مقابسات

قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

في الجزء السابق من هذه القراءة العجلى في (أيام الشوكاني) رأينا كيف أسهم العلماء والمفكرون في بلادنا- كل من زاويته – في تحديد وإبراز ملامح الفكر الاسلامي البعيد عن التعصب والنقي من شوائب التقليد، وكيف شارك هؤلاء العمالقة في رسم المنهج العقلي والوجداني، وفي نبذ كافة المعوقات التي تعترض تطور هذا الفكر وتحول دون استيعابه لشروط الحياة بأبعادها الروحية والإنسانية والمادية.

وليس من باب المبالغة أو المباهاة القول بأن أي قطر من الأقطار العربية أو الاسلامية لم يحتشد في تاريخه بمثل هذا القدر من العلماء المستنيرين رغم عوامل الإحباط الكثيرة ومظاهر الاضطهاد البالغة والعنيفة والقاسية، ولعل الفكر الإنساني الناصع لا يتشكل إلا في ظل المعاناة، كما أن الرغبة في الانتصار للحق وتحرير عقل الإنسان وروحه تعطي الإنسان طاقة على الاستشهاد وتمنحه السلام والطمأنينة، وتجعله يتجرع سم الموت في لذة ممتعة، وفي الصراع الدائب بين التقدم والتخلف، بين الرقي والانحدار، بين الصمود والاستسلام تبرز خصائص الإنسان العظيم ، وبفضل صلابته وقوة إيمانه يستمر نهر المعرفة في السير وتعبر الأجيال من عصر إلى عصر ومن حال الى حال.

وحين كان الشوكاني يتحدى هياج البطش ونوبات الغطرسة في أيامه المليئة بأنواع القهر والتعسف والتعصب كان يبلور دور البطل الديني في صورته العميقة والجليلة ويعبر عن إرادة الطموح إلى تجاوز وتخطي نزعات الانهيار والاستسلام للقيم المتوارثة والمتخفية وراء المقدسات الروحية، وكان بينه وبين طبيعة عصره أولًا، وبين أهل عصره ثانيًا، صراع مرير تأكدت فيه الغلبة للعالم المستقل الرأي الباحث عن قيم جديدة لا تناقض مع القيم الأصيلة النابعة من جوهر الحقيقة المتكاملة الشاملة.

وكان لا بد لتكون الغلبة من حظ المفكر أن يكون مستنيرًا، وأن يكون مستوعبًا لطبيعة عصره، لأنَّ الاستنارة تجعل نضاله الفكري إضافة إلى الجهاد الإنساني، ولأنَّ استيعابه يعطيه الإحاطة بالقوانين الموضوعية، ويكشف له أبعاد الواقع بما فيه أصدقاء وخصوم من أفكار ومعتقدات، وكل من يقرأ أيام الشوكاني من خلال كتابه (أدب الطلب) لا بد أن يعترف بالقدرة على الفهم الموضوعي لطبيعة عصره وأنماطه الاجتماعية والفكرية.

وإذا كان تحرير الفكر الإنساني من أسر التقليد والتعصب هو الهدف الأساسي الذي أوقف الشوكاني حياته للنضال في سبيله والتمكين له فإن ذلك دفع به إلى الإحاطة الشاملة بأفكار خصومه وأساليبهم وتحديد ملامحهم، وخصومه هم المقلدون والمتعصبون.

وقد رسم لنا في كتابه لمحات دقيقة عن هؤلاء الخصوم من خلال رصد الأسباب التي يرى أنها قد مكنت التعصب المذهبي من السيادة والاستشراء، وهذه أهم الأسباب التي نستخلصها ونوجزها من كتابه السالف الذكر:

أولًا: حب الجاه والمال اللذين هما أعدى على الانسان من ذئبين ضاريين كما وصف ذلك رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- فإن هذا هو السبب الذي حرف به أهل الكتاب كتب الله المنزلة على رسله وكتموا ما جاءهم فيها من البينات والهدى كما وقع من أحبار اليهود، وكم من عالم قد مال إلى هوى الملوك فوافقه على ما يريد وحسَّن له ما يخالف الشرع وتظاهر له بما ينفق لديه من المذاهب، بل قد وضع بعض المحدثين للملوك أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- كما وقع من وهب بن وهب البختري مع الرشيد، ووضع جماعة مناقب لقوم وآخرون مثالب لآخرين لا حامل لهم على ذلك إلا حب الدنيا والطمع في الحطام والتقرب الى أهل الرئاسة بما ينفق لديهم ويروج عليهم. 

ثانيًا: المجاملة أو الخوف، وكم قد سمعنا ورأينا في عصرنا من رجل يعتقد في نفسه اعتقادًا يوافق الحق، ويطابق الصواب، فإذا تكلم عند من يخالفه في ذلك ويميل إلى شيء من البدعة فضلًا عن أن يكون من الملوك وافقه وساعده وسانده وعاضده، وأقل الأحوال أن يكتم ما يعتقده من الحق ويغمط ما قد تبين له من الصواب عند من لا يجوز منه ضررًا ولا يقدر منه نفعًا فكيف ممن عداه. 

وهذا في الحقيقة من تأثير الدنيا على الدين والعاجلة على الآجلة، وهو لو أمعن نظره وتدبر ما وقع فيه لعلم أن ميله إلى هوى رجل أو رجلين أو ثلاثة ممن يجاملهم في ذلك المجلس ويكتم الحق مطابقة لهم واستجلابًا لمودتهم واستبقاء لما لديهم وفرارًا من نفورهم هو من التقصير بجانب الحق والتعظيم لجانب الباطل. 

ثالثًا: القيام بدور فقهاء السلطة وإخضاع الدين لهوى الملوك ورغبات السلاطين، ومن غريب ما أحكيه من تأثير هوى الملوك والميل إلى ما يوافق ما ينفق عندهم واقعة وقعت لي وإن كانت الوقائع في هذا الباب لا يأتي عليها الحصر مودعة في بطون الدفاتر معروفة عند من له خبرة بأحوال من تقدم. وذلك أنه عقد خليفة العصر- حفظه الله- مجلسا جمع فيه وزراءه وأكابر أولاده وكثيرًا من خواصه وحضر هذا المجلس من أهل العلم ثلاثة أنا أحدهم، وكان عقد هذا المجلس لطلب المشورة في فتنة حدثت بسبب بعض الملوك ووصول جيوشه إلى بعض الأقطار العربية والإمامية، وتخاذل كثير من الرعايا واضطرابهم وارتجاف اليمن بأسره «لعلها جيوش ابراهيم باشا» فأشرت إلى الخليفة بأن أعظم ما يتوصل به إلى دفع هذه النازلة هو العدل في الرعية والاقتصاد في المأخوذ منهم على من ما ورد به الشرع وعدم مجاوزته في شيء وإخلاص النية في ذلك وإشعار الرعية في جميع الأقطار والعزم على الاستمرار ، فإن ذلك من الأسباب التي تدفع كل الدفع وتنجع أبلغ النجع فإن اضطراب الرعايا ورفع رؤوسهم إلى الواصلين ليس إلا لما يبلغهم من اقتصارهم على الحقوق الواجبة وليس ذلك لرغبة في شيء آخر. 

فلما فرغت من أداء النصيحة انبرى أحد الرجلين الآخرين وهو ممن حظي من العلم بنصيب وافر ومن الشرف بمرتبة علية، ومن السن بنحو ثمانين سنة وقال: أن الدولة لا تقوم بذلك ولا تتم الا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها، ثم أطال في هذا بما يتحير عنده السامع ويشترك بمخالفته للشريعة العالم، والجاهل، والمقصر، والكامل.

رابعًا: حب الجدل والمراء، فإن الرجل قد يكون له بصيرة وحسن إدراك ومعرفة بالحق ورغوب إليه فيخطىء في المناظرة ويحمله الهوى ومحبة الغلب وطلب الظهور على التصميم على مقاله وتصحيح خطأه وتقويم معوجه بالجدل والمراء، وهذه الذريعة الإبليسية والدسيسة الشيطانية قد وقع بها من وقع في مهاوي التعصبات ومزالق من التعسفات عظيمة الخطر مخوفة العاقبة. 

وقد شاهدنا من هذا الجنس ما يقضى منه العجب، فإن بعض من يسلك هذا المسلك قد يجاوز ذلك إلى الحلف بالأيمان على حقيقة ما قاله وصواب ما ذهب إليه. 

وكثيرًا منهم يعترف بعد أن تذهب عنه سورة الغضب وتزول عنه نزوة الشيطان بأنه فعل ذلك تعمدًا مع علمه بأن الذي قاله غير صواب. وقد وقع مع جماعة من السلف من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر وصار ذلك مذاهب تروى وأقوال تحكى كما يعرف ذلك من يعرف.

خامسًا: التعصب للأقارب وللآباء والأجداد كأن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول ومال إلى رأي فيأتي هذا الذي جاء بعده فيحمله على حب القرابة على الذهاب إلى ذلك المذهب، والقول بذلك القول، وإن كان يعلم أنه خطأ، وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه أنه صحيح، ويتطلب له الحجج ويبحث عما يقويه، وإن كان بمكان من الضعف ومحل من السقوط، وليس له في هذا حظ ولا معه فائدة إلا مجرد المباهاة لمن يعرفه والتزين لأصحابه بأنه في العلم معرق، وأن بيته قديم فيه. ولهذا ترى كثيرًا منهم يستكثر من: قال جدنا قال والدنا، واختار كذا، وصنع كذا، وفعل كذا ، وهذا لا شك ما تميل إليه الطباع البشرية ولا سيما طبائع العرب فإن الفخر بالأنساب والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم، ويزداد هذا بزيادة شرف النفس وكرم العنصر ونبالة الآباء، ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين وتأثير الباطل على الحق، فإن اللذة التي يطلبها والشرف الذي يريده قد حصل له بكون سلفه ذلك العالم ولا يضيره أن يترك التعصب له ولا يمحق عليه شرفه، فالتعصب مع كونه مفسدًا للحظ الأخروي يفسد عليه أيضًا الحظ الدنيوي، فإنه إذا تعصب لسلفه بالباطل فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب ، وفي ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه وأشد من الفائدة التي يطلبها بكون له قريب عالم – فإنه لا ينفعه صلاح غيره مع فساد نفسه.

ولقد رأيت من أهل عصري في هذا عجبًا فإن بعض من جمعني وإياه الطلب لعلوم الاجتهاد يتعصب لبعض المصنفين من قرابته تعصبًا مفرطًا، حتى أنه إذا سمع من يعترض عليه، أو يستبعد شيئًا قاله اضطرب وتربد وجهه وتغيرت أخلاقه سواء عليه من اعترض بحق أو بباطل فإنه لا يقبل سمعه في هذا كلامًا ولا يسمع من نصيح ملامًا، ولا غرابة بعد هذا أن نجد غالب العلوية شيعة ، وغالب الأموية عثمانية ، وكان تعظيم عثمان في الدولة الأموية عظيمًا، وأهل الدولة مشغولون بحفظ مناقبه ونشرها وتعريف الناس إياها، وكانوا إذ ذاك يثلبون من كانت بينه وبينه عداوة أو منافسة، ثم لما جاءت الدولة العباسية عقبها، كان العباس عند أهلها أعظم الصحابة قدرًا وأجلهم ، وكذلك ابنه عبد الله، وتوصلت خلفاء بني العباس بكثير من شعراء تلك الدولة إلى تفضيل أولاد العباس على أولاد علي، وكان الناس في أيامهم يعدونهم أهل البيت، ويطبقون ما ورد من فضائل الآل عليهم، وأولاد علي إذ ذاك إنما هم عندهم خوارج لقيامهم عليهم ومنازعتهم لهم في الملك.

ولقد كان بنو أمية قبلهم هكذا يعتقد أهل دولتهم فيهم أنهم الآل والقرابة وعصبة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- وأن العلويين والعباسيين ليسوا من ذلك في ورود ولا صدر، بل أطبقوا هم وأهل دولتهم على لعن على ولا يعرف لديهم الا بأبي تراب، والمنتسب إليه والمعظم له ترابي لا يقام له وزن ولا يعظم له جانب ولا تراعى له حرمة.

في أيَّام الشوكاني 5 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

سادسًا: تغليب رأي الدولة، أو الناس على دين ملوكهم، فالناشيء في دولة ينشأ على ما يتظاهر به أهلها ويجد عليه سلفه فيظنه الدين الحق والمذهب العدل، ثم لا يجد من یرشده إلى خلافه، إن كان قد تظاهر أهله بشيء من البدع وعلموا على خلاف الحق، لأن الناس إما عامة وهم يعتقدون في تلك البدع التي نشأوا عليها ووجدوها بين ظهرانيهم واعتقدوا أنها هي الدين الحق والسنة القديمة والنحلة الصحيحة، وإما خاصة ومنهم من يترك التكلم بالحق والإرشاد مخافة الضرر من تلك الدولة وأهلها بل وعامتها، فإنه لو تكلم بشيء خلاف ما عليه الناس استجلابًا لخواطر العوام ومخافة من نفورهم عنه، وقد يترك التكلم بالحق لطمع يظنه ويرجو حصوله من تلك الدولة أو من سائر الناس في مستقبل الزمان، كمن يطمع في نيل رئاسة من الرئاسات أو منصب من المناصب كائنًا من كان، أو يرجو حصول رزق من السلطان أو أي فائدة فإنه يخاف أن تفوت عليه هذه الفائدة المظنونة والرئاسة المطموع فيها فيتظاهر بما يوافق الناس ويتفق عندهم ويميلون إليه ليكون له ذخيرة، وبذا ينال عندهم عرض من الدنيا الذي يرجوه ، فكيف تجد ذلك الناشىء بين من كان كذلك من يرشده إلى الحق ويبين له الصواب ويحول بينه وبين الباطل ويجنبه الغواية؟ وهيهات فالدنيا مؤثرة والدين تبع لها، ومن شك في هذا فليخبرنا من ذلك الذي يستطيع أن يصرخ بين ظهراني دولة من تلك الدول بما يخالف اعتقاد أهلها وتألف عامتها وخاصتها ووقوع مثل ذلك نادرًا، وإنما يقوم به أفــراد من مخلصي العلماء ومنصفيهم وقليل ما هم!

سابعًا: المنافسة، وهي من الأسباب المانعة للإنصاف والداعية إلى التعصب المنافسة تقع بين المتقاربين في الفضائل، أو في الرئاسة الدينية أو الدنيوية فإنه إذا نفخ الشيطان في أنفهما وترقت المنافسة بلغت إلى حد يحمل كل واحد منهما على أن يرد ما جاء به الآخر إذا تمكن من ذلك، وإن كان صحيحًا جاريًا على منهج الصواب. 

وقد رأينا وسمعنا من هذا القبيل عجائب صنع فيها جماعة من أهل العلم صنيع أهل الطاغوت، وردوا ما جاء به بعضهم من الحق وقابلوه بالجدل الباطل والمراء القاتل.

ثامنًا: غياب المنهج العلمي الدقيق، والتباس ما هو من الرأي البحت بشيء من العلوم التي هي مواد الاجتهاد، وكثيرًا ما يقع ذلك في أصول الفقه فإنه قد اختلط فيها المعروف بالمنكر، والصحيح بالفاسد، والجيد بالرديء، فربما يتكلم أهل هذا العلم على مسائل الرأي ويحررونها ويقررونها وليست منه في شيء، ولا تَعَلُّقَ لها به بوجه، فيأتي الطالب لهذا العلم إلى تلك المسائل فيعتقد أنها منه فيرد إليها المسائل الفروعية، ويرجع إليها عند تعارض الأدلة ويعمل بها في كثير من المباحث، زاعمًا أنها من أصول الفقه، ذاهلًا عن كونها من علم الرأي. 

ولو علم بذلك لم يقع فيه ولا ركن إليه، فيكون هذا وأمثاله قد وقعوا في التعصب وفارقوا مسلك الإنصاف ورجعوا إلى علم الرأي وهم لا يشعرون بشيء من ذلك ولا يفطنون به، بل يعتقدون أنهم متشبثون بالحق متمسكون بالدليل واقفون على الإنصاف خارجون عن التعصب، وقلَّ من يسلم من هذه الدقيقة وينجو من غبار هذه الأعاصير، بل هم أقل من القليل.

تاسعًا: الميل إلى التمذهب، والمتمذهبون هم المهتمون بذكر مناقب مذهب معين دون مثالبه ولا أقول إنَّهم يتعمدون الكذب ويكتمون الحق فهم أعلى قدرًا وأشد تورعًا من ذلك، ولكن رسخ في قلوبهم حب مذاهبهم فأحسنوا الظن بأهلها فتسبب عن ذلك ما ذكرنا ولم يشعروا بأنَّ هذا الصنيع من أشد التعصب وأقبح الظلم، بل ظنوا أنَّ ذلك من نصرة الدين ورفع منار المحققين ووضع أمر المبطلين غفلة منهم وتقليدًا. (بتصرف ” أدب الطلب”)

تلك هي بعض أسباب التعصب كما يراها الإمام الشوكاني في كتابه «أدب الطلب» وهذا الرصد الشامل الدقيق الواعي دليل ناصع على اتساع دائرة التفكير عند عالمنا الكبير، وهو أيضًا علامة واضحة على استيعابه الكامل لظواهر عصره الاجتماعية والفكرية، والغريب أنَّه لم يكتف بتشخيص التعصب كداء يثقل ويدمر ضمير الشعب وقواه العقلية، بل تعدى موقف التشخيص إلى موقف العلاج، وإذا كان قد قسم أسباب التعصب إلى أشكال وأنواع منها هذه الأنواع السالفة الذكر، فإنه قد قسم المتعصبين إلى ثلاث فئات هي:

أولًا: فئة الخاصة. 

ثانيًا: فئة العامة. 

ثالثًا: فئة وسطى بين الخاصة والعامة.

وقد أكد الشوكاني أن الفئة الأولى وهي (فئة الخاصة) يمكن أن تشفى من داء العصبية وأن تعود إلى حظيرة الإنصاف، وأنَّ شفاءها من التعصب سهل وميسور وذلك بإقناعها بالأدلة التي تقوم على الحجة القاطعة والتي إذا ما سمعوها عرفوا الحق واتبعوه، كما أنَّ علاج الفئة الثانية وهي (فئة العامة) سهل وميسور أيضًا فرياضة العامة بإرشادهم إلى التعليم ثم بذل النفس في تعريفهم ما هو الحق وإرشادهم إلى اتباعه واعتقاده.

أما الفئة الثالثة والتي تشكل فئة متوسطة بين الفئتين فهي – على حد تعبير الشوكاني – (العقبة الكؤود والطريق المستوعرة والخطب الجليل، وهو يرى أنه من التعب الثقيل إرشاد طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة؛ لأنها تتألف من قوم قلدوا الرجال وتلقوا علم الرأي ومارسوه حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزوا عنهم، وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطًا وجهل هؤلاء مركبًا، وأشد هؤلاء تغييرًا لفطرته وتكديرًا لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي وأثبتهم تمسكًا بالتقليد وأعظمهم حرصًا عليه، فان الدواء قد ينجع في أحد هؤلاء في أوائل أمره وأما بعد طول العكوف على ذلك الشغف به والتحفظ له فما أبعد التأثير وما أصعب القبول، لأن طبائعهم ما زالت تزداد كثافة بازدياد تحصیل ذلك وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذلك، وبمقدار ولوعهم بما هم فيه وشغفهم فيه تكون عداوتهم للحق ولعلم الأدلة وللقائمين بالحجة.

ولقد شاهدنا من هذه الطبقة ما لو سردنا بعضه لاستعظمه سامعه واستفظعه، فإنَّ غالبهم لا يتصور بعد تمرنه فيما هو فيه إلا منصبًا يثب عليه أو يتيمًا يشاركه في ماله أو أرملة يخادعها عن ملكها، أو فرصة ينتهزها عند ملك أو قاض فيبلغ بها الى شيء من حطام الدنيا، ولا يبقى في طبعهم شيء من نور العلم وهدى أهله وأخلاقهم بل هم وأخلاقهم أشبه شيء بالجبابرة وأهل المباشرة للمظالم، ومع هذا فهم أشد خلق الله تعصبًا وتعنتًا وبعدًا عن الحق ورجوعهم إلى الحق من أبعد الأمور وأصعبها؛ لأنَّه لم يبق في أفهامهم فضلة لتعقل ذلك وتدبره، بل قد صار بعضها مستغرقًا بالرأي وبعضها مستغرقًا بالدنيا، فإن قلتَ: فهل بقي مطمع في أهل هذه الطبقة وكيف الوصول إلى إرشادهم إلى الإنصاف وإخراجهم عن التعصب قلتُ: لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته). (من ص 67 إلى ص 69 /بتصرف ” أدب الطلب”)

وهذا اليأس القاطع من هذه الفئة أو الطبقة التي تمثل الجهل المركب، فهي تدعي العلم في حين أنها لا تعلم ولا تعلم أنها لا تعلم، وقد صار لها من فهم القشور والاطلاع على مبادىء من مذهب معين أو عناوين من الأصول، صار ذلك وقاية لها وحصانة من الفهم الحقيقي ومن العلم الحقيقي ومن الاقتراب من ساحة الإنصاف.

وكما كان الشوكاني عميقًا ودقيقًا في تشخيص هذه الفئات ورصد مشاعرها وعوامل تعصبها، فقد أوضحت الفقرات السالفة أننا لسنا إزاء عالم أصولي متفقه في أمور الدين ولكننا إزاء مفكر واسع الثقافة عالم باللغة وأسرارها، وعالم بالتاريخ ودارس للنفوس البشرية وأهوائها، ومن ذلك التحليل الرائع لتعصب كل من الدولتين الأموية والعباسية لأفكارهما والانتماء الضيق إلى الأسرة يحدد الشوكاني فهمه العميق للتاريخ وتأثير الحكام في طبع الرعايا على صورتهم، وفي النصيحة المثلى التي تقدم بها إلى الإمام المنصور ودعوته القوية إلى لم شتات الشعب والوقوف به صفًا واحدًا في وجه الغزاة من خلال تطبيق العدل ورفع الجور وإلغاء الضرائب الجائرة التي تدفع المواطنين إلى استقبال الغزاة والترحيب بهم، لأنهم لن يكونوا أكثر خطرًا ولا أضر شأنًا من الحكام الطغاة والمسؤولين اللصوص، ثم تلك اللمحة الذكية البارعة في طبائع العرب وفخرهم بالأنساب واعتزازهم بمناقب السلف، كل ذلك يثبت ما ذهبنا إليه من أننا نحس ونحن مع الشوكاني في كتابه (أدب الطلب) أننا مع مفكر إسلامي من الرعيل الناضج الممتاز.

كنت أرغب أن تطول رحلتي على صفحات كتاب (أدب الطلب)، فهذا الكتاب الذي يكشف أبعاد الملامح العصيبة من سيرة الإمام محمد بن علي الشوكاني، والذي قدم المفكر اليمني البارز من خلاله عصارة تجربته الدراسية والعلمية وأهداها لطالب العلم في عصره، وفيما تلاه من العصور، وهو الكتاب الذي يضع مؤلفه في طليعة الصفوة اليمنية المستنيرة، ويترجم فكره الديني الصحيح إلى واقع ومنهج وطريق يخرج بالمسلم من عالم التعصب البغيض الى آفاق التسامح والعدل.

[3]

كنت أرغب في أن يتواصل الحديث ويتسع حتى يشمل كافة الجوانب التي يموج بها هذا الكتاب، لكني لا أريد لما أكتبه هنا أن يكون بديلًا عن الكتاب أو تلخيصًا له، وإنما أريد فقط بما أكتبه أن أفتح شهية القارىء إلى صحبة طويلة وعميقة معه، صحبة يسترجع أثناءها صورة العصر الذي ظهر الشوكاني في إطاره المكفهر، صورة التناقضات والتباين العقائدي داخل العقيدة الواحدة التي جاءت لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأرادها الجاهلون والمتعصبون أداة لإغراق الناس في ظلمات التعصب والاختلاف المذهبي والقيمي.

كنت أرغب في أن يطول، ويطول حديثي هذا الكتاب، وأن أتوقف عند كل فقرة من القارىء عن فقراته لولا أنَّني لا أريد أن أفرض بأحاديثي المتواضعة شكلًا من أشكال التفسير الذاتي الضيق للقضايا الفكرية والاجتماعية التي طرحها.

وقد يكون لها في كل ذهن صورة معينة، صورة قادرة على اجتثاث رواسب التعصب والانغلاق، فإن هذا هو الجزء الأخير من القراءة في «أيام الشوكاني» من خلال هذا العمل الفكري الذي يشبه في بعض الجوانب السيرة الذاتية، وإن كان يختلف عنها بما يحتوي عليه من النقد والتوجيه، وفي هذا الجزء الأخير سوف أحاول الحديث بإيجاز عن ثلاث قضايا، يثيرها الكتاب وهي: الثبات في سبيل المبدأ، ومحاولة الاستفادة من الحاكم وتوجيه خطاه إلى العدل، ثم الإشارة إلى بعض الأحكام الخاطئة التي وقع فيها الشوكاني وخالف بها منهجه القائم على التسامح وإنكار قصر العلم على فئة دون فئة أو أسرة دون أخرى:

في أيَّام 2الشوكاني قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

أولًا: القضية أو الموت

إن عظمة الإسلام تأتي من كونه ديناً يرفض الكهنوت، ويرفض تقسيم أتباعه إلى رجال دين ورجال دنيا، كما يرفض أي امتهان أو تقصير في حق العلم والفكر والإنسان، إنه دين يرفض الواسطة بين الإنسان وخالقه، دين لا مكان فيه لمؤسسة دينية أو مراجع مقدسة تمنح صكوك الغفران لقوم وتمنعها عن آخرين، وقد انعكس هذا الفهم للإسلام في وجدان الشوكاني وفي وجدانات أمثاله من الصفوة المستنيرة فأثمر تلك المواقف الخالدة التي مازالت تضيء عقول المفكرين الإسلاميين في العالم الى يومنا هذا.

ولأن هذا الفهم العميق للإسلام قد أضاء وجدان الشوكاني وتجسد في سلوكه اليومي فقد أعد نفسه للنتائج التي يمكن أن يوقعه فيها مثل هذا الفهم العميق، وكان على دراية أن خصومه لن يتركوه يمضي في نهجه الديني سالماً لذلك، فقد وطن نفسه على تقبل أقسى النتائج وهذا ما جعله ينصح كل تلميذ من تلاميذه وكل طالب علم صادق الغاية واضح الهدف بالكلمات المضيئة التالية: (هب صدق ما حدسته ووقوع ما قدرته وحصول المحنة عليك ونزول الضرر بك، فهل أنت كل العالم وجميع الناس؟! أم تظن أنك مخلد في هذه الدار، أم ماذا عسى يكون إذا عملت ومشيت على الطريقة التي أمرك الله بها، فنهاية ما ينزل عليك ويحل بك أن تكون قتيلًا للحق وشهيدًا للعلم فتظفر بالسعادة الأبدية، وتكون قدوة لأهل العلم إلى آخر الدهر وخزياً لأهل البدع وقاصمة لظهورهم وبلاءً مصوبًا عليهم وعاراً لهم ما داموا متمسكين بضلالهم سادرين في عمايتهم واقعين في مزالقهم، وكم قد سبقك من عباد الله إلى هذه الطريقة وظفر بهذه المنزلة العلية وفيهم لك القدوة وبهم الأسوة.

فانظر- يا مسكين- من قطعته السيوف ومزقته الرماح من عباد الله في الجهاد، فإنهم طلبوا الموت ورغبوا في الشهادة والبيض تغمد في الطلا والرماح تغرز في الكلا والموت بمرأى منهم ومسمع يأتيهم من أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم، فأين أنت من هؤلاء ولست إلا قائمًا بين ظهراني المسلمين تدعوهم إلى ما شرعه الله وترشدهم إلى تأثير كتاب الله وسنة رسوله، فإن الذي يظن بمثلك ممن يقوم بمقامك لم تنجذب له القلوب بادىء بدء ويتبعه الناس بأول نداء أن يستنكر الناس ذلك عليه ويستعظموه منه وينالوه بألسنتهم ويسيئوا القالة فيه فيكثروا الغيبة له فضلًا عن أن يبلغ ما يصدر منهم إلى الأضرار ببدنه أو ماله فضلًا عن أن ينزل به ما نزل بأولئك، وهب أنه ناله منهم أعظم ماجوزه وأقبح ما قدره فليس هو بأعظم مما أصيب بــه من قتل في سبيل الله. (من ص65 إلى66/” أدب الطلب).

يصرخ المفكر الشجاع تحت رايات الاستشهاد، إن كل شيء في سبيل انتصار القضية يهون، موت المناضل لا يعتبر موتًا لكل البشر أو كما يقول الشوكاني «أنت لست كل الناس» ثم إن أحدًا كما يقول لا يخلد في هذه الحياة، الشجاع والجبان كل منهما يدركه الموت، ورب عيش- كمال يقول المتنبي- أخف من الحمام.

في أيَّام الشوكاني 3 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

ثانيًا: المفكر والسلطة

قد يتساءل البعض- وهم على حق في هذا التساؤل- إذا كان الشوكاني على هذا المستوى من الشجاعة والاستعداد للتضحية فلماذا قبل أن يكون وزيرًا في حكومة الإمام أو قاضيًا لقضاته مع علمه أن انضواء العالم تحت سلطة الحاكم تكون أكثر ضررًا على الإسلام من انضواء غيره من الأفراد؟ ونحن نترك الإجابة على مثل هذا السؤال للإمام الخميني هذا العالم الديني العجوز الذي يهز الآن بعمامته السوداء أركان الكرة الارضية، وقد تحدث في كتابه (الحكومة الاسلامية) عن فقهاء السلطة وفقهاء الحيض والنفاس أولئك الذين يوجهون أكبر لطمة للإسلام ويشكلون أكبر خطر عليه، ويبرزون الإسلام بصورة مشوهة كأقصى ما يكون التشويه.

كما يتحدث الإمام الخميني في كتابه كذلك عن نوعين من العلماء الذين قد يلجأون إلى مداراة السلطة، وهم العلماء (المتقون) أو المتمسكون بنظرية (التقية)، والعلماء الذين يستطيعون توجيه الحاكم وإصلاحه أو يستهدفون من وراء تعاونهم مع أي نظام القضاء عليه وتفتيته من الداخل، وهو لا يرى أن يتمسك العلماء بالتقية إلا في حدود قد شرعت للحفاظ على النفس أو الغير في مجال فروع الأحكام، أما إذا كان الإسلام كله في خطر فليس في ذلك متسع للتقية والسكوت.

وهو يقول: (إذا كانت ظروف التقية تلزم أحدًا منا بالدخول في ركب السلاطين، فهنا يجب الامتناع عن ذلك، حتى لو أدى الامتناع الى قتله، إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام وللمسلمين، مثل دخول علي بن يقطين، ونصير الدين الطوسي رحمهما الله، وبالطبع ففقهاؤنا- كما تعرفون- من صدر الإسلام إلى يومنا هذا أجل من أنْ ينزلوا إلى ذلك المستوى الوضيع، وفقهاء السلاطين كانوا دائمًا من غير جماعتنا، وعلى غير رأينا.

وتعرض فقهاؤنا على مر العصور لأبشع ألوان القسوة والاضطهاد وحملات الإبادة والمطاردة في كل مكان؛ وطبيعي أن يسمح الإسلام بالدخول في أجهزة الجائرين؛ إذا كان الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو الحد من المظالم أو إحداث انقلاب على القائمين بالأمر، بل إن ذلك الدخول قد يكون واجبًا، وليس عندنا في ذلك خلاف، إنما الكلام في مَن دعته بطنته واستهوته الحياة الدنيا، وباع آخرته بدنيا غيره وزين له الشيطان عمله، فعمل في صفوف الخونة من الحاكمين وأيدهم وآزرهم وسار من ورائهم والله على ما يعمل ويقول شهيد). (ص142 – 143 من كتاب ” الحكومة الإسلامية” للخميني).

الدخول إذًا في أجهزة الحكم حتى الجائر منها واجب في نظر الإمام الخميني، إذا كان ذلك للحد من المظالم وتخفيف الجور عن المحكومين، وهذا عين ما توخاه الشوكاني بقبوله المنصب الرسمي، لم يكن يهدف إلى جمع ثروة فهو غني بعلمه وفكره، ولم يكن يطمح في إحداث انقلاب أو الاستيلاء على السلطة فالحكم بكل أشكاله من الأمور التي لم تخطر له على بال، لقد كانت العلوم شغله الشاغل، وكان القضاء على التعصب وإقامة الإنصاف بين الناس هما الهدف الأكبر والأسمى في نفس ذلك المفكر الرائد.

وقد استطاع باقترابه من الإمام أن يحافظ على التوازن بين المتعصبين لمذهب معين وبين اتباع بقية المذاهب، وتمكن في بعض الفترات أن يوجه الضربات الحاسمة إلى صدور بعض المتعصبين الذين جعلوا من مدينة صنعاء مسرحًا للإرهاب والفتنة، عندما كانوا يطاردون الطلائع المتحررة ويحرقون بيوت العلماء أو الخطباء الذين يجاهرون بحرية الفكر والاعتقاد وينادون بالاجتهاد والانعتاق من عبادة السلف.

لقد تمكن الشوكاني من خلال منصبه أولًا، ومن خلال علاقته الجيدة بالإمام أن يصور خطر هؤلاء المتعصبين ليس على الحكم وإنما على الاسلام.

وهذا موقف من المواقف الكثيرة التي أعلنها عالمنا الكبير في وجه التعصب والجمود خلال علاقته الوطيدة بالحاكم الأول، فقد حدثت فتنة أثارها المتعصبون ضد مخالفيهم في الرأي وبتشجيع من أحد الوزراء الجهلاء المشجعين للتعصب، فيقول الشوكاني واصفاً هذه الفتنة ودور هذا الوزير الجاهل غير المدرك لأخطار التعصب: (وهذا الوزير لم يكن رفضه لوازع ديني كما يتفق لكثير من أهل الجهل المتعلقين بالرفض فهو أنذل من ذلك وأقل، ولكنه يفعل ذلك مساعدة لجماعة من شياطين المتفقهة المتعصبة يدخلون إليه فيقولون إنه لم يبق من يحامي على هذا الأمر سواك، وإنك ركن التشيع وملجأ أهله ونحو هذه العبارات فيبالغ في التظهر بهذه الخصلة ويحب نسبة ذلك إليه، فكان الرفض مكملًا لمثالبه متممًا لمعايبه، لأنَّه في كل باب من أبواب القبائح قريع دهره و نسيج وحده، فلما تكاثر ما يصدر من أولئك المشتغلين بما لا يعنيهم من ثلب السلف مع ما ينضم إلى ذلك إدخال الضغائن في قلوب العامة وإيمانهم أن الناس قد تركوا مذهب أهل البيت وفعلوا وفعلوا، وكل ذلك كذب فإن الناس هم في هذه الديار زيدية، وكثير منهم يجاوز ذلك فيصير رافضيًا جلدًا، ولم يكن في هذه الديار على خلاف ذلك إلا الشاذ النادر وهم أكابر العلماء ومن يقتدي بهم، فإنهم يعملون بمقتضى الدليل ولا ينتمون إلى مذهب، ولا يتعصبون لأحد فهؤلاء هم الذين يقصدهم أولئك الرافضة بكل فاقرة ويرمونهم بالحجر والمدر ويَسِمُونهم بميسم النصبة، فلما تفاقم شر أولئك المدرسين وصار الجامع ملعباً لا متعبدًا واشتغل بأصواتهم المصلون عن صلاتهم والذاكرون عن ذكرهم رجح إمام العصر أعز الله به الدين منع صاحب الكرسي من الإملاء في الجامع وأمره بالعود إلى المسجد الذي كان يملي فيه، فحضر أولئك المستمعون على عادتهم وكان الإملاء قبل صلاة العشاء، فلما لم يحضر شيخهم ذهب بعضهم ليجيء به من بيته فأخبرهم أن الإمام قد منعه وأمره بالعودة إلى حيث كان فلم يعذروه ولا سمعوا منه ورجعوا إلى الجامع ثم ثاروا ثورة شيطانية، وقاموا قومة طاغوتية فمنعوا من الصلاة في الجامع، وما زال ينضم إليهم كل رافضي ومن له رغبة في إثارة الفتنة حتى صاروا جمعاً كثيرًا، ثم خرجوا فقصدوا بيت المؤذن الذي أظهر عليهم الرأي الإمامي فرجموه حتى كادوا يهدمونه وفيه نساء وأطفال قد صاروا في أمر مريع، هذا وليس لذلك المؤذن المسكين سعي ولا له قدرة على شيء، ولكن والي الأوقاف أرسل بالأمر الإمامي إليه، ووالي الوقف أيضًا ليس له سعي في ذلك ولكنه أرسله إليه بعض من يتصل بالمقام الإمامي، ثم لما فرغوا من رجم بيت المؤذن ذهبوا ولهم صراخ عظيم وأصوات شديدة إلى بيت والي الأوقاف، وهو رجل من أهل العلم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرجموا بيته رجمًا شديدًا حتى غشي على بعض من فيه من الشرايف، فقال لهم قائل: إن هؤلاء الشرائف المرجومات من بنات نبيكم وبنات علي بن أبي طالب، ولم يكن بنات معاوية ولا بنات عمرو بن العاص وغيرهما ممن تعادونهم فمالكم ولهن، فلم يلتفتوا إلى ذلك واستمروا على الرجم ثم دخلوا إلى بعض البيت ونهبوا بعض متاعه، وبلغهم أن والي الأوقاف وولده بمسجد قريب من بيته فحاصوا حيصة حمر الوحش، وصرخوا صرخة الحمر الأهلية وذهبوا إلى ذلك المسجد عازمين على قتله فأغلق عليهم بعض الناس مقصورة المسجد فسلم، ثم ذهبوا بصراخهم وجلبتهم إلى بيت بعض أهل العلم من أهل البيت النبوي، وكان يعظ الناس بالجامع ويتظهر ببعض من السنة فرجموا بيته رجمًا شديدًا وفيه شرائف وأطفال، ثم ثاروا إلى بيت بعض وزراء الخليفة لا لذنب إلا لكونه ينافسه ذلك الوزير الرافضي وكونه ينتسب إلى بعض بطون قريش فرجموه رجمًا شديدًا، ثم كسروا بعض أبوابه ودخلوا وكادوا يتصلون بمن فيه لولا أنه حماه جماعة بالرمي بالبنادق وآخرون بالسلاح، ويتصل ببيت هذا الوزير المرجوم بيت وزير آخر من أهل العلم فرجموه ورجمهم من في بيت الوزير حتى أصابوا جماعة منهم فتركوه، وسبب رجمهم لبيت الوزير هذا أنه من جملة من يتظاهر بعلم السنة، ثم لما كاد ينقضي الليل فارقوا ما هم فيه وقد أثاروا فتنة عظيمة، ومحنة شديدة، ولما كان النهار جمع الخليفة أعوانه وطلبني واستشارني فأشرت عليه بأن يحبس أولئك المدرسين الذين أثاروا الفتنة في الجامع بسبب ما يصدر منهم من نكاية القلوب وإثارة العوام فحبسهم، ثم أشرت عليه بأن يأمر بتتبع أولئك الذين رجموا تلك البيوت وفعلوا تلك الأفاعيل ومن وجدوه حبسوه، ويأمر بتتبع جماعة من شياطين الفقهاء المثيرين للفتنة ففعل وحبسوا جميعًا. ولكن لم ينصح والي مدينة صنعاء لموافقته للوزير الرافضي في الرفض ومهابته له ووقوفه عندما يختاره ويرتضيه، وبعد أن اجتمع في الحبس جماعة كثيرة من هؤلاء أرسل الإمام- حفظه الله – لجماعة من شياطينهم المباشرين للفتنة من الفقهاء فجيء بهم من الحبس إليه وضربهم بالعصي تحت داره وهو ينظر، ثم أرسل في اليوم الآخر لجماعة من أهل السوق المباشرين للفتنة فصنع بهم ما صنع بأولئك، ثم جعل جماعة من شياطين الجمع في سلاسل وأرسل بهم إلى جزائر البحر على هيئة منكرة فسكنت الفتنة سكونًا تامًا).  (من ص99 إلى 102 /” أدب الطلب”).

في أيَّام الشوكاني 4 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

هذه صورة مخزية بحق، وصفحة سوداء من تاريخنا نرجو ألا تتكرر في أي عصر من العصور بسبب التعصب الأعمى والآثار الجاهلية التي يجيدها بعض الفقهاء الذين يفهمون الإسلام فهمًا جامدًا، ولا يعايشون متغيرات الحياة، ولا يحملون في رؤوسهم شعاعًا من فكر ولا بين جنوبهم ذرة من إحساس بالتسامح والدعوة بالحسنى وبالحكمة حتى لا يطفئون النار بالنار ويرجعون بنا الى أيام الاضطهاد ومحاكم التفتيش.

هذه صورة مخزية بحق، وصفحة سوداء من تاريخنا نرجو ألا تتكرر في أي عصر من العصور بسبب التعصب الأعمى والآثار الجاهلية التي يجيدها بعض الفقهاء الذين يفهمون الإسلام فهمًا جامدًا، ولا يعايشون متغيرات الحياة، ولا يحملون في رؤوسهم شعاعًا من فكر ولا بين جنوبهم ذرة من إحساس بالتسامح والدعوة بالحسنى وبالحكمة حتى لا يطفئون النار بالنار ويرجعون بنا الى أيام الاضطهاد ومحاكم التفتيش.

لقد استطاع الشوكاني المفكر أن يقطع دابر الفتنة وأن يضع نهاية للتعصب في عصره، ويبدو أنه قد تسلم زمام القضاء في اليمن بعد هذه الأحداث الرهيبة، وأصبح بما يتصف به من نزاهة وإنصاف نصير المضطهدين فكريًا ومذهبيًا، ومكن للدولة أن تتجه نحو القضايا الأكثر أهمية والأبعد أثرًا كحماية الوطن ونشر الأمن والاستقرار في ربوع البلاد.

وإذا كنا في السطور السالفة قد قرأنا رأيَ ثائرٍ ديني معاصر في فقهاء السلطة، ومنهم العلماء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ومنهم جماعة ألبستهم دوائر الأمن والاستخبارات العمائم لكي يدعوا الله للسلطان ويستنزلوا عليه بركاته ورحماته، إذا كنا في السطور السالفة قد ألممنا بذلك الرأي فإننا ينبغي أن نلقي نظرة على رأي مشابه وقديم للشوكاني نفسه، حول الأسباب والحيثيات التي أدت إلى سقوط العلماء وزهد الناس فيما عندهم: (ومن هذه الحيثيات تنازل منصب العلم وتهاون الناس به؛ لأنهم يرون رجلًا قد لبس لباس أهل العلم وتزيا بزيهم وحضر مجالسهم، ثم ذهب إلى مجالس أهل الدنيا، ومن لهم قدرة على إيصال أهل الأعمال الدنيوية إليها من وزير أو أمير فتصاغر لهم وتذلل وتهاون وتحاقر حتى يصير في عداد خدمهم ومن هو في أبوابهم، ثم أعطوه منصبًا من المناصب فعمل على ما يريدونه منه وإن خالف الشرع، واعتمد ما يرسمونه له وإن كان طاغوتًا بحتًا، فيظن من لا علم عنده بحقائق الأمور أن أهل العلم كلهم هكذا، وأنهم ينسلخون من العلم إذا ظفروا بمنصب من المناصب هـذا الانسلاخ، ويمسخون هذا المسخ، ويعود أمرهم إلى هذا المعاد فيزهد في العلم وأهله، وتنفر عنه نفسه، وتقل فيه رغبته، و يؤثر الحرف الدنيوية عليه ليربح السلامة من المهانة التي رآها نازلة بهذا المشئوم الجالب على نفسه وعلى أهل العلم ما جلب من الذل والصغار، وإذا كان ما جناه هؤلاء النَوْكَى على العالم وأهله بالغًا إلى هذا الحد عند سائر الناس فما ظنك بما يعتقده فيهم من يطلبون منه المناصب بعد أن شاهد منهم ما يشاهده من الخضوع والذلة والانسلاخ عن الشرع إلى ما يريدونه منه وبذل الأموال لهم على ذلك، ومهاداتهم بأفخر الهدايا ، والوقوف على ما يطلبونه منه على أي صفة تراد منهم، وينضم إلى هذا خلوهم عن العلم وجهلهم لأهله الذين هم أهله فيظنون أنَّ هؤلاء الذين قصدوهم وتعثروا على أبوابهم هم رؤوس أهله؛ لما يشاهدونه عليهم من الهيئة واللباس الفاخر الذي لا يجدونه عند المشتغلين بالعلم، فهل تراهم بعد هذا يميلون إلى ما يقوله أهل العلم وينزجرون بما يوردونه عليهم من الزواجر الشرعية المتضمنة لإنكار ما هو منكر والأمر بما هو معروف والتخويف لهم عن مجاوزة حدود الله؟ هيهات أن يصغوا لهذا سمعًا أو يفتحوا له طرفًا فإلى الله المشتكى!  (من ص167 إلى 168 /” أدب الطلب”)

إن هذا- في تقديري – أقسى هجاء قيل في فقهاء السلاطين، وهو بالأمثلة التي تضمنته أول محاولة لردع العلماء عن السقوط في مثل هذه المستنقعات، وفي الكتاب موضوع الحديث مواقف كثيرة عن أمثال هؤلاء يتقيأون الفتاوى حسب الطلب وفي كل مناسبة!

في أيَّام الشوكاني 1 قراءة في أيَّام الشوكاني (ج2)

ثالثًا: أحكام خاطئة في فكر الشوكاني

قد يكون من التطاول الذي ما بعده تطاول أنْ أقوم بنقد بعض أحكام مفكر كبير وعالم عظيم كالشوكاني، ولكن إيماني بأننا جميعاً بشر، وبأنَّ البشر- مهما علت أفكارهم وسمت أقدارهم- يخطئون، هذا الإيمان دفعني إلى نقد بعض أحكام عالمنا الجليل، ومن ذلك حديثه عن الأهلية للعلم، وضرورة أن يكون الطالب معروفًا بشرف المحتد وكرم النجاد وظهور الحسب، وفي هذا ما فيه من حصر العلم على طبقة أو فئة من الناس وحرمان الأغلبية من أبناء الشعب بتهمة أنهم ليسوا من بيت علم، أو كما يقول الشوكاني نفسه: ( وأمَّا من كان من سقط المتاع وسفساف أهل المهن كأهل الحياكة والعصارة والقضابة، ونحو ذلك من المهن الدنية، والحرف الوضيعة، فإنَّ نفسه لا تفارق الدناءة، ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة ولا تنفر عن الضيم، فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في أمور منها العجب والزهو والخيلاء ؛ لأنه يرى نفسه بعد أن كان في أوضع مكان وأخس رتبة قاعدًا في أعلى محل وأرفع موضع، فإن منزلة العلم وأهله هي المنزلة التي لا تساميها منزلة وإن علت، ولا تساويها رتبة وإن ارتفعت، فبينما ذلك الطالب قاعد بين أهل حرفته من أهل الحياكة أو الحجامة أو الجزارة أو نحوهم في أخس بقعة وأعظم مهانة، إذ صار بين العلماء المتعلمين الذين هم في أعلى منازل الدنيا والدين، فبمجرد ذلك يحصل له من العجب والتطاول على الناس والترفع عليهم ما يعظم به الضرر على أهل العلم فضلًا عن غيرهم ممن هم دونهم.) (من ص163 إلى 164 /” أدب الطلب”)

ذلك هو الحكم الخاطئ الذي استفزني وشكل ظلًا شاحبًا في كتاب (أدب الطلب)، والعجيب كيف يصدر مثل هذا الحكم الجائر والمتعصب عن عالم عظيم وقف حياته وعلمه لمحاربة الجور والتعصب في جميع أشكالهما وصورهما!

إنها الكبوة التي لا يسلم منها أي عظيم وهي علامة بشرية البشر وإنسانية الإنسان، وإن هذا الكلام لا يتعارض مع إنصاف الشوكاني وتسامحه فحسب، ولكنه يتعارض مع جوهر الدين الاسلامي الذي فهمه عالمنا حق الفهم، واستنار بأحكامه أعظم استنارة، فالدين الاسلامي يرفض التمييز بين البشر فكلهم من آدم وآدم من تراب والأكرم عند هو الأتقى.

وكل دارس أو باحث يعرف جيدًا أنَّ مضللات العصر التي سادت عهد الشوكاني كانت من الكثرة ومن التغلغل في الأفكار إلى حد لا تستطيع التخلص من آثارها أكثر العقول وعياً وإدراكًا، وكنت أتمنى أن يكون الشوكاني بفكره الواسع وعلمه الغزير واحدًا من الصفوة المختارة التي تتجاوز مضللات عصرها جميعًا وتتجاوز الفوارق الاجتماعية والامتيازات الطبقية.

وهناك من يحاول الاعتذار له من هذا الموقف الخاطئ بسبب ما كان يلقاه من بعض أفراد هذه الفئات الجاهلة من هجوم فقد كانت مادة طَيِّعة في أيدي مثيري الخلافات والتعصب.

وما يكادون يسمعون إثارة من بعض من ينسبون إلى العلم حتى ينطلقوا من متاجرهم وأماكن عملهم في فوضى ساخطة ضد أكابر العلماء والمجتهدين في الرأي.

ورغم ما كانت تتسم به هذه الفئات من تعصب مرده إلى الجهل، فإن العالم والمصلح الاجتماعي لا يمكن أن ييأسَ من تقويم اعوجاج الناس ويحكمَ عليهم وعلى أولادهم من بعدهم بالجهل المؤبد والحرمان الدائم، وربما ظلت تلك الأحكام تسحب نفسها بشكل أو بآخر على حياتنا الثقافية والعلمية إلى قيام ثورة سبتمبر العظيمة التي جعلت التعليم حقا لكل مواطن وإلزامًا على كل فرد ينتمي إلى هذه الارض مهما كانت أصوله ومهنة أسرته.

المراجع:

  1. ـ كتاب “أدب الطلب منتهى الأدب” المؤلف: محمد بن علي الشوكاني تحقيق: عبد الله يحيى السريحي الناشر: دار ابن حزم – لبنان / بيروت الطبعة: الأولى 1419هــ – 1998م.
  2. كتاب “الحكومة الإسلامية” للخميني مكتبة نور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى