السفر إلى عدن من بغداد:
بدأت رحلتي من بغداد إلى اليمن حين حزمنا أمرنا أنا وزوجتي وولدي وليد وخالد للالتحاق بعملي كقائم بأعمال للعراق هناك، فقد حجزت لنا الخطوط الجوية العراقية مشكورة أربعة مقاعد على طائرة الشرق الأوسط من بيروت إلى عدن التي تصلها حسب جدول الطيران المعتمد الساعة السادسة صباح اليوم التالي، فنأخذ من هناك الطائرة اليمنية إلى صنعاء حوالي الساعة الثامنة من نفس الصباح، وقد أشرت الموظفة على تذاكر سفرنا مؤكدة الحجز على هذه الخطوط فضلا عن الطائرة العراقية المغادرة إلى بيروت.
وكان كل شيء كما هو مخطط له فعلاً إلى أن وصلنا عدن وقت شروق الشمس، وكان اليمن الجنوبي مستعمرة بريطانية آنذك. وعند تأشير جوازاتنا سألني ضابط بريطاني عن الفندق الذي سننزل فيه خلال إقامتنا في عدن؟ فقلت: إن لا حاجة بنا إلى ذلك ما دمنا سنأخذ الطائرة اليمنية بعد ساعتين إلى صنعاء، فما كان من هذا البريطاني إلا أن استدعى ضابطاً عربياً ظنا منه أني لا أفهم لغته فأعاد علي ذاك الكرة بالسؤال ورددت عليه بأني مستمر في السفر، وإذا بهذا الأخير يضحك بملء شدقيه ليقول إن الطائرة اليمنية (يمنطير) وهذا اسمها التجاري تصل عدن مرة أو مرتين بالأسبوع وقد لا تصل طيلة الأسبوع فهي غير مقيدة بجدول ثابت، كما أنها بدون اتصال لاسلكي فلا يعرف موعد وصولها إلا حين ظهورها في سماء المطار. ولهذا نصحني أن أختار فندقا لنمكث فيه في عدن وسيخبرونني بساعة وصول الطائرة. ومعنى هذا أن نظل في حالة استنفار صبيحة كل يوم وحقائبنا في حالة حزم.
وهكذا بقينا ثلاثة أيام كان أمتع ما فيها أن تعرفنا على إخوة أعزاء تفضلوا علينا بالزيارة حين سمعوا نبأ وصولنا، وعلى رأس هؤلاء كان السيد عبد الله الأصنج السكرتير العام لنقابات العمال والسيد حسين الحبيشي عميد كلية بلقيس، وكلاهما من رجال الحركة الوطنية البارزين وقد وجدنا مدينة عدن وهي محتلة بالطبع من الإنكليز حينئذ تشبه مدن الأسواق الحرة في هونك كونك وغيرها في كونها مكتظة بمختلف الأجناس وأسواقها وأرصفتها مغرقة بالبضائع الأجنبية.
وفي اليوم الثالث جاءنا نداء مستعجل أن أحضروا إلى المطار، وقد كان ذلك إذ وجدنا طائرة (داكوتا) ذات محركين تقبع بعيدا عن بناية المطار وإلى جانبها طيار نرويجي علمت منه خلال الرحلة أن الطائرة بدون اتصال لاسلكي وأنها (والوقت كان عام ١٩٦٢م) كان يجب أن تتوقف عن العمل منذ عام ١٩٥٥م. على كل حال فليس باليد حيلة توكلنا على الله وقرأنا آية الكرسي وصعدت بنا الطائرة وهي تتسلق سلسلة الجبال ببطء وأظن أن سرعتها هي ۱۸۰ كم في الساعة. وكنت أراقب المناظر الجميلة والامتزاج البديع بين البحر والهضاب وقمم الجبال، فمن الجو من أعلى لا يرى الإنسان الفقر والتخلف.
الوصول إلى تعز
وصلنا مدينة تعز بعد ساعة أو أكثر. فوجدت في انتظاري شاباً أنيقاً بزيه اليمني وهو مدير مراسيم وزارة الخارجية إذ كانت وزارة الخارجية في مدينة تعز، وكذا البعثات الدبلوماسية الأجنبية عدا العراقية والمصرية والسعودية فهي في صنعاء بعيدا عن كرسي الملك في تعز. ووجدت سيارة أمريكية الصنع تأخذنا إلى دار الضيافة يقودها شاب يافع دهشت لكونه يقود السيارة حافياً، حاولت أن أقنع زميلي اليمني بأني قاصد صنعاء فلا حاجة بنا للبقاء في تعز. وإذا به يخبرني بأن الطائرة لا تطير إلى صنعاء وقت الضحى ولهذا فسنبيت ليلتنا في تعز ونغادرها صباح الغد. علمت فيما بعد أن هناك شحنة من الزجاج لم تكن جاهزة لإرسالها بالطائرة إلى قصر الإمام في صنعاء وبالفعل فقد شحنت معنا في اليوم التالي.
وصلنا دار الضيافة في تعز، وكانت غرفة لا بأس بها عدا أن حوض الحمام (البانيو) كان مليئا بالماء وتسبح فيه بضعة خنافس فما كان منا إلا استدعاء الصبي ظنا أنه سيبدل ذاك الماء بغيره، وإذا هو يستنكر الطلب ويكتفي بإزالة الحشرات من الحوض بيده معلنا عن اعتزازه بأنه قد ملاً هذا حوض منذ أمس إذ جلب الماء من مكان بعيد. ( لم يكن في اليمن كلها حينئذ أية إسالة ماء).
وعند الظهيرة جاءني من يخبرني بأن شخصاً يريد مقابلتي فخرجت للقائه وهو أحد موظفي المفوضية البريطانية (كانت جميع الهيئات الدبلوماسية العربية والأجنبية حينئذ على مستوى المفوضيات)، وقد رفعت إلى سفارة بعد ثورة ٢٦ أيلول ١٩٦٢م. وقد حمل لي هذا الشخص دعوة من الوزير المفوض البريطاني السيد كروستوفر غاندي للعشاء في مساء اليوم فقبلنا الدعوة وتعرفت على رجل يتصف بالحنكة والكياسة وهو في العقد الخامس من عمره، خبير في شؤون اليمن، وما زال يكتب ويحاضر عن شؤون الجزيرة العربية من الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي».
وفي صبيحة اليوم التالي ذهبنا إلى المطار فوجدنا الطائرة وقد أزيح معظم مقاعدها لوضع الزجاج. وعند السؤال عن أمتعتنا قيل إنها في غرفة مدير الجمارك وهو لم يأت بعد وهكذا كان.. إذ اضطررنا إلى السفر بدون حقائبنا التي ضمت جميع ملابسنا التي وصلتنا بعد أسبوع على أية حال.
الوصول إلى صنعاء:
لابد من صنعاء ولو طال السفر، وصلت الطائرة إلى مطار صنعاء وهو لا يعدو أن يكون ممراً ترابيا فيه غرفة بائسة هي كل مباني المطار حيث تجرى معاملات الدخول. وقد وجدت في انتظارنا الأخ الزميل محسن الجزائري القائم بالأعمال الذي كان قد نقل إلى إستنبول قنصلا عاما فقدمني لمجموعة من الشخصيات اليمنية وبعضهم وزراء كانوا على وشك الإقلاع إلى تعز وما إن علموا من الأخ الجزائري بقدومي حتى أثروا تأخير رحلتهم بعض الوقت للترحيب بي. وكانت هذه مجاملة تأثرت بها وهي تدل على تواضع اليمني وأدبه الجم. وسارت بنا السيارة التي أتانا بها زميلنا وهي نوع جيب تعود لأحد المواطنين اليمنيين، وقد علمت أن الأخ الجزائري استعارها منه لاستقبالنا مقابل زجاجة كحول، ذلك لأن وزارة الخارجية العراقية كانت لا تقرر لبعثاتها الدبلوماسية في الخارج سيارة إن لم يكن فيها سفير. فيقتصر الأمر على تخصيص دراجة هوائية كانت وسيلتنا الوحيدة للتنقل في شوارع المدينة المتربة. وعبثا حاولت بعدئذ أن أقنع المسؤولين في الوزارة بخطأ هذا الرأي خصوصا في بلد كاليمن حين كان عدد السيارات في صنعاء لا يتعدى العشر وليس بينها سيارة أجرة. على أن حل هذه القضية تمثل فيما بعد أن أعارني الفريق حسن العمري نائب القائد العام للقوات المسلحة جزاه الله خيرا سيارة عسكرية صغيرة «كاز» بقيت لدينا في السفارة لحين مغادرتي اليمن عام ١٩٦٤م.
ولا بأس أن أسجل هنا أني عندما عدت إلى بغداد بعد عامين من خدمتي في اليمن زارني السيد محمد سلام القائم بالأعمال اليمني حينئذ يقود سيارته «البويك» سائق هندي. وقد علمت منه أن السيارة اشتريت من مساعدة مالية دفعها العراق لليمن، فيا للمفارقة! ولا بد أن أذكر هنا أن سير السيارة في شوارع اليمن كان إلى اليمين أي على الطريقة الإنجليزية كما هو الحال في عدن حينئذ، ولكن ذلك تغير بعد ثورة ٢٦ سبتمبر ١٩٦٢م فأصبح إلى اليسار. وقد كان لي الفخر بأن كنت من أوائل من نبهوا لضرورة هذا التغيير في الوقت المناسب على أن السير إلى اليمين ظل ساريا في عدن واليمن الجنوبي ككل إلى أمد ليس بالقصير.
لاحظت ونحن نمر في الطريق إلى المفوضية أننا نسير في شوارع متربة غير مبلطة أي غير مسفلتة حتى تخيلت أننا كنا خارج المدينة، فعند وصولنا طلبت من زميلي إطلاعي على المدينة لأتعرف عليها. وإذا به يخبرني بأننا قد مررنا بأهم أجزائها وأتبعها بقوله «جيتم دقعدم». وعلى كل حال فقد وجدت بناية المفوضية جيدة إذ تتكون من طابقين، الأعلى مسكن رئيس البعثة والأرضي مكاتب المفوضية، وفيها حدائق واسعة وممتازة فيها جميع أفضل الأشجار المثمرة كالخوخ والمشمش والجوز واللوز والخضار، فضلاً عن الزهور. وهي تجاور قصر الوصول (القصر الجمهوري حالياً). أقامت فيها بعدنا السفارة الإيطالية بعد أن توسع التمثيل الدبلوماسي الأجنبي في صنعاء، والدار مملوكة لمحمد عبد الله العمري وزير الخارجية آنذاك الذي توفي بحادث طائرة في إيطاليا.
بدء عملي في المفوضية:
رجوت زميلي أن نخرج نتمشى بعد الظهر كي يوجزني عن الأحوال السياسية في هذا البلد . وقد كان لي ذلك إذ خرجنا إلى الطريق الصيني وهو الطريق المعبد الوحيد في اليمن حينئذاك يمتد من صنعاء إلى الحديدة بطول ٢٢٦ كم بعرض سيارتين ويمر بسلسلة جبال تتلاشى قرب الحديدة حيث سهل تهامة الساحلي. وقد سألت الزميل الجزائري عما إذا كان في هذا البلد من يفكر بالثورة على هذا الوضع المتخلف جدا والظالم؟ فكان جوابه بالنفي على الأقل في الوقت الحاضر. ورجا أن ينفك من عمله بسرعة للالتحاق بمنصبه الجديد قنصلاً عاماً في استنبول.
وكان لنا موعد مع نائب الإمام، أو الوالي القاضي محمد الشامي، مساء اليوم التالي إذ كان بعض الأئمة يقيم في تعز ويعين نائباً له في صنعاء لأهميتها وكان النائب الآخر للإمام هو علي زبارة. توجهنا سلفي السيد الجزائري وأنا إلى مقر نائب الإمام مساء اليوم التالي ليودعه ويقدمني إليه، وقد جلسنا في غرفة واسعة ذات إضاءة رديئة. وكان النائب يجلس على منصة مغطاة بقماش أخضر وقد تحدث زميلي مودعا ومقدما إياي فقلت إني تحت تصرفه وإني عامل إن شاء الله كل ما بوسعي لتوثيق العلاقة بين الأشقاء. فرد الرجل مهنئا، وتحدث في أمور تدل على ذكاء فطري وثقافة محدودة فقد كان يعتقد أن مياه سد مأرب كانت تسقي مدينة البصرة! وأن سبب طيب مناخ صنعاء وقساوة جو العراق هو ابتعاد الأولى عن خط الاستواء وقرب الثاني منه عفا الله عنه فقد كان من أوائل الذين أعدمتهم الثورة.
وهكذا استلمت عملي في المفوضية بعد أن ودعت الأخ الزميل الجزائري، وقد وطنت نفسي على أن أعمل شيئاً يبرر ثقة الدبلوماسي المفكر الأستاذ هاشم جواد وزير الخارجية الذي وجهني بالاهتمام بشؤون اليمن الجنوبي المحتل وباستكشاف فرص إقامة علاقات مع دول شرق إفريقيا كينيا، الصومال، إثيوبيا، أوغندة، وتنجانيقا التي ضمت إليها فيما بعد زنجبار فأصبحت تنزانيا على أن الظروف التي أحاطت بعملي في صنعاء بعد قيام الثورة أجبرتني على اللهث وراء الأحداث محلياً فلم يتسن لي متابعة ما هو أبعد من ذلك.
اصطحبت محاسب المفوضية السيد صلاح ليطلعني على المدينة فقمنا بجولة تعرفت خلالها على المدينة القديمة التي تقع ككل صنعاء بين جبلين هما نقم إلى الشرق وعصر إلى الغرب يفصلها الأول عن قبائل خولان ويوصلها الثاني بالطريق الصيني إلى بني مطر حيث البن المطري الشهير المعطر، فمناخة فالحديدة. ومن الجهتين الأخريين ينفتح سهل في هذه الهضبة يؤدي أحدهما إلى مطار صنعاء الغربي القديم الملاصق للمدينة بحيث تكاد الطائرة أن تحف بالمباني عند إقلاعها لأن المنفذ الوحيد لطيرانها هو عبر المدينة، أما الجهة الجنوبية للمطار فيصدها جبل النهدين وأظنه سمي كذلك لكونه يضم مرتفعين متناسقين يذكران بالاسم، والى الجانب المعاكس يمتد واد منبسط شيد فيه فيما بعد مطار الرحبة.
كما قمت في هذه الفترة بجولات عديدة في المدينة، وتعرفت على القائم بالأعمال السعودي وهو شاب طيب كنا مرة سوية في الجامع لصلاة الجمعة إذا بشخص من المفوضية يسلمه ورقة مطوية وكانت العادة أن البرقيات تسلم لنا ملفوفة على شكل السجاير ما إن فتحها حتى التفت إلى قائلا: إن أحد الأمراء السعوديين سيصل صنعاء غدا واقترح أن نكون سوية في استقباله. ولقد كانت الورقة تحتوي على برقية شفرية يبدو أن القائم بالأعمال كان يحفظ رموزها عن ظهر قلب. الجدير بالذكر أن المفوضية السعودية كانت تشغل بيت الشهيد جمال جميل القائد العراقي الذي كان من أوائل من أوقدوا جذوة الثورة في اليمن في نهاية الأربعينيات وقد أعدمه الإمام فظلت ذكراه تفوح باحترام في اليمن حتى اليوم.
أما الشخص الثاني الذي قمت بزيارته فكان السيد محمد عبد الواحد الذي لم يكن قائما بالأعمال chargedaffaires ذلك لأن البعثة المصرية لم تكن مجرد مفوضية في ظل الاتحاد بين مصر واليمن الذي انفرط في ذلك الوقت فبقي موظفا يرعى المفوضية ويحافظ على محتوياتها وهو ما يعبر عنه بالعرف الدبلوماسي charge desaffaires على أن السيد عبد الواحد أصبح بعد ثورة أيلول محط الأنظار وحلقة الاتصال بين الحكومة اليمنية والقوات المصرية، وظل كذلك محل ثقة أنور السادات عندما كان رئيسا لمجلس الأمة المسؤول السياسي عن شؤون اليمن إضافة إلى المشير عامر ، فقد كان حينئذ قائما بأعمال يتصدر جميع زملائه الدبلوماسيين في المناسبات الرسمية وقد كان الرجل ذكيا نشطاً ودوداً لكني رأيت فيه ما هو أقرب لرجل المخابرات منه للدبلوماسي.
إذن فقد كانت هاتان البعثتان الدبلوماسيتان هما الوحيدتين إضافة إلى بعثتنا. وكانت فلسفة الإمام أحمد هي الإبقاء على البعثات الدبلوماسية غير العربية في تعز حيث يوجد الإمام والحكومة، وهي مفوضيات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والاتحاد السوفياتي، والصين، وإيطاليا وإثيوبيا، وألمانيا الاتحادية، أما المفوضيات العربية الثلاث فهي منفية في صنعاء المعزولة، والسبب واضح وإن كان المسؤولون يصرون على تفسير الأمر بأن هواء صنعاء أفضل منه في تعز ولهذا نوفره لأشقائنا!
مدينة صنعاء كما رأيتها:
نعود إلى وصف صنعاء في شهر آب ١٩٦٢م. لقد علمت حينذاك من بعثة منظمة الصحة العالمية أن نفوس المدينة حوالي ١٨ ألفا فقط ربما يكون ذلك أدق إحصاء تم حتى ذلك الحين إذ كان يجري لأغراض حصر الأسر للتلقيح ضد بعض الأمراض. ويلاحظ الزائر لصنعاء المستوى الصحي المتدهور للمواطن الذي تكالب عليه الفقر والجهل وفوقهما القات ليجعل منه إنسانا هزيل الجسم شاحب البشرة عموما. وكانت في المدينة صيدلية واحدة يملكها ويديرها الأخوان السقاف وهما من أصل سوري يمارسان الصيدلة بذكائهما وخبرة عملية ولا علاقة لهما بدراستها، وفيها ميدان تطل عليه وزارة الصحة التي أصبحت فيما بعد دارا للضيافة وهو ميدان شرارة. وكان أهم متاجر المدينة هو محل «المترب» المطل على الساحة والذي يعج بغير ترتيب بالأجهزة الكهربائية المستوردة من عدن والأسعار فيه قابلة للمساومة.
ونحن في جولتنا الصباحية في المدينة لاحظت أمرين أحدهما أن شرطياً للمرور كان يمارس عمله في تصريف حركة السير ربما الدواب أكثر من السيارات وهو مقيد بسلسلة في رجله. وقد علمت أنه معاقب، وثانيهما عدد من المتسولين الذين قيل لي إنهم يقضون فترة سجنهم إلا أنهم يتسولون الطعام لقوتهم وقوت سجانيهم.
كما لاحظت على أحد أبواب المدينة مقابل المدرسة الحربية رأس إنسان معلقة بعد أن أعدم بالسيف، كما شهدت بالصدفة موكبا يعاقب فيه من وجد بحوزته خمرة بصبها على رأسه ويرجمه الصبية للتشهير به. وخلال تجوالنا في أسواق المدينة القديمة ومنها سوق العرج وهي إشارة إلى كلمة أعرج حيث تباع الحيوانات العرجاء أو ذوات العاهة، لاحت لي صبية في حوالي التاسعة من عمرها صبوحة الوجه وهي في سن أولادي فوددت أن ألاطفها، فما كان من زميلي إلا أن نهرني خشية العواقب قائلا بأن هذه الصبية ربما تكون سيدة متزوجة وهي في هذه السن المبكرة. وقد أدركت هذه الحقيقة في تاريخ لاحق عندما زارني مرة صديق من كبار موظفي الخارجية ومعه زوجته الصغيرة التي تركتنا وراحت تلعب مع ولدي وليد وخالد بدلا من الجلوس معنا، وصادف أن كان الوزير البريطاني غاندي في زيارة غير مقررة للسفارة إذ وصل صنعاء في استدعاء على عجل وعندما عرفته بالمسؤول اليمني والسيدة عقيلته بدت على وجهه علامات الدهشة لحداثة سن السيدة مما استوجب اعتذاره.
وخلاصة القول فقد وجدت صنعاء بعد أن تجولت في أرجائها برغم طراز مبانيها الإسلامي المتميز ذي الطوابق المتعددة المزينة بالجبس الأبيض الناصع والزجاج الملون، من مدن القرون الوسطى، هذا إذا ما أنصفتها. تصور مدينة ليس فيها واحد من طريق مبلط، وفيها مدرسة ثانوية واحدة للبنين وليس فيها فندق واحد ولا إسالة ماء، فترى الناس يعتمدون على الآبار للشرب، وكهرباؤها يصل ليلا وينقطع نهارا وأحيانا يتناوب التيار في ساعتين في كل منهما، وهو حتى وصوله لا يقوى أمام المسافات فعند أطراف المدينة التي لا تكاد تزيد مساحتها عن كيلو مترين طولا وواحد عرضاً (وسعر الوحدة يعادل مائة وعشرين فلسا عراقيا. كان سعر الوحدة وقتئد في العراق ثمانية من الفلسات) يستعين الناس إلى جانب مصابيح الكهرباء المضاءة بفوانيس تجعل القراءة ممكنة وفي كل المدينة على ما أذكر ما لا يزيد عن أربعمائة خط هاتفي داخلي فليس هناك اتصال بخارجها، وأسلاك الهاتف في الشوارع معلقة على عصي طالما قطعها بغل عابر سبيل. وكنت حين ترفع سماعة الهاتف تسمع مكالمات عديدة تدور لا يخلو بعضها من المعاكسات، وكان دليل الهاتف عبارة عن دفتر كتب بالآلة الكاتبة، وكان صلاح محاسب السفارة يحفظ عن ظهر قلب جل هذا الدفتر. والمستشفى يديرها ممرض وفي المدينة طبيب إيطالي د. ماريو وطبيبة فرنسية د. شابوي وهما معاران من حكومتيهما، فضلا عن د. دومنجي طبيب إيطالي يعمل لحسابه وكذلك طبيبة بلغارية.
كما توجد في المدينة جالية إيطالية صغيرة عميدها السيد كاربوني، عفا الله عنه. إذ كان يأتينا بقناني الغاز من عدن فنبتاعها نصف ملأى، وقد قال أحد الخبثاء إن كاربوني يستعمل في بيته النصف الآخر قبل بيعها. وقد دأبت الحكومة الإيطالية على إيفاد معلمة للأطفال من أجل هذه الجالية الصغيرة، وكانت المعلمة أيامنا الآنسة جيانا التي تعرفت على د. دومنجي وكنا ندعوهما سوية في بيتنا وقد تزوجا وهما الآن يعيشان في «لوكاء» في إيطاليا سعداء مع ابنتيهما ونحن على صلة دائمة بهما إذ صرنا أصدقاء.
وفي المدينة كلها حوالي عشر سيارات خاصة. فكان بريدنا الدبلوماسي يصلنا من الحديدة على ظهر جمل.. الغريب فيه أنه يصل بوقته بالضبط حتى لقد فاقت مواعيده السيارات التي قامت بالمهمة في عهد الثورة. ومعذرة لأهل صنعاء الكرام فأنا لا أريد أن أزوّر الأشياء، وأقول ما قال شاعر منافق يصف صنعاء أمام الإمام أحمد بقوله: باريس دونك في الجمال ولندن وعواصم الرومان والامريك… الخ.. والطريف في الأمر أن الإمام أحمد أجاب هذا الشاعر العراقي بقصيدة يمدح بها بغداد دون أن يهبه شيئا وكان ذلك دهاء عرف به. ومدينة صنعاء في ذلك الوقت كانت محاطة بسور بناه سيف بن ذي يزن له سبع بوابات ضخمة كانت تغلق اعتبارا من الساعة السادسة بعد العصر فيمنع الدخول أو الخروج من المدينة حتى صباح اليوم التالي. وكان منع التجول في داخل المدينة مفروضا بصورة طبيعية ومقبولة، إذ يحظر على النساء الخروج إلى الشوارع بعد الساعة الرابعة عصرا وعلى الرجال بعد السابعة وليس لهذا الإجراء علاقة بحالة طوارئ أو ظرف استثنائي. ولكم أسفت حين علمت في زيارة لاحقة لي لصنعاء أن توسع المدينة العمراني تسبب في إزالة بعض أجزاء من هذا الأثر التاريخي وأقصد به السور، وقد وقعت زيارتي هذه في عام ۱۹۸۱ أي بعد سبعة عشر عاما من مغادرتي لها، وكانت بدعوة كريمة وجهت لي من الأخ الصديق الدكتور محمد سعيد العطار أبو صلاح وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام التنفيذي للجنة الاقتصادية لغربي آسيا «أكوا» لحضور الدورة السنوية للجنة في صنعاء بصفة استشاري، وكان ذلك تمهيدا لتعييني أمين سر اللجنة عند انتقالها إلى بغداد في العام التالي. وقد سعدت للعمل مع الأخ الدكتور العطار وهو رجل دولة واقتصادي متميز أطال الله في عمره.
أرجو أن أبين هنا أن المدن الأخرى في اليمن لم تكن بأحسن حالا من صنعاء. فقد زرت فيما بعد تعز والحديدة والمخا وغيرها فما وجدت سوى البؤس والتخلف. وإذا بحكم الأئمة يوزع البؤس على الجميع بالتساوي حتى لقد ظل اليمن بحسب أدبيات الأمم المتحدة والبنك الدولي من أشد بلاد العالم فقرا برغم ثرواته الطبيعية.
ولست أجد في وصف الوضع الذي كانت تعيشه صنعاء – بل واليمن كله أفضل من أبيات الشعر التالية التي نظمها السيد أحمد محمد الشامي في وصف سلطة الإمام المطلقة:
لا لحن … لا نغم.
لا علم … لا قلم.
لا حس… ألم.
لا جيش… لا كرم
ليس سوى النوم
النوم «دستور» اليمن!
لا أحد يخرج في «المساء»
لعرس، أو لعزاء
إلا بإذني أولا!
أبواب «صنعاء» والبيوت
تغلق من بعد «العشاء».
هجرة اليمني:
يعمل في السفارة ستة مستخدمين محليين، والعريف محمد معياد الذي يقوم بالحراسة مكلفاً من وزارة الداخلية وهو رجل ملتزم وطيب. مرة واحدة فقط نهرته عندما وجدته يحاول أن يعلم ابني خالد تخزين القات. وهناك الطباخ محمد المحويتي الذي كانت أم وليد زوجتي تعلمه الطبخ وقد فاجأنا عندما نقلت إلى ستوكهولم بظهوره على الباب، واندهشت من وجوده رغم أنه سبق أن أخبرني برغبته بالسفر إلى السويد للحاق بنا ولكني لم آخذ المسألة على محمل الجد وقتئذ، ومع هذا عينته هناك حارساً في دار السفير.
وبقي المحويتي في السويد بعد نقلنا من هناك وأصبح فيما أعلم سويدياً حيث يقيم الآن. ولشد ما أزعجني عندما وصل المحويتي وعلمت أنه جاء ليستقر هنا أنه ينوي طلاق زوجته التي تركها وراءه في صنعاء دونما ذنب وتلك ظاهرة كانت تسود اليمن، وأرجو أن تكون قد تغيرت الآن فقد كان من الطبيعي أن تسأل عن صديق يمني في بيته فترد عليك زوجته بأنه غير موجود فقد سار. وعندما تستفسر منها إلى أين؟ فهي لا تدري هل ذهب إلى المقهى أم لزيارة صديق أم سافر داخل اليمن في عمل. وإذا بك تكتشف فيما بعد أن الرجل قد هاجر إلى «مانشستر أو إلى «ميتشيجان» أو كحالة المحويتي إلى ستوكهولم دونما رجعة. والهجرة ظاهرة مرغوب فيها في اليمن حتى إن إحصائية السكان في عام ١٩٧٥ أظهرت أن عدد سكان اليمن بلغ ٦,٤٧١,٨٩٣ منهم١,٢٣٤,٠٠٠ مهاجر بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا والسويد والسعودية.
وشخصية المواطن اليمني تظل متأثرة بتقاليد وعادات البداوة، فالمد البدوي ظل مسيطراً على الشخصية اليمنية لزمن طويل حتى بعد أن تداخل المد الحضري بالبداوة حين توطن الإنسان في أرض يزرعها ويرعى الماشية ويكون أسرة ثابتة أوصلته إلى التكوين الاجتماعي المتمثل بالقبيلة والتعصب الشديد لها. ألم يكن نظام (الفك) وهو ضرورة حصول المرء من غير القبيلة إلى ورقة تشير إلى السماح له بالمغادرة أو الدخول من أو إلى حدود أرض القبيلة ساريا إلى عهد قريب. وهو ما يشبه «الفيزا» أي سمة الخروج والدخول في الدول المتحضرة. ألم يكن في هذا أنصع دليل على عصبية اليمني لقبيلته واعتزازه بها ونفوره من سلطة الحكومة المركزية والدولة عموما؟ فهو يعتبر الالتزام بتعليمات الحكومة انتقاصاً لشخصيته بل وإذلالاً لها…ولهذا فاليمني القبلي الذي يصر على أخذ حقوقه بيده وبسلاحه دلیل آخر على سطوة المد البدوي حتى أيامنا.. وها أنا أرى بين الحين والآخر أن القبيلة الفلانية أخذت رهائن من الأجانب السواح وغيرهم لتساوم بهم الحكومة المركزية للضغط عليها من أجل طلبات يريدون تحقيقها، وشخصية لها هذه الاستقلالية يتركز جل اهتمامها على روح الغزو هي التي دفعت الكثير منهم على الهجرة إلى الخارج، فضلا عن شظف العيش في اليمن حينذاك وبما في ذلك من روح المغامرة والاستقلالية.
والمواطن اليمني بعد هذا وذاك ذكي بالفطرة وشجاع وكريم مع شيء من الانطوائية التي فرضتها عزلته عن العالم فصار يلف سلوكه وتعامله مع الغير بهذه الصفات دفاعاً عن نفسه وحبا بالبقاء. وفي تقديري أن تمسك اليمني بالجنبية «الخنجر» الذي يتمنطق به في كل مناسبة كجزء من زيه العادي دليل على تمرد وروح استقلالية تتطلع إلى الكسب وحماية الذات في نفس الوقت، فضلا عما يضفيه ذلك من مظهر للقوة والرجولة.