تسود فكرة أنَّ المرأة العربية مظلومة ومهضومة الحقوق بسبب بعض التَّشريعات الإسلامية، على غرار الاعتقاد بأنَّ التشريعات الإسلامية تتعامل مع المرأة وكأنها مخلوق قاصر يحتاج إلى قوامة ورعاية، فضلًا عن أنه ينظر لها بأنها بنصف عقل، ناهيك عن أنها لا تأخذ من الميراث إلا نصف ما يأخذه الرجل. يعزز من انتشار هذه “الصورة المغلوطة” الكثير من الممارسات المجتمعية- في بعض الدول العربية- التي تخلطُ العادات بالتَّشريعات، فتحرمُ المرأة من حقِّها في الميراث تمامًا بدعوة الحِفاظ على مال الأسرة أو ما شابه، كما تنتشر جرائم الشَّرف دون أن تجد لها رادع شرعي أو قانوني، ناهيك عن النَّظرة المجتمعية الخانقة للمرأة المطلقة والأرملة أو تلك التي لم تتزوج بعد.
من يتأمل واقع المرأة العربية يجد خارطة من الإشكاليات المتراكمة، والتي لا يمكن حلها بمجرد الانتقاد أو التسليم، بل تتطلب جهدًا مركبًا يتبنى النَّقد البنَّاء كأسلوب للكشف عن أوجه الاختلالات، ويستند إلى فهم حقيقي للتشريعات الإسلامية بصفة كلية دون الاقتصار على النَّظر إلى التشريعات المتعلقة بالمرأةِ فقط، إذ لا يمكن فهم النَّص بأحكامه دون الاستناد إلى نظرةٍ شمولية، ومن خلال هذه النَّظرة الشمولية يمكن إدراك أبعاد تلك الأحكام التشريعية المتعلقة بالمرأة بعيدًا عن نظرة النَّقد السَّاخط، أو التسليم الأعمى.
لم تنشأ هذه الاختلالات في الوقتِ الرَّاهن، بل أخذت حظَّها من التعقيد بفعل تقادم الزَّمن واستفحال ممارسات العادات الجاهلية والثقافة القاصرة، ونظرًا لاستمرارها دونَ وجود حلول حقيقية أصبحت أحد الثغور التي تؤتى من قبلها المجتمعات المسلمة في العصر الراهن. فاقم من خطورة ملف حقوق المرأة ارتباطه بمرحلة الاستعمار والصدمة الحضارية التي خلفها، إذ ربطَ بعض الكتَّاب والمفكرين- على غرار محمد عبد وقاسم أمين- بين الاستعمار من جهة وتخلف المجتمعات العربي بمكوناته من جهة أخرى، وصاحبت دعوى التحضر حركات نسائية التقطت طعم الحضارة، وجادلت بأنَّ السبب الرئيسي في تخلف المجتمعات العربية هو غياب تمكين المرأة، وحتى يتم تمكين المرأة برزت جملة من الأطروحات والمقاربات الفكرية والمجتمعية، منها ما ركز على ضرورة تعليم المرأة، ومنها ما ركز على ضرورة تبني التجربة الغربية في تحديث واقع المرأة كنموذج يحتذى به. وفي خضم التفاعلات التي أفرزتها تلك المقاربات تشكل لنا واقع إشكالي حدد ملامح دور المرأة العربية لما بعد الاستعمار، وهو واقع لا زالت ملامحه مستمرة حتى اللحظة، وتتماشى بشكل يكاد يتطابق مع التجربة الغربية بسبب العولمة وتأثيراتها.
هذا الواقع الإشكالي مرده إلى عاملين أساسيين:
– الأول: يتعلق بإشكالية الطرح الذي يتبناه النموذج الغربي،
– الثاني يتعلق بإشكاليات المعالجة التي تنطلقُ منها معظم المقاربات التي تمَّت في العالمِ الإسلامي.
إشكاليات أطروحات النسوية الغربية:
ثمة علاقة وطيدة بين أي حراك مجتمعي وبين سياقه الثقافي والاجتماعي، إذ عادة ما تشكل هذه السياقات البيئة الفكرية والحركية لهذه الحركات، ومن يتتبع سياقات تشكل الحركات النسوية في الغرب يجد ما يفسر طبيعتها الصراعية، إذ نشأت هذه الحركات في خضم الثورة الصناعية في الغرب، والتي أعادت قولبة المجتمع من مجتمع طبقي يرزح تحت وطأة النظام الإقطاعي إلى مجتمع طبقي يرزح تحت مبادئ الرأسمالية، وفي كلا الحالتين لم يخرج المجتمع عن طبيعته الطبقية، غير أن طبقية الثورة الصناعية كانت أقسى بسبب ارتباطها بمبادئ كثرة الإنتاج وتقليل التكلفة، وتحت نير هذه المبادئ تمَّ استغلال المرأة باعتبارها الوسيلة الأرخص لتحريك عجلة الصناعة، ولأسباب عدة – منها عدم حصولها على حقوقها الاقتصادية والسياسية وغيرها من الحقوق- ثارت طبقة النساء العاملات، وصاحبتها تشكل حركات نسوية أخرى، اعترضت على المسلَّمَات الدينية التي تحقر من كينونة المرأة ابتداءً، وتحرمها من أبسط حقوقها ضمن سياق سيادة ذلك الفهم الديني/ المجتمعي.
كما تأثرت هذه الحركة بالأطروحات الثقافية والفكرية السائدة في واقعها، ومن أبرز تلك الأطروحات مبدأ الداروينية الصراعية، والتي تجلت في الفهم السياسي والاقتصادي للمجتمعات الغربية، وشكلت الخلفية الفكرية للحركات النسوية في الغرب. وفي هذا السِّياق نشير إلى ما قاله المفكر المصري عبد الوهاب المسيري بأنَّ إشكالية النسوية الغربية تكمن في تمركزها حول الأنثى، حيث يرى أن مصطلح فمينزم” (Feminism) بوصفه تعبيرًا عن النسوية- لا يُعبر عن تحرير المرأة- وإنما عن حالة الصراع مع الرجل، وتمركزها حول ذاتها، كنتاجٍ تاريخي لتحولات الإنسان الغربي. والتمركز حول الذات هنا ليس سببه الرغبة في التمسك بحق الأنثى وإعلاء كينونتها، بل بسبب اعتبار أن هذه الكينونة هي مصدر الحق، وهذا الفهم منشؤه “منظومة التحديث والعلمنة الغربية التي تدور في إطار ما يسمى “الحلولية الكمونية المادية” أو “المرجعية الكمونية الذاتية”، وهي المنظومة التي يميزها، على مستوى البنية العامة، أن المبدأ الواحد المُنظم للكون ليس مفارقًا له أو مُنزهًا عنه، متجاوزًا له، وإنما كامن “حالٌ” فيه، ولذا فالكون -الإنسان والطبيعة- يصبح مرجعية ذاته، ومكتفٍ بها[1].
لم يكن لهذا الطرح أن يكون خطيرًا إلا بعد أن برزت تأثيرات العولمة على مستوى دولي، فالاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق المرأة- في مختلف المجالات- استندت على هذه الأطروحات، واعتبرت أنَّ هذه الحركات النسوية -بجذورها الحضارية ومسلماتها الفلسفية ذات البعد المادي- مرجعية لبناء معايير تلك الاتفاقيات، ومن خلال صياغة بنود هذه الاتفاقيات بتلك المعايير المادية واعتمادها على سلطة القوة -الخشنة والناعمة التابعة للدول التي تدير المؤسسات الدولية- تم تصدير معظم إشكاليات المرأة الغربية- ذات الثقافة المادية والاشكالات الحداثية- إلى المرأة في دول العالم النامي، والتي في معظم الحالات لا تتوافق البتة مع تلك الاطروحات بسبب أن اشكالياتها تختلف كماً ونوعاً استناداً على سياقاتها الحضارية والثقافية التي لم تصل بعد للسياق الغربي بتمثلاته الحالية.
إشكاليات مقاربات حقوق المرأة
تكمن إشكالية المقاربات التي حاولت أن تجد حلولًا جذرية لتحديات واقع المرأة العربية والمسلمة في عاملين:
– الأول: يتعلق بإشكالية التقليد التي اتبعتها الأطراف المجددة كأفراد أو كحركات، إذ يمكن ملاحظة أنَّ كثيرًا من الأصوات التي طالبت بإصلاح واقع المرأة -في المجتمعات العربية- تبنت خطابًا علمانيًا لا يختلف بشكل كبير عن أطروحات الحركات النسوية الغربية، ورغم محاولتها للمواءمة بين تلك الأطروحات الغربية وبين احتياجات واقعها إلا أنها لم تنجح في تحديد احتياجاها ومطالبها ابتداءً، فضلًا عن عدم تمكنها من تأسيس خطاب حقوقي خاص بها، وذلك لأنها عندما تبنت الخطاب الحقوقي النسوي الغربي لم تدقق في مضامينه وأبعاده الفكرية، وبالتالي نقلت دون وعي حالة الصراع الكامنة في الخطاب النسوي الغربي إلى مساحات نقاشها وتحركاتها داخل مجتمعاها.
– العامل الثاني: ارتبط باقتصار بعض الحركات النسوية/ التيارات الإصلاحية بتبني استراتيجية رد الفعل، وترتب على هذه الاستراتيجية إشكاليتين، أولهما هي غياب التَّفاعل الحقيقي مع إشكاليات الواقع، وبالتالي تفاقهما واستشرائها، والثاني التقيد بالحالة الدفاعية واعتبار أنَّ كل ما يطلقه الآخرون من أحكام هو أقرب للمسلَّمات التي تتطلب شحذ الجهود لإبطالها، وضمن تلك المعارك الجانبية تتبعثر جهود المصلحين وتتفاقم إشكاليات واقع المرأة دون إيجاد حلول ناجعة لها.
خاتمة:
من خلال النظرة المتأنية لطبيعة هذه الاشكاليتين- إشكالية الطرح واشكالية المعالجة- يمكن إدراك أنَّ معظم التعقيدات التي طالت واقع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية مردها إلى هاتين الإشكاليتين، ومن أجل تجاوز الحالة الراهنة التي تراوحها المجتمعات العربية والمسلمة ينبغي النَّظر بشكل جدي في خطورة الأطروحات النسوية الغربية ووسائلها المتقدمة، كما ينبغي تبني نظرة نقدية في تحليل حالة الدفاع التي تؤطر معظم الجهود الإصلاحية، وذلك من أجل تقويمها والاستفادة منها للخروج إلى حالة بناء ومدافعة لا مجرد انتقاد مصمت.
الهوامش:
- سامح عودة، “النسوية الإسلامية.. تقليد للغرب أم ثقافة أصيلة؟”، موقع ميدان، تم نشره في 10.10.2021، تم الوصول إليه في 30.12.2021، متاح على الرابط التالي: https://aja.me/cznyz