمين. هذا المشهد هو أنني في إحدى سنين الجوع التي كانت تمر بها اليمن رأيت طفلا في المراوعة في مثل سني آنذاك يلتهم دجاجة ميتة أخذها من بين (القمامة) والأوساخ نتيجة الجوع، وتحلق حوله الناس وهم يصرخون: ” هذا الولد من بني كلبان” لأنهم لم يتعودوا أن يأكل أحد منهم ميتة ناهيك أن تكون من الأوساخ أي (القمامة)، وحضر رجل عاقل وعالم فقال: ” إن هذا الولد ليس من الجان كما تعتقدون لكن ما عمله سببه الفقر والجوع ثم تبناه لديه”، وكان الفقر في تهامة لا حدود له. وأهم أسباب الجوع هو جمع المحاصيل الزراعية من تهامة ( كانت غلال الحب في تلك الفترة من التهائم) وبيعها في الحبشة والصومال وغيرهما من البلدان الأفريقية أثناء الحرب العالمية الثانية بنظر سيف الإسلام (عبد الله بن الإمام يحيى)، ووكيله الشيخ (علي محمد الجبلي). و “علي محمد الجبلي هذا صودرت أملاكه الحرام في عدن وأسمره وإيطاليا والقاهرة وهكذا، كما في الحديث: ( قيل هل يذهب الحلال يا رسول الله؟ قال نعم. قيل والحرام؟ قال هو وأهله). وكان في السنة الثانية قحط فحل فيها جوع ومجاعة ذهب نتيجتها الآلاف موتا وجوعاً، مما جعلهم ينزحون إلى الجبال وإلى صنعاء، وقد قتل السيف (عبد الله) على يد أخيه الإمام أحمد (وهكذا يسلط الله على الظالم من هو أظلم منه).
ج / ظلم الأئمة ما زال حاضرا في الذاكرة:
وعودة إلى السيرة الذاتية، فأثناء وجودي لدى هذه الأسرة، أسرة (مكي) الكريمة لم اعتمد عليهم في العيش اعتمادا كاملا، وإنما حاولت أن أبيع الماء البارد أحيانا والحلويات والمطبق (الزلابيا) أحيانا أخرى لكي أوفر لي بعض (البقش). وقد كان الريال المتعامل به يساوي أربعين بقشة، وكنت أوفر يوميا حوالي بقشتين إلى أربع بقش، وأعمل على تنظيف ملابسي بنفسي كل يوم جمعة لكي أظهر بالمظهر اللائق بين زملائي في المدرسة وأحمد الله على كل حال فرب ضارة نافعة.
ومرة أخرى تشاء الأقدار أن أطلع إلى ريمة (مسقط رأسي) بناء على طلب وإلحاح من أعمامي وأسرتي فرحلت إليها وعمري سبعة عشر عاماً وكان عامل الإمام في ريمة يومها الشيخ (شائف زهرة) – رحمه الله – الذي أثخن المواطنين بالجراحات والظلم، وقد بلغت زكاة ريمة في عهده مليون ريال فرانسي أي ( ماريا تريزا نمساوي)، ولم تترك عند هذا الرجل أثراً وصية الرسول عند إرساله معاذ بن جبل إلى اليمن حيث قال له: “يا معاذ اتقي دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب”. ويوم طلوعي إلى ريمة ونتيجة لعودة المواطنين إلى الله ودعائهم على ذلك العامل نزل هذا المسكين محمولا على أكتاف الناس والتقيت به في سوق الرباط وهو طريح الفراش، وقد أصيب بسرطان في حلقه فنقل على إثره إلى إيطاليا لتلقي العلاج، لكنه مات متأثرا بمرضه؛ لأن الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل. هذا وقد كان كلما صاح المواطنون من ظلمه وقيل له:” اتق الله”، يضرب بيده في حلقه ويقول: (لا ذمتي زيدوا) حتى أوصل حد الزكاة على الرعاة إلى مليون ريال (فرانسي/ ماريا تريزا). لقد كان الأئمة يعتبرون ريمة الجوهرة، وكم هذه الجوهرة تشرد منها من بشر، وقتل من قتل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ورغم أن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان كان فظيعاً، وقاسيا فإن رحمة الله كانت دوما تخفف وطأة وقسوة ظلم الناس لبعضهم. فقد كانت رحمة الله واسعة وأشجار البن تدعم بالأخشاب حتى لا تتكسر نتيجة كثرة حملها ونتيجة كثرة الأمطار، ومجيء الغلال موسميا، فقد كان في ريمة ألف وخمسمائة جندي ولكن كان التقييد بنظر عامل الإمام رغم وجود حاكم ومدير مال، وأقل رعوي لديه ثلاثة أو أربعة عمال يعملون لديه في بيته من عتمة والحجرية ويتقاضى كل منهم أربع بقش يوميا غير الطعام والشراب، أما الرعوي الكبير فكان لديه خمسة عشر عاملا فأكثر، وكان يأتي إلى ريمة لطلب المعيشة أبناء الحجرية وأبنا عتمة وأبناء حجــور الشام.. وتشاء الأقدار أن أرى مثلا آخر على هذا الظلم شاهدته بعيني للمرة الرابعة، فقد نزل أحد الجنود من مفتولي العضلات طويل الشارب طويل القامة وخلفه شاب أمرد، وعمره ثلاث عشرة سنة، وكنت جالسا مع ابن عمنا الشيخ (محمد قاسم) حوالي الساعة العاشرة صباحاً والعمال يعملون في الجرب أمام المنزل فسألته من هذا الرجل القادم؟ فقال هذا يا ولدي من أبناء المشرق يمرون من هنا ذاهبين إلى الولي أحمد بن علوان فينزلون لدينا. كان ديوان الشيخ مفروشا، ولكن هذا الرجل عندما دخل طلب فرشا آخر فوق الفراش الموجود، وعليه مفرشة رومي، وطلب كبشا وبخمسة ريالات قات يوميا، فتقدمت منه سائلا: ” من أنت؟ هل أنت ضيف؟ فقال: ” لا أنا عكفي (الشائف)، أي من الحرس الخاص للعامل الذي نقل إلى روما. ونتيجة الخوف فإن المواطنين لبوا طلبه بذبح كبش وإحضار القات الذي كفاه.. وكان يطلب منهم موقد نار إلى جواره وعليه مصبات القهوة وكان عددها حوالي ست مصبات (جمن قهوة)، وفيها النبات ويعبث بها، ويطلب غيرها.
وفي ليلة ذلك اليوم أخذ مصبا كبيرا، وعمل شربة (سنا)، وقرطاسين من الملح، واستمر يتعب الناس طيلة ثلاثة أيام يطلب صبوحا وغداء وعشاء مع اللحم والعيش، وجمين من( السمن)، وغيره مما لا يتعود الناس عليه، وفي ثالث يوم أرسل الولد المرافق له – (لعل الأطفال المرد لمرافقة مسئولي الإمام كان أمراً عادياً، وكانوا تارة يلقبونه بالدويدار وتارة مرافق لبعض النقباء، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما الرهائن فحدث ولا حرج فهم من أبناء كبار القوم من سن عشر سنوات فما فوق يسجنون مع قطاع الطرق والسرق وغيرهم وكل هذا باسم الإسلام) لقد أرسل هذا الولد المرافق إلى المركز بحجة أنه (مضمر) أي رفض المواطنون أن يعطوا له شيئا، وكان هذا كذبا، وبعد ثلاثة أيام من إتعاب المواطنين فوجئنا في اليوم التالي بثلاثة جنود آخرين يصلون، وكان إذا طلبوا من المواطنين الكباش والقات استجاب المواطنون لتعسفهم، وفي اليوم الثالث طلبوا رحيل الشاويش على قعادة من حق الأموات وضعوا فيها فراشا، ورقد هذا الشاويش، وهو ليس مريضا، ورحل في ذلك الجبل المرتفع وخلفه عشرون مصبا من مصبات القهوة (جمن) وبعد ساعة ونصف وعند وصولهم إلى بداية المركز نزل من القعادة، وليس فيه شيء من المرض الذي ادعاه، وطلبوا جميعا أجرة من المواطنين خمسمائة ريال، وهنا زالت التساؤلات التي في نفسي عن سبب رحيل والدي بي من ديارنا وأنا طفل من هذه المنطقة الخيرة، وأقسمت أنني لن أعود إلى ريمة إلا وقد زال الظلم عنها، ورحلت إلى الحديدة مرة أخرى. وهكذا كان الأئمة يقتطعون أراضي الرعية سواء كان لكبار النقباء الذين معهم من حاشد وبكيل كما حصل في إب وتعز وغيرهما أو للأسر الحاكمة من الهاشميين بحجة حيث يدعون أن لديهم زكاة لسنوات، ولا يوجد لديهم ما يدفعونه، فيقتطعون أخصب الأراضي والأودية في ريمة تمليكا لذا أو ذاك بعد أن يكونوا قد عبثوا بالمواطنين وقتلوا من قتلوا ونهبوا ما نهبوا، وأحيانا قد تستباح الأعراض، ويتحول المواطنون الملاك إلى أجراء وأذلاء عبر الحياة. وهذا شاهد من التاريخ على ظلم الأئمة وحكمهم الكهنوتي يسجله لنا الفقيه الأديب (محمود حسن الجباري) عندما رأى مشهداً مؤلما من مشاهد ظلم الإمامة إذ يقول: أقدم أحد عساكر الإمام على ضرب أحد المواطنين ثم قتله بسبب عدم قدرة هذا المواطن على دفع ريال ونصف (تعيون) العسكري، قال شعرا:
أرداه أن ألقاه جثمانا تخضب بالدما
متخبطا يشكو وما من سامع إلا السما
وأحس بالجلّى فودع روحه مستسلما
وطوى شريط حياته ليرى محيطا مظلما
وقد كان الملجأ لأبناء الرعية آنذاك هروبا من ظلم الإمامة إلى القرن الإفريقي (الصومال)، (الحبشة) (السودان)، وداخل إفريقيا، وقد تشردوا في هذه الديار، واهتم الكثير منهم بالتجارة والعلم.