يقدم الفلم الأمريكي فلم 12 Angry men نقاشا غاضبا بين هيئة المحلفين. من إخراج سيدني لومنت، تم عرضه سنة 1957م، وقد جرى تصويره في قاعة المحلّفين، داخل محكمة، تقع مقابل برج وول وورث في الولايات المتحدة الأمريكية، تدور أحداثه بين 12 رجلا من هيئة المحلفين، لتناول براءة/عدم براءة طفل متهم بقتل والده بالسكين، تدور أحداث الفلم كلها داخل تلك القاعة، بشكل متواصل، لمدة 90 دقيقة.
هيئة المحلَّفين، نظريًا
تمثل هيئة المحلفين مجموعة من الناس العاديين، تتراوح أعمارهم بين 18 و65 عاما، يختارهم القاضي من جداول الشطب (لوائح الناخبين)، وتقوم مهمتهم على الاستماع إلى الاثباتات في قضية ما في المحكمة، والإقرار بصحة ثبوتها أو نفيها، وهي تضم اثني عشر شخصا في الولايات المتحدة الأمريكية.(1)
طبيعة تعليمات هيئة المحلفين (12 Angry Men)
إن غالب مخرجات هيئة المحلفين، “مبناها أن الحكم بالذنب يجب أن يثبت بدون أدنى شك، وهذا يفهم منه أنه من السهل الدفاع عن موقف (ليس مذنبا)، لأنه غالبا ما يوجد على الأقل بعض من الشك، كشهود العيان، الذين يكونون على خطأ، وقد يكون الدليل قابلا للجدال، والواقع أن ما لوحظ في قرارات هيئات المحلفين، هو الانحياز نحو التساهل، فالعناصر المؤيدة للبراءة تكون أكثر نفوذا من العناصر المؤيدة للإدانة، إلا أن الحكم لا يمكن أن ينفذ إلا في حالة الإجماع عليه” (2) وهنا تتبلور طبيعة تناول هيئة المحلفين للقضية، فكل طرف يحاول أن يكوّن لدى الآخر شكا معقولًا تجاه حكمه الأول، ليحوله إلىما اختاره من حكم.
وعمل هيئة المحلفين ليس بتلك البساطة التي تتمثل في اجتماع يطرح توقع ذنب المتهم من دونه، بل بسبب الانحياز القوي كما يذكر ماكون وكير 1988، نجد أن 345 هيئة محلفين تنقسم تجاه القرار بشكل متعادل، ومن بين هؤلاء الهيئات فشلت 35% منها في الوصول إلى حكم، وبالنسبة لهيئات المحلفين الذين توصوا إلى حكم، فإن 53% منهم توصلوا إلى حكم البراءة، بخلاف 12% أصدروا حكم الإدانة (3)، الأمر الذي يبين أن مؤيدي البراءة كانوا دائما الأكثر نفوذا. وذكرا لشيء من التاريخ، فإن هيئة المحلفين كان لها دور رئيسي في إعدام شخصيات تاريخية بارزة، فعلى سبيل المثال، لعبت هيئة المحلفين في أثينا دورا رئيسيا في إعدام سقراط حيث حكمت عليه بأن يشرب كوبا من سم الشوكران (4).
جناح هيئة المحلفين
تتألف هيئة المحلفين في أمريكا قانونيا من 12 عضوا على الأقل، ولا تتجاوز 23 عضوا، وتستمع إلى الأدلة المقدمة لها وتُجري تحقيقاتها، وتدار بواسطة رئيس من ضمن أعضائها، وتُقدم القضايا التي تنظرها من خلال مكتب النائب العام، ولا يسمح قانونيا للغرباء عن الهيئة بمشاهدة أو سماع ما يحدث داخل القاعة (5)، وفيما يلي مخطط يوضح جناح هيئة المحلفين، ما يشير إلى العلاقة بين الغرف والمداخل المطلوبة، ويشمل جناح هيئة المحلفين الكبرى الغرف التالية: (6)
• غرفة استماع هيئة المحلفين الكبرى
• غرفة الشهود
• بهو مزدوج الأبواب، خاص بحاجب المحكمة
• حمامات
• وحدة خدمة
• خزانة المعاطف / مخزن فيديو
وتوضع مقاعد هيئة المحلفين الكبرى إمام في ثلاثة أو أربعة صفوف، وفقا لعرض الغرفة، ويجب ألا تقل مساحة هذه الغرفة عن 60 م مربع، حيث تستوعب: (7)
• 23 كرسي دوَّار بذراعين لهيئة المحلّفين.
• 1 منصب للنائب العام للولايات المتحدة.
• 1 منصب شاهد / رئيس / سكرتير
أمام القضاء، بداية فلم 12 Angry Men
يظهر مع بداية 12 Angry Men مشهدا في قاعة المحاكمة، حيث يجلس 12 رجلا من هيئة المحلفين، فيعفي المسؤول اثنين من الهيئة الاستثنائية، يظهر المتهم وهو طفل ينحدر من أصول آسيوية أو إفريقية يعيش في الأحياء الفقيرة في الولايات المتحدة، إضافة إلى القاضي الذي اعتبر القضية شبه محسومة لصالح الادعاء، و12 شرجلا يمثلون هيئة المحلفين، متجهين بعد خطاب القاضي نحو قاعتهم لحسم الإجماع حول براءة المتهم من عدمها.
إذن، سيتعرَّض المتهم لحكم الإعدام على كرسي كهربائي في حال إجماع هيئة المحلفين على أنه مذنب، ويحكم له بالبراءة في حال تم التصويت 12/12 بأنه غير مذنب. ومن أبرز الشواهد التي كانت تدين المتهم ما يلي:
الأدلة والشواهد التي تدين المتهم في فلم 12 Angry Men
• سَمِعه رجل عجوز يصرخ قائلا لوالده: (سأقتلك)، وشهد بذلك أمام المحكمة.
• امرأة تبلغ 45 سنة، رأته من نافذة الشقة وقد قتل والده بالسكين، وشهدت بذلك.
• وجود سكين، وهو أداة الجريمة.
• إدعاء الطفل أنه كان في السينما لحظة وقوع الجريمة، مع عدم جوابه عن الأفلام التي عرضت فيها.
خلفية الشواهد والأدلة في فلم 12 Angry Men
• العجوز الذي شهد بسماعه في المحكمة، التقت به صحف أمريكية عدة، وتم عرض شهادته على التلفاز أيضا، وكان قد سمع كلمة (سأقتلك) ولم يشهد بأم عينيه حادثة القتل.
• المرأة التي شهدت برؤيتها لعملية القتل، تبلغ من العمر 45 سنة كما سبق، امرأة عادية، كأي امرأة أمريكية تعيش بعد الأربعين.
• ادعى الطفل أنه كان صاحب السكين، لكن في نفس الوقت ادعى أن السكين سقط من جيبه لأنه كان مثقوبا وعليه فقد أنكر قيامه بالجريمة، أو استعماله للسكين، وهو تبرير لم يكن مقبولا أمام المحكمة.
• عند تعرُّض الطفل للاستجواب عن مكانه لحظة وقوع الجريمة، أجاب بأنه كان في السينما، لكن لم يذكر أي الأفلام تم عرضها هناك، الأمر الذي أبطل دعواه أمام الادعاء العام.
وعليه فقد كانت الأدلة والشواهد وملابساتهما، تؤكد أن المتهم هو الجاني الحقيقي، بوجود شاهدين، رائي وسامع، وأداة جريمة، وشهادة مزورة من المتهم عن مكان تواجده لحظة وقوع الجريمة.
يقول القاضي
يبدأ فلم 12 Angry Men بكلمة للقاضي أمام هيئة المحلفين وأمام المتهم:
“لنتابع، لقد استمعتم إلى قضية طويلة معقدة جريمة قتل من الدرجة الأولى أخطر تهمة قتل متعمد عرضت على محاكمنا الجنائية، لقد استمعتم إلى الشهادة ولديكم نص القانون المطبق بهذه الحالة مهمتكم الآن هي الجلوس ومحاولة فصل الحقائق عن الهوى، لدينا رجل فقد حياته ورجل آخر حياته مهددة بالضياع، إن كان لديكم شك معقول في كون المتهم ليس مذنبا، شك مبرر عندها يجب أن تقدموا قرارا بأن المتهم غير مذنب وإن لم يكن لديكم أي شك فيجب عليكم وفقا للملابسات أن تجدوا المتهم مذنبا، أيا كان قراركم فيجب أن يكون قرارا جماعيا في حال وجدتم أن المتهم مذنب فإن المجلس لن يقبل أي التماس بالرحمة سيكون الحكم الإعدام إلزاميا بهذه الحالة”.
ولشيء من التاريخ، هذا الخطاب من القاضي، خلفيته من القضية الشهيرة في إنجلترا، عام 1865م، بتكرار نفس كلام القاضي حينها، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
تحليل كلام القاضي
إن الكلام الذي قدمه القاضي للهيئة، يشير إلى المفاتيح الأساسية لفلم 12 Angry Men، والمشهد يظهر القاضي مَلولا بعض الشيء تجاه القضية، بحكم أن مختلف الشواهد تكاد تكون مطبقة على تثبيت الجرم على الجاني، الطفل الذي ينحدر من أحياء فقيرة.
فصل الحقائق عن الهوى، مهمَّة هيئة المحلفين في 12 Angry Men
عبارة القاضي أن مهمة هيئة المحلفين هي الجلوس “ومحاولة فصل الحقائق عن الهوى” مبناها على نقاش الأدلة، هل هي أدلة إدانة فعلا؟ إضافة إلى نقاش شهادات الشهود، ومهمة فصل الحقائق عن الهوى، فضلا عن معضلة فك ملابسات الشهود والأدلة، تكمن صعوبتها في تحديد أهواء كل رجال هيئة المحلفين بالنسبة للفئة التي تقدم تصويتها مخالفا لتصويت فئة أخرى، فكيف سيجري التأكيد على خطأ حكم الفئة الثانية من طرف الأولى، إن كان تحديد دوافع هذا الحكم صعبا لغموض شخصية كل رجل بالنسبة للثاني، فأعضاء هيئة المحلفين، يلتقون ببعضهم لأول مرة، وليس سهلا التعامل مع كل طرف على أنه يفكر بشكل ذاتي، وهنا تكمن حبكة فلم 12 Angry Men، كما سيأتي.
الشك المعقول، الشك المبرر!
واحدة من أهم العبارات التي بدأ بها فلم 12 Angry Men هي مقولة القاضي لهيئة المحلفين إن كان لديكم شك معقول في كون المتهم ليس مذنبا، لكن الإشكال يكمن في ماهية الشك المعقول، كما سيتبلور ذلك في نقاش رجال الهيئة، لذا وجب التقديم بشيء من التنظير حول ماهية الشك المعقول في النشاط القانوني.
إن “المنظومة القانونية، تلزمنا بتعريف الشك المعقول بكلمات بسيطة، لأنه من غير المتصور أن تتعامل مع مثل مفهوم الشك المعقول كاحتمالية قائمة في قاعة المحكمة، لكن في ضوء عدم القدرة على التعامل مع الاحتمالية التي تُعد اللغة الملائمة للتعامل مع عملية صنع القرار تحت الشك، ما الذي يجب عمله حيال الشك المعقول؟ يجب التعامل مع الموضوع من خلال الإطناب والمؤاربة في الكلام، والكلمات المثقلة بالاحتمالات والمتعددة المقاطع” (8)
وعليه فأفضل تعريف ينطبق على المفهوم الذي قدمه فلم 12 Angry Men للشك المعقول، هو ما سنجده في كتاب هارولد دبيو لويس:
“الشك المعقول ليس مجرد شك جائز، لأن كل شيء يتعلق بالشؤون الإنسانية، بل يعتمد على الدليل المعنوي، عرضةٌ لبعض الشك الممكن أو الخيالي، إنه تلك المرحلة من القضية التي تكون فيها عقول المُحَلَّفين في حالة يعجزون معها عن القول بأنهم يشعرون بقناعة ملزمة، تستند إلى يقين معنوي بحقيقة الاتهام” (9)
داخل قاعة المحلفين 12 Angry Men
بعد انصراف هيئة المحلفين إلى قاعتهم، بدت الدقائق الأولى مظهرةً لنوع من الدردشة الجانبية، قبل انضباط المشهد بشكل رسمي لنقاش القضية، فبعض المحلفين يعبث بالمروحة، وبعضهم في الحمام، وبعضهم يحكي مسائل شخصية لآخر ويتعرّف عليه، وفي هذه الأثناء نشاهد المحلف هينري فوندا، يترقَّب الجميع بهدوء، ويحاول تكوين فكرة عن مساق أهواء كل واحد منهم، تعابيره، وانفعالاته، ورأيه المبدئي حول المتهم.
شخصية كل رجل من رجال هيئة المحلفين
إن أي رجل، تطبع هيئته لأول وهلة صورة نمطية عنه، لكن ما أن يبدأ في الكلام، وبشكل عفوي، تبدأ تلك الصورة تُصقل رويدا رويدا، وبما أن الواقع يسبق الوعي، دوما ما تكون معرفة واقع كل شخص ولو بشكل سريع، مساهمة في تشكيل صورة أكثر انضباطا عن وعيه، ميوله، وأهوائه، وهذا ما كان هينري فوندا، المحلف رقم 8، يفكر فيه تجاه بقية المحلفين.
تبدأ جلسة الاستراحة بشيء من الدردشة بين كل محلف وآخر، مثلًا، يقول المحلف رقم 3، أن الأبناء دوما ما يفعلون أمورا مثل هذه، تعنيف آبائهم، وقد يصل بهم ذلك إلى القتل بكل سهولة، وكانت تظهر عليه سمات الامتعاض من سلوكيات “الأبناء” بشكل عام، فهو قد كوَّن تصورا مسبقا حول مجمل الأبناء، أنهم متسرعون في تطبيق أهوائهم العنيفة.
سأل أحد المُحلَّفين المحلف رقم 3، هل تعرف شيئا عن الأبناء؟ فأجاب بأن له ابنا، كان يرعاه بشكل متواصل أيام طفولته إلى أن شب، ثم أخبر أنه ما أن بلغ سن البلوغ، تخاصم معه، وبلغ به الأمر إلى مرحلة ضرب والده بقبضته على الوجه. الأمر الذي سيساهم في تكوين صورة عن خلفية هذا المُحلف لدى هينري فوندا.
تُظهر دردشة الاستراحة، أن جميع المحلفين متفقون على أن المتهم (مذنب)، ومع أن هينري فوندا يخالفهم في ذلك، لم يرد إبداء الرأي المخالف ما دام الوقت خاصا بالاستراحة، إنه يريد أن يحصّل أكبر قدر من المعطيات بناء على الكلام العفوي الذي يقدمه المحلفون مع بعضهم، ليستغل أضعف مفصل في حجة كل واحد منهم بناء على لاوعيه الذي يقدمه على طاولة التشريح النفسي في جلسة الاستراحة. إن الصمت، وجمع أكبر قدر من المعطيات حول الخصم.
خلال الاستراحة، يقول المحلف رقم 6، أنه قلما يفكر إذا كانت هنالك مشكلة، بل رئيسه من يقوم بذلك، وهو بناء على هذا يعطي مجالا لهينري فوندا أن يضبط شخصيته بأنها شخصية غير قيادية فكريا، فهو يختار ما يقنعه، وينزوي ضمن حيز يقوده مفكر آخر، بالتالي لم يشكل عقبة أمام الجدال، بل عندما يتمكن فوندا من إقناعه بتغيير صوته إلى (غير مذنب)، لن يكلفه ذلك سوى كسر حجة من يترأس الفئة المخالفة، وبالتالي سيتحول مباشرة إلى فئة فوندا.
من بين المحلفين، المحلف رقم 7 وهو مندوب مبيعات، محب للرياضة، سطحي ولا يكترث لحوارات الآخرين، كل ما يهمه أن تنتهي جلسة هيئة المحلفين سريعا، ليتابع المباراة التي ينتظرها، فهو تبع بشكل مباشر إلى الفئة التي تمتلك أعلى درجة من الأصوات. ومن بين المحلفين، عجوز حكيم ويقض، وهو المحلف رقم 9.
ومن بينهم أيضا المحلف رقم 4، وهو رجل عقلاني، هادئ وواثق الشخصية، يعمل وسيطًا في الأوراق المالية، تهمه الحقائق فقط ويتجنب الكلام الجانبي، كما أن هنالك المحلف رقم 5، رجل رجل تربى في العشوائيات. يعمل مضمدا، أي أنه تربى في نفس البيئة التي نشأ فيها المتهم، وهو خبير بسلوكيات المجرمين بشكل جيد.
أنا أعترض
تبدأ الجلسة برئاسة المحلف رقم 1، ويقدم الجميع صوته بأن المتهم مذنب، سوى هينري فوندا، المحلف رقم 8، واحد ضد 11 رجلا، يصوت بأن المتهم غير مذنب، وهنا تبدأ شرارة الغضب داخل القاعة! هنالك دائما واحد يقول المحلف رقم 10.
تتعالى الأصوات داخل القاعة، ويشعر مختلف المحلفون بأن هينري يريد فقط أن يضيع أوقاتهم، ليظهر أنه شخص حريص على أرواح الآخرين، وبما أن بقية المحلفين اشتركوا في الحكم بأن المتهم مذنب، لكن لا يعرف أي منهم الآخر، لم يكن قرارهم نابعا عن انضباط منهجي، فأبرز كل منهم رأيا يناقض ميول الآخر، وكان فوندا يدير الحوار بناء على استغلال الفراغ تجاه هذا الانضباط، لعبا على تلك التناقضات.
مثلا، من بين المحلفين الذين اتفقوا على التصويت (مذنب) من هو منضبط تجاه مسؤولية أن تكون مُحلفًا، بخلاف المحلف 7، لقد كان إمعة يتبع الأغلبية فقط، الأمر الذي سيطبع صورة التصدع الداخلي بنظر المنضبط، فعملية اتخاذ القرار التي جرت الاتفاق فيها صوري فقط، وهكذا فليس الجميع بنظر محلف منضبط ومسؤول تجاه حكمه قد قدم حكما مسؤولا ومدروسا، وكان إبراز هينري فوندا لهذه التناقضات كفيلا ببث أول خطوة من خطوات الشك داخل القاعة.
أيضا من بين المحلفين، من هو عصبي، يعتمد على الاقناع عبر الهيمنة الشخصية، بالضراخ في وجه الآخرين، ومنعهم أي مساحة للتفكير في رأي هينري فوندا، وهذا سيعرقل مهمة بث اليقين في نفس من لا يهتم سوى للحجج العقلية، وبالتالي أضحت هذه التناقضات مثارا لفوضى بين الفئة التي اتفقت على حكم (مذنب) تجاه المتهم، ما استدعى من رئيس المحلفين، أن يعيد عملية التصويت من جديد.
بعد عملية التصويت الجديدة، يتغير صوت أحد المحلفين إلى فئة هينري فوندا، وهو المحلف رقم 9، الحكيم العقلاني واليقض، يصرح بأنه قد غير صوته، لا لشيء، إلا لكونه يريد أن يسمع كل حجج هينري فوندا، مع إمكانية عودة صوته إلى (مذنب) في حين لم يقتنع، لكن داما ما تكون لدى الشخص في مكنون وعيه أفكار تدعم حجة خصمه، وإزالة الضبابية عنها كفيل بقلبه إلى الدفة المقابلة، لكن ممارسة السماع، هي ما يكفل ذلك، لذا، فمجرد التأمل لا يحقق غرضه الكافي.
غضب المحلف رقم 3 من تغير الصوت، وسأل بصوت عال من فعل ذلك آمرا إياه بالعودة إلى ما كان عليه، وهنا تكمن الشخصية الضعيفة، لمن يتزعم الحكم بأن المتهم (مذنب)، إنها سياسة الإقناع بالأوامر، السياسة التي لا تعتمد على حجة، بل على الهيمنة الشخصية، ولشيء من التاريخ، كان يذكر رودولف هيس، أحد النازيين، حيال وسائل الإقناع الدعائية الناجحة قائلا:
وبالتالي، كانت سياسة المحلف رقم 3 مجانبة لقوة الاقناع الدعائية، على من لا يملك سلطة عليهم، الأمر الذي سيجعل من بقية المحلفين الذين يتميزون بشيء من الأنفة والكبرياء منحازين عنه بنسبة معينة، الوضع الذي صار يشاهده هينري فوندا متطورا مع كل دقيقة تمر.
كان المحلف رقم 5، وهو رجل تربى في العشوائيات، الأحياء الخلفية، حيث الجرائم في أمريكا، حاول إنصاف أبناء هذه الأحياء لكونها مما ساهم في تشكيل خلفيته، فهو ناشئ ضمنها، لكنه رجل محترم، وفي حين أدرك المحلف رقم 3 تغير صوتٍ لصالح المتهم، الذي هو أيضا سليل هذه الأحياء، هاجم رقم 5 بكل قسوة، قائلا له أنك ما خالفت إلا لكونك تشترك وهذا المتهم في نفس الخلفية، وهنا ينطق العجوز الحكيم قائلا:
العجوز الحكيم، المحلف رقم 9 في فلم 12 Angry Men، وهو يصرح بتغيير صوته.
لقد بدى موقف المحلف رقم 3 سيئا، بعد مهاجمته لرجل بناء على خلفيته، ولم يتمكن بعدها من مهاجمة العجوز المسن، لأن هذا مما سيظهره بمنظر أسوأ أمام بقية الفريق، ما سيمنح لهينري فوندا بتقديم نقد لاذع له، ما يضعف موقفه أكثر، فصاحب القضية يجب أن يلتزم بالحجاج، لا بالهجوم على شخوص الآخرين، إلا في حال أراد دعم قضيته بمخرجات ذلك الهجوم، وهو الأمر الذي سيمارسه فوندا بشكل احترافي لاحقا.
يهاجم المحلف رقم 10 الرجل العجوز قائلا “فقط الجاهل من يفعل هذا” يرد عليه العجوز بنبرة تعالي “هل تعتقد أنك ولدت محتكرا للحقيقة؟” يعم الصمت لثواني، ويلحظ فوندا بداية تشكل أول نسبة شك معقول نحو مطلقية الرأي بأن الشك (منعدم)، وبنسبة 1% على الأقل، صارت القاعة تشكك في حقيقة أن المتهم مذنب.
إن اختيار الكلمات الرنانة، في ظروفها الملائمة، هو ما يكفل تدعيم القضية بحجج قويمة، لا مجرد تكرار مناذج الامتعاض وتهويل الموضوع كما كان يفعله المحلف رقم 3 والمحلف رقم 10.
يتدخل أحد المحلفين قائلا إلى هينري فوندا:
ليجيبه هينري فوندا قائلا:
البينة على من ادعى
هذه العبارة من هينري فوندا، هي مشتقة من مبدأ أصل البراءة في القانون الأمريكي، وجذورها في العالم الغربي، نابعة عن القانون الإنجريزي، على وجه التحديد، وكلام القاضي أعلاه، يذكّرنا بأشهر ما حفظه القضاء الانجليزي سنة 1865م.
“عام 1865، في قضية R.V white والتي خاطب فيها القاضي مارتن المحلفين بقوله: إذا كانت الهيئة تريد أن تصل إلى قرار الإدانة فإنه يجب عليها ألا تقرر الإدانة حتى تثبت إدانة المتهم وراء أي شك معقول، وإذا كان كل ما تعتمد عليه في إدانة المتهم يعتمد على مجرد الاحتمال، فإن واجبهم تبرئة المتهم” (10) وهذه العبارات من قاضي أنجليزي سنة 1865، تؤكد على رسوخ مبدأ أصل البراءة الذي استغله فوندا، وقد “تبع القانون الأمريكي شقيقه الإنجليزي في رحلته الطويلة حول أصل البراءة” (11)
في هذا السياق كان يقول ويليام جاكسون بالمر، ضابط أمريكي (1836/ 1909): “يجب أن تفترض براءة المتهم حتى تثبت إدانته وهي لا تثبت إلا بناء على بينات مباشرة من قبل الاتهام، وإذا لم تكن بينة الاتهام مقنعة إلى درجة تؤدي إلى الإدانة فإنه يجب أن تبرئ ساحة المتهم، فيجب ألا تتقرر إدانته بناء على الشبهات مهما كانت قوية، فإذا ثار أدنى شك معقول فإن من الواجب أن يعطي المتهم فائدة ذلك الشك” (12)
وبناء على هذا السياق، أخبر العجوز الحكيم أنه يمكن أن يكون لهينري فوندا كلام يُفترض أن نسمعه للنهاية، إنه قد حقق أول خطوة في تكوين شك معقول داخل القاعة، إن هينري فوندا، الشخصية التي كتب السيناريو الخاص بها سيدني لومنت، نابعة عن شخصية الرجل المثالي في قاعات هيئة المحلفين، إنه رجل لا يكثر الكلام عن القانون، إنه يؤدي وظيفته كمحلف فقط، الأمر الذي يدندن عكسه مختلف الباقين!
تحليل الحقائق لدى هينري فوندا في 12 Angry Men
يدرك فوندا أن “هيئة المحلفين يستعان بها فقط لتحديد الحقائق محل النزاع، وليس تفسير القانون” (13) وسيضحى وفقا لهذا الادراك محاولات عدة منه لجذب النقاش إلى مباحثة نقطة أساسية، فهو قد حدد هدفه التالي: تحليل الحقائق المطروحة، وحسب، من دون العبث بمخرجات القانون والتحايل إلى لوائحه، وبقي معتمدا بشكل أساسي على مبدأين، يجب اعتمادهما عند كل نزاع قانوني: أصل البراءة / الشك يفسر لصالح المتهم.
في الحمام، عند جلسة الاستراحة، يلتقي فوندا بأحد المحلفين المعارضين له، فيسأله قائلا: أتعتقد أنه غير مذنب؟ ليجيب فوندا: لا أعرف، ممكن. إنه الأسلوب غير المجازف في التعامل مع الحقائق، هدف المحلف هينري فوندا، هو تكوين شك معقول لضمان براءة المتهم، لا المجازفة بالنفي القطعي كما يفعل البقية، وهذا أسلوب إقناعي فعال، عجز عن ممارسته بقية المحلفين، إنه يريد تحليل الحقائق فحسب، وليس يريد أن يجعل القضية المطروحة مسألة شخصية له، بل يريد أن يكشف أنها شخصية بحق لدى خصومه، فسريعا ما تسقط الأحكام النابعة عن تحوير الحقائق لصالح الأهواء الشخصية، بخلاف البحث الموضوعي الذي يعاين الحجج بذهنية نقدية تفحُّصية فحسب.
الدليل الأول: صوت القطار، وشهادة العجوز على المتهم
سبق أن أول الحجج المعتمدة لدى رجال هيئة المحلفين لإدانة المتهم، هي أن هنالك عجوزا يسكن بقرب الشقة، شهد في المحكمة وأمام القنوات التلفزيونية أنه سمع الطفل يهدد والده قائلا “سأقتلك”، يحاول فوندا أن يوجِّه أنظار بقية هيئة المحلفين نحو تحليل هذه الظاهرة.
إن الحي السكني يقع بجنب القطار، والطفل حسب الادعاء هدد والده بصوت عال، في نفس الفترة التي مر فيها صوت القطار، لا يجزم فوندا بأن القطار يمنع وصول الصوت إلى أذني العجوز، بل يطرح هذه الشك كسؤال: برأيكم هل يمكن سماع التهديد أمام صخب القطار؟ لا بد أن يجيب أحد المحلفين بأن ذلك غير ممكن، نعم، نقطة إضافية لصالح فوندا! من داخل المخالفين.
ومن ثم يصيح المحلف رقم 3، بأن بأنها مسألة ثواني ولا أحد يمكنه أن يكون بهذه الدقة، ليجيبه فوندا قائلا:
تقع لحظة إدراك من طرف بقية المحلفين إلى أن فوندا، يوده المسار إلى تكذيب الشاهد العجوز، الذي قال بأنه سمع التهديد، لماذا تحكم بأنه كذاب؟
هنا يأتي دور علم النفس السلوكي، الذي يتعمد من حيث مبناه على مشاهدة الخلفية الشخصية لذلك الشاهد، ويقدم العجوز الحكيم، الذي غير صوته لصالح فوندا سابقا تحليلا منطقيا، بأن العجوز الذي شهد، يظهر بحالة رثة وثياب ممزقة، والأغلب أنه لم يهتم به شخص طيلة حياته.
إنه إلحاح الاندفاع لكي يطلع على شاشة التلفاز في فترة 1950 في الولايات المتحدة حيث كان الظهور إلى العلن عزيزا، ويتم ذكر اسمه في الجرائد والصحف، إنه شخصية مهمشة بشكل كامل ورأى طالعه في تفسير وشوشة سمعها مع صخب القطار بأنها سبيله إلى إخضاع الآذان إلى شهادته بكل حرص، إنها فرصته ليقول في نفسه: إن كل أمريكا اليوم، تدين لي، وكل محاكم الولايات المتحدة تقف عاجزة لولا شهادتي، إن الاهتمام الذي سيجنيه لو أقنع نفسه بأنه سمع شيئا من غرفة المتهم، يمثل عوضا لكل لحظات التهميش التي عاناها طيلة حياته.
“الكذب لجذب الانتباه يحدث حينما يفتقد الشخص لاهتمام من حوله رغم سلوكياته السوية، وهدفه: اللجوء إلى السلوك غير الصادق لكي ينال الاهتمام والانتباه” (14)
إذن، شهادة العجوز صارت محتملة، ولم تعد يقينية، لكن بقي يدور حولها مستوى متدني من الشك، ولكي تشكّل شكا معقولا بحق، يجب نقاشها على كل مستوى من مستوياتها التركيبية؟
• العجوز صادق، وهذه تم دحضها بتحليل هيئته وشخصيته، من طرف المحلف العجوز، بناء على علم النفس السلوكي.
• العجوز سمع المتهم يقول “سأقتلك”
• العجوز انتقل سريعا من شرفته إلى الشرفة المُطلة على غرفة الجريمة وسمع الصراخ.
سبق دحض الحجة الأولى، لكن ماذا عن مقولة “سأقتلك”، لقد تعامل فوندا باحترافية عالية بجعل الخصم يقرُّ على نفسه أن أصرح عبارة في التهديد بالقتل لم تكن دالة بشكل كاف على عملية القتل، كيف ذلك؟ يزعج فوندا أحد المخالفين له وهو المتعصب، المحلف رقم 3، ويقول له: لماذا لديك حرص بليغ على أن يُعدم الطفل؟ أنت سادي! بهذه العبارة يستفز فوندا المحلف العصبي رقم 3، ليجعله يتجه نحو فوندا كي يضربه صارخا “أتركوني، سأقتلك” يقول فوندا: “أكيد أنك لا تقصد أنك ستقتلني حقا؟” ثم يعم الصمت طويلا في القاعة.
تم تجاوز صدق العجوز، وسماعه لكلمة “سأقتلك”، وتكون شك معقول تجاه شهادته بالفعل، ثم قدم فوندا تمثيلا لسرعة مشي العجوز بناء على طريقة مشيه في المحكمة، هل كان سيتمكن من الانتقال من شرفته إلى الشرفة المطلة على بيت المتهم؟ لم يترجح ذلك، وبهذا أزيلت تماما حقيقة أن العجوز يمثل شاهدا حقيقيّا.
الدليل الثاني: امرأة تبلغ 45 سنة، رأته من نافذة الشقة وقد قتل والده بالسكين، وشهدت بذلك.
إن تحليل وضعية الشاهد الرائي، ليست بالأمر الهين، عند مشاهدتي للفلم، وعند تركيز المشهد حول محتوى شهادة المرأة، لم أكن أتوقع أن هنالك ما يمكن أن يدفع يقينية شهادتها، فهي إما صادقة وإما كاذبة، وقد صدقها القضاء، والطعن في شهادتها بين 12 Angry Men لا بد أن يمر عبر شك معقول، كيف يحل العجوز الحكيم ذلك؟
إنه مستوى عالي من التحليل، في حين يتمسك أحد المحلفين بشهادة المرأة، في حكمه بأن المتهم مذنب، يقوم بخلع نظَّارته، ويظهر ما تركته هذه النظارات على الأنف من احمرار وشبه تقعر، يسأل المحلف رقم 9، وهو العجوز الحكيم، ذلك المحلف الذي يدافع على هذه الشهادة، هل يمكن أن يتحصل هذا الأثر لمن لا يرتدي نظاراته؟ يجيب المحلف الثاني: لا. ثم يسأله: هل ينام من يرتدي مثل هذه النظارات بها؟ يجيب المحلف الثاني: لا.
إن شهادة المرأة، كانت كالتالي: سمعت صراخا فقمت من الفراش متجهة نحو النافذة، إذن هي كانت نائمة، وقد ظهر أثر النظارات العميق على جانبي أنفها في قاعة المحكمة، ألا يكوّن هذا شكا معقولا تجاه شهادتها؟ بحكم أنها ضعيفة نظر، وشاهدت في الغالب بدون لبس نظاراتها؟ يدب الشك في صدر المُحلَّف، ثم يقفز إلى مسألة أن المتهم لم يذكر الأفلام، نطق فوندا: ماذا شهادت في السنيما قبل ثلاثة أيام؟ يجد المحلف صعوبة في التذكر وهو في سعة، فكيف بالمتهم الذي كان تحت ضغط التحقيق؟
المرأة شاهدته وهو يضرب السكين في قلب والده! إن السكين عبارة عن (مطوة) يتم طيُّه، وفتحه عند إرادة الضرب به، شهادة المرأة أن السكين تم ضربه في صدر الضحية من أعلى، يتدخل المحلف الذي تربى في العشوائيات، ليقول: الصبي أقصر من والده، وفتح المطوة ودقها في صدر الضحية يستحق فترة زمنية تسمح للوالد بأن يدافع عن نفسه ويتجنب الضرب، فالضربة الوحيدة القاتلة بسكين كهذا، يجب أن تكون بنفس لحظة فتحه: أي من أسفل حيث الابهام أقرب إلى رأس السكين وأقرب إلى صدر الضحية، بخلاف شهادة المرأة؛ من أعلى، فهذا يحتاج قلب السكين ليكون الخنصر هو الأقرب إلى صدر الضحية، إذن شهادتها مشكوكة بشكل معقول، تنقلب شهادة 9 رجال لصالح فوندا: غير مذنب!
لا يبقى في القاعة سوى المحلف رقم ثلاثة، وقد ضعف موقفه بشدة، ولم يرد فوندا اتهامه بأنه صاحب خلفية، بل أراد أن يثخنه بجعله هو شاهدا على نفسه، يقول فوندا له “منذ أن جئت إلى هنا وأنت تتصرف كما لو أنك نصبت نفسك منتقما عاما” يدخل المحلف رقم 3 في حالة هستيرية أيضا، ويصيح بأن تصرفات ابنه معه، هي السبب الذي جعله ناقما على الأبناء جميعا، وهو الذي صرح بذلك في بداية جلسة هيئة المحلفين، في الدقائق الأولى. وبهذا يتغير موقف كل هيئة المحلفين إلى التصويت بـ: غير مذنب، بناء على تكون شك معقول ومبرر بينهم بخلاف مخرجات الادعاء وحكم القضاء.
فلم ممتاز، من أجمل ما يمكن مشاهدته من المرئيات التي تكوِّن ملكة نقدية تحليلية، والطريف فيه أنه جاء موافقا لجل الكتابات النظرية المتعلقة بعمل هيئة المحلفين وطبيعة حواراتهم وشخصياتهم، حذو القذة بالقذو، الأمر الذي جعله أقرب إلى حد كبير من الواقعية في الحوار داخل مثل هذه القاعات.
الهوامش:
- الموسوعة العلمية الشاملة شعوب وأعراق أنظمة وقوانين، 2012، ص16. ︎
- الأداء الجماعي، شيماء عزت باشا، 2015، ص181. ︎
- الأداء الجماعي، شيماء عزت باشا، 2015، ص181. ︎
- فن طرح الأسئلة سقراط في حياتنا العملية، إلكا فيس، 2023، ص28. ︎
- معايير تايم سيفر لأنواع المباني، أحمد الخطيب، 2021، ج7، ص819. ︎
- معايير تايم سيفر لأنواع المباني، أحمد الخطيب، 2021، ج7، ص819. ︎
- معايير تايم سيفر لأنواع المباني، أحمد الخطيب، 2021، ج7، ص819. ︎
- هارولد دبليو لويس، لماذا تعتمد على الحظ، ص224. ︎
- هارولد دبليو لويس، لماذا تعتمد على الحظ، ص225. ︎
- CK. allen op cit p283. ︎
- الحماية الجنائية الدولية، محمد منطاوي، ص14. ︎
- الحماية الجنائية الدولية، محمد منطاوي، ص15. ︎
- هارولد دبليو لويس، لماذا تعتمد على الحظ، ص223 ︎
- مبادئ التوجيه الإرشادي التربوي، عبد الله الطراونة، ص146 ︎