يقول بعض الأطباء بلهجة الجزم التى لا تردد فيها ولا تلعثم: إن حيوية الجسم الإنسانى تكون أدنى ما تكون بعد منتصف الليل. وفى تلك الساعة العصيبة، يعجز العقل عن تدبر الحاضر بسكينة ورضى، واستشفاف المستقبل بشجاعة، ورجع البصر فى الماضى بغير أسف. ولكن كل امرئ غير هؤلاء الأطباء يعرف أن ساعة الكآبة والهبوط لا وقت لها، وأنها قد تكون الأولى صباحا أو الثانية مساء. كما قد تكون فى العصر أو الغسق. فليس لها ثبات ولا أوان معروف، وأن ساعتها قد تكون ثوان أو دقائق. وقد تمتد وتطول، فينطوى فيها الليل والنهار جميعا والعمر أو خيره فى بعض الأحيان.
ومهما يكن من ذاك، فإن المحقق — على كل حال — أن كاتبا مثلى لا يسعه إلا أن يشعر وهو يتأمل «سعيدا» بقصوره وعجزه، فإن مثل هذه الكآبة لا يستطيع أن يوفيها حقها سوى مجمع من أعلام البيان. وقد يسع «زولا» أن ينصفها، وعسى أن يكون «جوركى» قادرا على تناولها بقلمه، ولعل «دستويفسكى» كان أقدر من سواه على ذلك، ولكنها فوق طاقتى وحدى. وشر ما فيها أنك لو سألت «سعيدا» نفسه عنها، ما سببها أو داعيها، لما وسعه أن يعلله.. ولكان الأرجح أن يتعجب لها، فقد كان حسن الحال ميسّر الرزق. ولا نكران أنه كان يكد ويتعب فى سبيل الرزق.. ولكن كل إنسان يفعل ذلك، حتى أصحاب الضِّياع لا مفر لهم من العمل والسهر والتعهد والعناية بما يملكون، وإلا نضب المعين وجف المورد. وكان فوق ذلك ذا زوجة صالحة فيها رقة وجمال وأدب وحذق ولها عقل، وكفى بهذا نعمة.
وكان فى تلك الساعة فى «قهوة» لها حديقة تشرح الصدر. والطريق أمامها واسع نظيف، واليوم يوم أحد، والغوانى يرحن ويجئن على الرصيف.. كل اثنتين أو ثلاث أو أربع معا، وهن فى حفل من الزينة. وأخلق بالمرء حين ينظر إلى وجوههن الصبيحة وقدودهن البارعة وخطرتهن الرشيقة، ويسمع أصواتهن البلبلية أن يشيع البشر فى نفسه! وكانت فى حديقة القهوة نافورة صغيرة، ترسل الماء خيوطا دقيقة تعلو ثم تتناثر على صورة المظلة. وقد اجتمع الماء والخضرة والوجه الحسن — بل الوجوه الحسان — فماذا يبغى سعيد فوق ذلك؟ أم ترى اجتماع ذلك كله هو سر الكآبة، من يدرى؟
وجاء ماسح الأحذية وقعد ومد يده بالصندوق إلى رجل سعيد بلا استئذان، فرفع هذا قدمه إلى الصندوق بحكم العادة لا بدافع الرغبة.. فقد كان الحذاء نظيفا لماعا.
وقال الرجل بعد فترة صمت شغل فيها بغسل الحذاء بالماء والصابون: «من زمان ما جئت إلى هنا يا بك».
ولم يكن سعيد «بيكا» ولا كان له أمل أو رغبة فى رتبة كهذه.. فإنه رجل عمل لا يحفل بالألقاب والرتب، ولكن كل امرئ «بك» عند ماسحى الأحذية وسائقى المركبات. ولم يزد سعيد فى جواب السؤال على «آه»، ثم أدار عينه فى الجالسين بهذه القهوة فألفى ناسا يشربون وآخرين يلعبون «الطاولة» وحولهم كثيرون ينظرون إليهم وهم وقوف. وأخذت عينه رجلا وامرأة جالسين تحت شجرة وأمامهما قدحان من «الزبيب» فقد كان هذا أحد الشهور التى لا «راء» فى حروفها — وهى مايو ويونيه ويوليه وأغسطس — والقاعدة المصرية أن شرب «الزبيب» يحلو ويطيب فى هذه الشهور الأربعة. فاشتهت نفسه قدحا من الزبيب.. وصفق فجاء الخادم، ولكنه تردد وخطر له أنه ليس معه من يشاربه. فنظر إلى الخادم الصبور، وسأله: «عندك إيه»؟ ولم تكن به حاجة إلى سؤال كهذا، ولكن الخادم ألف هذا من الزبائن، ووطن نفسه عليه، فقال بلا تململ: «قهوة، شربات، كازوزة، شاى..» وأمسك. ثم كأنما تذكر، فزاد «خشاف، ليمونادة».. ولم يأنس من سعيد قبولا، فقال: «ويسكى، كونياك..» فاستوقفه سعيد بإشارة، وسأله: «كونياك من أى صنف؟» فقال الخادم: «كمبا، كمبا عال، مارتل، كور فوازييه، انيسى..».
فهز سعيد رأسه، وقال: «هات زبيب».
ومضى الخادم، فقال ماسح الأحذية: «القهوة دى يا بك عال».
فزاد صدر سعيد ضيقا ولم يجب، ودار بنفسه أن كل إنسان سعيد إلا هو. وأنكر أن يكون اسمه سعيدا، ورأى فى هذا الاسم تهكما من الأقدار. وخطرت فى هذه اللحظة فتاة أمامه وألقت نظرة سريعة على حديقة القهوة وهى تمر بها، فقال سعيد لنفسه إنه كان خليقا أن يشعر ببعض السعادة لو كانت معه فى هذه الساعة فتاة كهذه تؤنسه بحديثها. ومرت فتيات أخريات وراءها، فقال لنفسه: «ما أكثر الفتيات اللواتى يمشين وحدهن ولا رجال معهن»!
وقال ماسح الأحذية: «شارع ظريف يا بك.. وخصوصا يوم الأحد..» وأشار بيده إشارة عامة يمكن أن تشمل المبانى ومركبات الترام. ورفع وجهه الأسمر إلى سعيد وابتسم له ابتسامة لا تخلو من معنى.. فعبس سعيد، ثم بدا له أن التعبيس لا موجب له، فابتسم متكلفا ورد عينه إلى الشارع ومن يمشين فيه.
وقال الرجل: «بس سعادتك ما بتجيش».
فاحمر وجه سعيد، فقد أدرك غرض الرجل. ولم يخفَ عليه ما يرمى إليه، وكان الزبيب قد جاء فصب عليه ماء، ورفع الكأس إلى فمه ورشف. وأقبلت إذ ذاك فتاة تعدو على الرصيف وكان جسمها لينا وثوبها محبوكا، فلم يسعه إلا أن ينظر إلى صدرها العارى، وخصرها الهضيم وتحته ردفاها يرتجان، وثناياها اللؤلؤية التى تفتر عنها شفتاها الحمراوان.. فرفع الكأس مرة أخرى وشرب وقال لنفسه: إنه مسكين مسكين ومحروم محروم. ثم ارتد يقول — لنفسه أيضا — إنه ليس مسكينا ولا محروما فإن له زوجة جميلة، وإن فى وسعه أن يُعجب ما يشاء بجمال النساء غيرها.. ثم يسكن بعد ذلك إلى زوجته، وأن حسبه من السعادة وفاءها وبرها وإخلاصها. ثم هز كتفيه — وإن كان وحده — وقال: «وما قيمة أن يعجب المرء بالجمال وما خير ذلك؟ وماذا يكون معنى هذا الإعجاب على مسافة أمتار؟ لكأنى أنظر إلى شريط سينما.. ولا فرق بين أن أرى الفتيات يخطرن على الرصيف أمامى، وأن أرى صور النساء فى شريط السينما. إنما تكون للإعجاب قيمة إذا جالس الرجل المرأة وحادثها ونعِم بوجودها وحديثها وأنِس بمحضرها على العموم. ولكن..» وهز رأسه مرة أخرى متحسرا. فقد كان فيه احتشام وحياء شديد. وكان من غريب أمره أنه يجتنب المجالس التى يختلط الرجال فيها بالنساء. وكان يدعى إلى سهرات من هذا القبيل عند من يعرف من الأجانب والمصريين، فيعتذر ثم يروح يقرع نفسه ويسخط عليها. وكان حياؤه أو شعوره الشديد بنفسه يوهمه أنه ليس مقبول الشكل أو ظريفا، ولا أنس لأحد به. وكان كثيرا ما ينظر إلى نفسه فى المرآة ويدور أمامها، ليرى كيف يبدو من كل ناحية.. فلا تعجبه الصورة التى تطالعه، فيمط بوزه ويقطب وينحط على أقرب كرسى ويروح يفكر فى سوء طالعه، حتى أورثه هذا اضطرابا فى الأعصاب.
وصفق، فقال ماسح الأحذية: «حاجة يا بك»؟
فقال سعيد: «لا..» وتردد فقال: «ناد الجرسون».
فوضع الرجل الفرشاة ونهض، ولما عاد جلس وهو يقول: «أنا خدامك يا بك.. تحت أمرك.. بس اؤمر. أتمنى خدمة.. والله يا بك».
فدار رأس سعيد، وقال لنفسه: «لم يبق إلا هذا.. نعم لم يكن ينقصنى إلا أن أستعين بهذا الرجل.. مصيبة. مثلى يخطر له أن يستعين على سد الفراغ الهائل فى حياته الجافة برجل من هذا الطراز.. ومع ذلك، لم لا..؟ وماذا يستطيع مثله.. إنه لا يسعه شىء أعجز حتى أنا عنه، لأنه إذا كان يعرف أحدا فإنه لا يعرف ولا يمكن أن يعرف إلا الطبقة التى هى كالشمس لكل الناس.. أعوذ بالله.. لا.. ليس هذا ما أريد. ومع ذلك من يدرى.. ألا يمكن أن أختبره»؟
وجاء الجرسون ثم انصرف ليجىء بالكأس الثانية، فخطر لسعيد خاطر، والتفت إلى الرجل وقال: «اسمع: إنى أريد شقة صغيرة.. غرفتين فقط.. شقة أشتغل فيها. البيت ضجة وضوضاء.. شقة صغيرة هادئة.. فى حى محترم..».
فأقبل الرجل على الحذاء يمسحه بهمة ونشاط، وقال: «كثير يا بك.. بس اؤمر».
فقال سعيد: «طيب ابحث وابق قل لى».
فقال الرجل: «حاضر.. من عينى».
فرمى إليه قرشين، فتقبلهما الرجل مسرورا داعيا مؤكدا صحة عزمه على خدمته بإخلاص، ومضى عنه.
وتناول سعيد الكاس وشرب وهو يحدث نفسه أن هذا جنون. وماذا يصنع بالشقة؟ أما إنّ أمره لغريب.. وهم بأن يدعو الرجل ويصرفه عن البحث، ولكنه عدل وقال إن الأمر بيدى أنا لا بيده، فلا داعى للعجلة. غير انه مع ذلك استثقل أن يدع الرجل يظن به الظنون. وعاد يقول لنفسه إنه رجل لا قيمة له ولا لظنونه، فليظن ما شاء.. ولكن حملته على نفسه لم تفتر.
وكان الليل قد أظلم ولم تبدد سواده المصابيح.. وكان هو فى النور، فقدرته على رؤية الشارع محدودة.. فصارت الفتيات كالأشباح، واتسع المجال بذلك للخيال، فالدميمة منهن يحيلها الخيال فاتنة ساحرة. وساعدته الخمر على إتمام الصور، وجلاء غامضها، وعلاج عيوبها المرئية أو الموهومة. وكانت الخمر قد أنعشته قليلا، فكان ينظر ويفكر ويتخيل بشىء من الارتياح.. ولكنه مع ذلك أحس أنه عاجز عن احتمال كل هذا الجمال، وإن كان أكثره مما رسم خياله، فنادى الجرسون ونهض..
ولقيه ماسح الأحذية وهو على الرصيف، فسأله: «تجى بكره يا بك»؟
ولكن البك لم تعد له أذن تستطيع أن تحتمل الإصغاء إلى مثل هذا الرجل، فقال له: «رح.. رح» فألح الرجل ومشى إلى جانبه، يقول: «ليه يا بك.. أنا خدامك.. بس استنى طوّل بالك.. إن ما كنتش أخدمك خدمة..».
فقاطعه سعيد ونهره.. ومضى عنه.
والمثل يقول: «راحت السكرة وجاءت الفكرة» ولكن الفكرة تروح أحيانا مع الصحو وتجىء مع السكر.. أو على الأقل، هذا ما كان من أمر سعيد، فقد قال لنفسه إنه إذا كان من العجز بهذا القدر.. فأولى به أن يظل عاجزا وأن يعترف لنفسه بذلك ويوطنها عليه. ولم يكن هذا الخاطر مما يجلو الكآبة ويلطف الوحشة التى تحسها النفس، وأخلق بالاعتراف بضعف الحيلة وقلة الوسيلة وعدم الصلاح أن يزيد هبوط الروح! ولا عجب إذا كان سعيد قد عاد إلى بيته وهو يسأل نفسه لماذا شرب هذا الزبيب السخيف؟
ودخل على زوجته، وهو يقول لها: «اسمعى.. من الآن فصاعدا لا تدعينى أخرج ومعى فلوس.. بس الكفاية للانتقال.. فاهمة»؟
فظنت أن ما معه سرقه النشالون، فقال: «لا.. بس شربت زبيب.. جنون بالطبع.. الرجال مجانين».
وارتمى على كرسى، وهو يقول: «قال زبيب.. كلام فارغ.. مسخرة وقلة حيا».
وأتخذت كآبته صورة السخط على النفس، ولا نعرف كيف كانت أحلامه فى تلك الليلة.. فإنه لم يقصها على أحد، ولكن الأرجح أنها لم تخل من «الزبيب والكلام الفارغ»!
❃مقابسة من كتاب «في الطريق»