كانوا 1,000 أسير، اقتيدوا صوب مدينة صنعاء، وبين أيديهم 1,000 رأس دامي، أجبروا على فصلها عن أجسادها، ولكي يغيض الإمام المـُتوكل يحيى شرف الدين أعداءه الطاهريين، أمر بإلحاقهم بزملائهم، بعد أنْ ألقى عليهم من شرفة قصره العتيق نظرة التشفي الأخيرة، ولأنَّ تاريخ الإجرام الإمامي موصولًا غير مقطوع، قام الإمام المُتوكل يحيى حميد الدين بتكرار ذات المشهد بعد ثلاثة قرون من حدوثه، والضحايا هنا أبطال المقاطرة الأشاوس، الذين هزوا عَرشه ذات ثورة.
نضال بلا مُساومة
كانت قَلعة المقاطرة أسبق من حصن شهارة في مُقاومة الأتراك؛ لأنَّ قائد شهارة الإمام يحيى حميد الدين كان يتراوح بين المُفاوضة والمُقاومة، وكان يقبل الاحتلال إذا أتاح له المـُحتل التولي على الزكوات والأوقاف بدون فرض زيادات في الضرائب السنوية المتفق عليها، أما قلعة المقاطرة بزعامة آل علي سعد، فقد انتهجت – حسب توصيف عبد الله البردوني – النضال بلا مُساومة، وعُرف رجالها منذ ذلك الحين بِصلابة الموقف، والشراسة في القتال.
وغير بعيد دوخت المقاطرة بالوالي العثماني مصطفى عاصم الذي حكم اليمن نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، ويُقال أنَّ القائد التركي سعيد باشا أقسم حينها أنَّه سيطأ بقدميه أرض قلعتها الشهيرة، وحين عجز بعد خمس سنوات من الحصار عن ذلك، أنزلوا له ترابًا منها، فداسه بقدميه، وبرَّ يمينة، وكانت تلك الحادثة محط فخر واعتزاز أبناء المنطقة، حتى النساء كُنّ يُغنين:
تُــــــركي نـــزل رأس النقيــل مســــرول
يشتي البـــــــلاد وأن البــــــــــلاد مـــدول
كما قاومت المقاطرة الأتراك أثناء تواجدهم الأول في اليمن، واستعصت على القائد سنان باشا، ولم يدخلها الأخير أواخر القرن العاشر الميلادي إلا بعد عناء 995هـ / 1587م، ومعه 12,000 مُقاتل، وعن ذلك قال المُؤرخ عبدالصمد الموزعي: «ثم دخل – يقصد القائد سنان – بلاد المقاطرة العاصية المكابرة، وهي بلدة عسرة المسلك، كثيرة المهلك، فدخلها بجيوش لا تحد ولا توصف».
ولأنَّ مُقاومة أبناء المقاطرة كانت شديدة، وخوفًا من أنْ يُعاودوا التمرد على الدولة العلية، كانت عقوبة القائد التركي لهم شنيعة، وعنها قال ذات المُؤرخ: «فلما صفاها – يقصد القائد سنان – وأصلحها، وجلاها، وانقاد لطاعته أسفلها وأعلاها، قبض الرهائن من كل مطيع وخائن، وحتم بأنْ تكون الرهينة مثلثة العدد، زوجة، وبنتًا، وذكرًا من الولد، لا ينقص منهم أحد، وأودع الرهائن المذكورة في دار الحجرية المشهورة.. فبلغت الرهائن المذكورة في العدد خمسمائة نفر أو أزيد».
وبالعودة إلى تَاريخ المقاطرة غير البعيد، فهناك من يَقول أنَّ عداء آل علي سعد للعثمانيين يَرجع لتقريب الأخيرين لآل نُعمان مُقبل، مُنافسيهم التقليديين في المنطقة، وكان الفقيه المُتصوف المنتصر المسعودي البنا، جد آل نُعمان الثامن، قد قدم من وادي بنا في نادرة إب، وبدأت من عهده زعامة تلك الأسرة الروحية، أما آل علي سعد فقد قَدِم جدهم أيضًا من إب، ويسمون أيضًا بـ (بني الأصيلع)، ويعود أصلهم إلى بني الجماعي، وهي أسرة مشيخية عَريقة لها حضور في كُتب التاريخ ومَراجعه الموثوقة.
ما إنْ آلت أعمال الحجرية إلى بني علي سعد؛ حتى انصاعوا للعثمانيين، لينتهي ذلك الانصياع بمجرد أنْ قَرَّب الأخيرون الشيخ أحمد نعمان مُقبل البنا منهم، وجعلوه عضوًا في الوفد الذي توجه لـمُقابلة السلطان عبدالحميد، وعينوه قائم مقام لذلك القضاء، مُؤسسين لمجد تلك الأسرة السياسي الذي ما يزال فارضًا حضوره حتى اللحظة.
لقي بعد ذلك الشيخ أحمد نعمان مَصرعه * في قرية الزميلة – عزلة الزعازع – ناحية المقاطرة بخنجر مَسموم، وهو يُجهز جنودًا لإرسالهم إلى لحج، لينضموا إلى جيش اللواء على سعيد باشا، وذلك بعد عِدة أشهر من نشوب الحرب العالمية الأولى 20 مايو 1915م، وآل الأمر من بعده لأخيه عبدالوهاب، ولأنَّ أصابع الاتهام طالت آل علي سعد، فقد ارتفعت وتيرة العداء والتنافس بينهم وآل نعمان البنا من جهة، وبينهم والعثمانيين من جِهة أخرى.
غادر العثمانيون اليمن، واجتاح الإماميون الحجرية أواخر عام 1919م، وقد استفاد الأخيرون من التنافس القائم بين مشايخها أيما استفادة، وأعادوا نبش الأحقاد والثارات القديمة، وضربوا تبعًا لذلك هذه المنطقة بتلك، وولدوا أحقادًا وثارات جديدة، وكان استغلالهم الأكبر لحادثة مقتل الشيخ أحمد نعمان مُقبل السابق ذكرها، وهي الحادثة التي كان لها ما بعدها [1].
الجولة الأولى
المقاطرة من أوسع نواحي قضاء الحجرية، وأشدها تشعبًا، يحدها غَربًا الوازعية، وشرقًا القبيطة، وجنوبًا الصبيحة، وشمالًا بقية قضاء الحجرية، وبها – كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير – القلعة الحصينة، والجبال الأربعة (الليم)، وحدودها واسعة الاتصال بالجنوب، ويقع بالجنوب الشرقي منها جُمرك معبق.
قاومت المقاطرة الزحف الإمامي المُتوكلي على تعز في لحظاته الأولى، هذا ما تفرَّد المُؤرخ المقطري سلطان ناجي بذكره، حيث قال: «ثم اتجهت جيوشه – يقصد الإمام يحيى – نحو المنطقة السفلى في الحجرية، فوقفت في وجهها قبيلة المقاطرة، وقاومتها مُقاومة مُنقطعة النظير، وبعد حوالي عامين سقطت المقاطرة، وسقطت قلعتها المنيعة، بعد أنْ ذاعت مُقاومة هذه القبيلة في كل أطراف البلاد».
وتأكيدًا لذلك قال الباحث عبدالعزيز المسعودي إنَّ علامات المُعارضة ضد حكم الإمام يحيى ظهرت في المقاطرة عام 1919م؛ بعد أنْ أدت سياسته المركزية إلى نفور سُكانها، مُشيرًا إلى أنَّ الطبقة الحاكمة حينها أساءت تقييم الشعور القبلي الاستقلالي، والأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها تلك المنطقة، جراء الوباء والجفاف الذي قضى على المحاصيل الزراعية، والثروة الحيوانية، مُلمحًا إلى أنَّ الإشاعة التي أطلقها عملاء الحكومة بتورط عامل قضاء الحجرية الشيخ عبدالوهاب نعمان في تلك الحركة ساعدت في تدهور تلك العلاقة.
الوثائق البريطانية ألمحت هي الأخرى لوجود حركة رفض شعبية للتواجد الإمامي في المقاطرة، دون أنْ تتعمق في ذكر تَفاصيل ذلك أكثر، وجاء في إحدى تلك الوثائق أنَّ الإمام يحيى عَين الشيخ محمد أحمد نعمان (ابن الشيخ أحمد النعمان السابق ذكر حادثة مقتله) عاملًا على تلك الناحية – أواخر سنة 1919م، وأنَّ الأخير بادر فور عودته من صنعاء بالتواصل مع مشايخ المقاطرة، عارضًا عليهم الدخول في طاعة الدولة الإمامية، وتسليم ما عليهم من مُتطلبات زكوية، وأنَّ عمه عامل قضاء الحجرية الشيخ عبدالوهاب نُعمان وقف ضد تحركاته تلك، وتواصل مع الثوار سرًا.
ولأنَّ تلك الوثائق اعتمدت في الأساس على ما يُرسله عُملاء الإنجليز، وغيرهم، فقد ارتكزت في الغالب على الإشاعات، والتوقعات، وعلى أخبار مُضللة أراد الجانب الإمامي تسريبها، وهي رغم ذلك لا تخلوا من من بعض المعلومات المهمة، ومثلًا أفادت وثيقة ثانية أنَّ عامل المقاطرة الشيخ محمد نعمان كثف في بداية العام التالي (1920م) من استعداداته الهجومية. وأفادت وثيقة ثالثة أنَّ سلطان لحج عبدالكريم فضل تلقى أخبارًا تفيد بأنَّ أمير تعز علي بن عبدالله الوزير ينوي السيطرة على المقاطرة، وقلعتها الحصينة، تمهيدًا للهجوم على الصبيحة، والاستيلاء على لحج.
أما الوثيقة الرابعة فقد أشارت إلى أنَّ شيخ المقاطرة – لم تذكر اسمه، واحتمال يكون الشيخ شمسان بن عبدالله المكابري – تواصل مع سلطان لحج طالبًا المساعدة ضد أمير تعز علي بن عبدالله الوزير، الذي هددهم بالعقاب الشديد إنْ لم يدخلوا في طاعته. وتحدثت وثيقة خامسة عن قيام الأمام يحيى بتوجيه قواته بعدم التقدم صوب المقاطرة، وما بعد تلك الناحية المُستعصية من مناطق.
يعود تاريخ تلك الوثائق إلى الثلث الأول من العام 1920م، واحتمال كبير أنَّ المُؤرخ سلطان ناجي، والباحث عبدالعزيز المسعودي اعتمدا عليها، وعلى الذاكرة الشفهية أيضًا، وتوصلا إلى ما سبق نَقله عنهما، وهي الإشارة العَابرة التي جَعلتني أُخمن أنَّ المُقاومة الـمَقطرية المُتقطعة كانت على جولتين مُنفصلتين، وأنَّ الجولة الأولى استمرت لحوالي سبعة أشهر، وذلك بدءًا من سبتمبر 1919م، الشهر الذي دَخل فيه الأمير علي الوزير مدينة تعز، حتى منتصف أبريل من العام التالي، الشهر الذي وجه فيه الإمام يحيى قواته بعدم التقدم جنوبًا، وأنَّ فترة من الهدوء الحذر تبعتها، واستمرت – أي هذه الفترة – حتى منتصف العام 1921م.
وتأكيدًا لما سبق، فقد اهتم مُؤرخو الإمامة بذكر تفاصيل الجولة الثانية التي بدأت تقريبًا في يونيو من العام 1921م، والتي كانت الغلبة فيها للقوات الإمامية، باستثناء المُؤرخ أحمد الوزير الذي وصف قلعة المقاطرة بـ (المُتمردة)، ومهد لنقل تلك التفاصيل بالقول: «كان قضاء الحجرية قد دخل تحت طاعة حكومة الإمام بدون حرب، ولم يبق خَارجًا عن الطاعة والانقياد الكامل إلا قلعة المقاطرة وجبلها الشامخ».
وتجاوزت القوات الإمامية – حد وصف ذات المُؤرخ – بلاد الحجرية، وبالأخص ناحية القبيطة، وصولًا إلى الصبيحة مارس 1921م، تحت قيادة الشيخ محمد أحمد نُعمان (لم يذكر صفته)، إلا أنَّ أوامر إمامية عليا طالبت تلك القوات بالانسحاب. وفي أواخر ذات العام، وبعد إخماد انتفاضة المقاطرة، والسيطرة النهائية على القبيطة، حاولت قوات إمامية أخرى السيطرة على الصبيحة، إلا أنَّها فشلت، وهو ما سنأتي على تناوله تفصيلًا في السطور الآتية.
وبالعودة إلى موضوعنا، فقد تحدث المُؤرخ أحمد الوزير عن عمه علي الوزير قائلًا: «وكانت إرادة الأمير أنْ يتم توحيد المقاطرة بالطرق السلمية، فَراسلهم عدة مرات، فلم يستجيبوا؛ اعتمادًا منهم على وجود التشجيعات والإعانات – يُلمح هنا إلى دور الشيخ عبدالوهاب نعمان – ولم يتم من محاولات الأمير السلمية شيء؛ بل كان التعدي من أهالي المقاطرة بقتل الأنفس المُحرمة، فرفع العامل والحاكم بذلك التعدي إلى الأمير، مع ما هنالك من انتهاك للحرمات والتحرشات والاستفزازات المتوالية، والمتكررة، فرفع الأمير بدوره كل ذلك إلى الإمام، فأذن له بالجهاد».
صحيح أنَّ حديث المُؤرخ أحمد الوزير المقتضب خالف تخميني السابق ذكره، والمُتمثل بتحديد فترة زمنية محدودة للجولة الأولى، إلا أنَّه أكد – وهو الأهم – وجود تلك الجولة، التي استمرت حسب حديثه حتى بداية الجولة الثانية، وأفاد أنَّ عمه الأمير استبق التحركات الأخيرة بتعيين الشيخ عبدالواسع نعمان مقبل البنا عَاملًا لناحية المقاطرة، خلفًا لابن أخيه (الشيخ محمد أحمد نعمان)، والجزئية الأخيرة لم يذكرها ذات المُؤرخ ولا غيره من المُؤرخين الإماميين، واللافت في الأمر أنَّ نهاية العامل المُعين – سنتحدث عن ذلك في السطور الآتية – كانت تمامًا كنهاية أخيه، الذي لقي قبل ست سنوات مَصرعه في تلك الناحية.
أما المُؤرخ عبد الكريم مُطهر فقد اكتفى بالقول: «ومنذ دخول أعمال الحجرية تحت ولاية مولانا الإمام مكثوا على ديدنهم المعلوم»، ثم انتقل مُباشرة للحديث عن الجولة الثانية، وبإسهاب مُمل، وقال في نقله لحوادث سنة 1339هـ، وهو ما يوافق العام 1921م: «وكان استفتاح القسم الأكبر من ناحية المقاطرة، وهذه الناحية مَعدودة من قضاء الحجرية، إلا أنَّها ما زالت بكرًا إلى قبل هذا التاريخ، واشتهرت قلعتها بالمناعة والحصانة، وعدم النظير في الارتفاع» [2].
الجولة الثانية
إذا ما استعصت منطقة ما على القوات الإمامية؛ فإنَّ الإمام – أي إمام – يُسارع بتوجيه أوامره لتلك القوات بالتوقف عن الهُجوم، حتى تتهيأ له الظروف، ويُتم استعداداته؛ بل ويتعذر بعضهم بأنَّه تلقى عبر المنام أوامر صريحة بذلك*، من أحد من يَدعي أنَّهم أجداده!
استعصت ناحية المقاطرة في الجولة الأولى على الإمام يحيى، وأمر قواته – كما سبق أنْ ذكرنا – بالتوقف عن الهجوم أبريل 1920م، ولم يكد يحول الحول، حتى تهيأت له الظروف، واكتملت الاستعدادات، وتوفرت الذرائع، فما كان منه إلا أنْ كَلَّف ذئبه الأسود علي الوزير بالهجوم الكبير.
تفرَّد المُؤرخ حمود الدولة بذكر إحدى تلك الذرائع، وقال أنَّ عددًا من أبناء المقاطرة قاموا بالاعتداء على مواطنين آخرين في إطار ذات الناحية يونيو 1921م، ومن حديثه المُشبع بالخيال، والقائم على الاستبطان، نقتطف: «كان التعدي من بعض أهل المقاطرة، والعدوان بأفعال مُنكرة، وقتل النفس المُحرمة، والجرأة بهتك كل حُرمة.. فالتجأ من ناله الضرر منهم، والأذية في بلدهم ووديانهم، بحاكم الحجرية، وعاملها، واستغاثوا مُستنصرين مما جرى بهم من جور أهل الجهة المذكورة وباطلها».
قرر أمير تعز علي الوزير حينها إرسال حملة عسكرية كُبرى إلى تلك الجهة، وجاء بذرائع أخرى غير التي ذكرها كاتب سيرته؛ فأبناء المقاطرة – كما أرسل للإمام يحيى – مُتهاونين في أمور الدين، ولم يبق لديهم منه ومن تعاليمه ما يعدون به من أهل الإسلام، وأهملوا – حد توصيفه – الصلاة وعقود الأنكحة، وخربوا المساجد، وأصبحوا إخوان نصارى، نتيجة قربهم من عدن، وذهابهم إليها، ومُعاشرتهم للأجانب! وقد طلب في رسالته الإذن بإصلاح تلك الجهة، وإدخالها إلى حظيرة الطاعة، وتجديد ما اندرس من رسوم الدين وتعاليمه.
لجوء السلطات الإمامية إلى الاستشهاد بالشريعة الإسلامية، وإقامة الحدود، ألغت – كما أفاد الباحث عبدالعزيز المسعودي – عمليًا الدور السياسي والأيدلوجي للتراث الشعبي المُقاوم، وهدفها من ذلك سحق أي مُعارضة فلاحية قائمة، والأسوأ من ذلك اتهام تلك الثورات بأنَّها مُستوردة من الإنجليز، وهو ما حصل مع ثورة المقاطرة وغيرها. وتبعًا لذلك لا يُعتبر هؤلاء الثوار مسلمون؛ بل إخوان نصارى، ودماؤهم وأموالهم مباحة للمجاهدين، أنصار الإمامة والإمام.
وصل الإذن الإمامي لعلي الوزير باجتياح المقاطرة، فما كان من الأخير إلا أنْ حَشد لذات الغرض آلاف العساكر، غَالبيتهم من أرحب، ووادعة، ومجاميع من رعايا مشايخ لواء تعز، بشقيهم المُتجمل والمخدوع *، واستدعى عامل قضاء الحجرية الشيخ عبدالوهاب نعمان للمُشاورة، وكلفه بقيادة تلك القوات، وكلف أخوه عامل المقاطرة الشيخ عبدالواسع نُعمان، وابن أخيه عامل المقاطرة السابق الشيخ محمد أحمد نعمان بمعاضته؛ واستعانته بهذه الأسماء النعمانية ليس حبًا فيهم، وإنما استغلالًا لخلافهم مع مُنافسيهم التقليديين (آل علي سعد) الذي سبق أنْ تحدثنا عنه.
لم يكن وصول الإذن الإمامي اعتباطيًا، وكما وجدت ذرائع ذلك الغزو كما سبق أنْ ذكرنا، توفرت الاستعدادات أيضًا، وقد أرجع المُؤرخ حمود الدولة تكاثف القوات الإمامية التي تكفلت بالهجوم على المقاطرة، إلى الجدب الذي أصاب المناطق الشمالية عامذاك، وقال عن ذلك: «وكان من الألطاف الربانية، ترادف قُبل المشرق إلى الأبواب الإمامية، لما أصابهم في ذلك التاريخ الجدب، وفاتهم ريف الخصب، فأرسل الإمام إلى الأمير كثيرًا منهم، فاجتمع لدن الأمير ما يضيق الفضاء عنهم».
قاد الشيخ عبدالوهاب نعمان القوات الإمامية من مدينة تعز إلى مَشارف ناحية المقاطرة 29 يوليو 1921م، وقد كانت الأكاحلة هدفه الأول، فهي حد توصيف المُؤرخ مُطهر: «أقرب العزل من سائر البلاد، وسكانها أخبث من غيرهم جراءة وعدوانًا»!
وفي الوقت الذي بقي بقي فيه الشيخ عبدالوهاب نعمان في القلب، ومعه قادة الحملة، وعدد من الأفراد، واثنان من المدافع، أرسل إلى شرق تلك العُزلة بفرقة معظم أفرادها من قبائل أرحب، وبعض قبائل المناطق الوسطى، تحت قيادة ابن أخيه الشيخ محمد أحمد نعمان، وأصحبها أحد المدافع، وأرسل إلى جنوبها بفرقة ثانية جل أفرادها من الجيش النظامي، تحت قيادة أخوه الشيخ عبدالواسع نعمان، وأرسل إلى شمالها بمجاميع قبلية تحت قيادة الشيخ محمد هاشم المذحجي.
وفي الجانب الآخر تولى قيادة المقاومة شيخ الأكاحلة شاهر قائد ردمان، وقد تصدى وأصحابه لذلك الهجوم، وكبد الإماميين ومُسانديهم عشرات الضحايا، ولأنَّه كان ماهرًا بالقنص، أردى في نهاية اليوم الأول من المُواجهات عامل المقاطرة الشيخ عبدالواسع نعمان قتيلًا، بعد أنْ أنذره بعدة طلقات تحذيرية في الجو، ليحل الشيخ عبدالعزيز عبدالواسع، ابن الشيخ القتيل مكان أبيه، وقد أصيب الأخير فيما بعد بالجنون.
وعن لحظات الهجوم الأولى قال المُؤرخ حمود الدولة: «وانتشرت الحرب من صُبح ذلك اليوم إلى بعد الغروب.. واستولى المجاهدون – أي مُقاتلي الإمامة – على أكثر البلاد، ونال المُخالفين في ذلك اليوم ما تشيب منه الأولاد.. وأحاط المجاهدون بما بقي من المحلات المنيعة، والحصون الرفيعة».
ما أنْ أطل صباح اليوم الثاني، حتى شَنَّ الإماميون هُجومًا شاملًا على ما تبقى من قُرى عُزلة الأكاحلة، ومن أكثر من اتجاه، ثم كان بعد ذلك اجتماعهم وتقدمهم صوب حُصون شاهر، لتأتي الأوامر الإمامية بعد الاستيلاء عليها بهدمها، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «صدر الأمر الشريف من مولانا الإمام بهدم بيوت شاهر، فألحقت بالعدم، وسويت بالهدم الى القرار».
المُؤرخ الإمامي حـمود الدولة من جهته أسـمى ذلك النصر الإمامي بـ (الفتح)، وقال مُتباهيًا ومُوضحًا خُلاصة ذلك المشهد الدموي: «واستكمل فتح الأكاحلة على سعتها، وغنم المُجاهدون غنائم تصعب الإحاطة بجملتها، وكان جملة القتلى الشهداء من المجاهدين نحو أربعة، والجرحى نحو سبعة، وقتل من المُخالفين نحو العشرين، وأسر نحو خمسة وعشرين، وقطعت رؤوس كثير من قتلاهم، وحملت على أعناق الأسارى على عظم بلاهم».
كَثَّفَ الأمير على الوزير بعد ذلك من استعداداته للسيطرة على بَاقي عُزل ناحية المقاطرة، وبادر بإرسال الإمدادات تلو الإمدادات إلى تلك الجهة، ومع بدء وصول تلك الطلائع المُنجدة، تجاوزت القوات الإمامية المُرابطة في الأحكوم تلك العُزلة، وتقدمت في مَطلع الشهر التالي (أغسطس 1921م) صوب عُزلتي الأشبوط المسيجد، ومن محورين مُختلفين، وسيطرت عليهما دون قتال، وبعد أنْ طلب سُكانهما الأمان، ثم واصلت تقدمها، وأتمت خلال أقل من أسبوع سيطرتها على جميع العُزل الشرقية.
تَوسع المُؤرخ حمود الدولة في نقل تفاصيل معارك هذه الجولة، وأفاد أنَّ القوات التي سيطرت على عُزلة الأشبوط واصلت تقدمها صوب عُزلتي الزعيمة والزعازع، وأنَّ هاتين العزلتين قاومتا ذلك الزحف وبقوة، ولم يَسْقُطن إلا بعد مَعارك شرسة، وأضاف أنَّ القوات التي سيطرت على عُزلة المسيجد واصلت تَقدمها صوب عُزل تلك الجِهة (لم يذكر أسمائهن، باستثناء عُزلة المدجرة)، وختم حديثه بالقول: «واتفقت المراتب الشرقية، وتضاعفت للمُجاهدين العزائم القوية».
وتعزيزًا لهذه المراتب، أرسل الأمير علي الوزير بقواتٍ قبلية أخرى تحت قيادة حسن بن قاسم الوزير، والنقيب عبدالله بن سعيد الجبري 10 أغسطس 1921م، وكلفها بالمرور من دمنة خدير والمفاليس، وأصحبهم أحد المدافع، وأكمل المُؤرخ حمود الدولة مشهد وصولهم بقوله: «وكان وصولهم مُسرعين إلى الأحكوم، وقد طاشت لكثرتهم الحلوم، فواجههم مَقْدَمِي السريات السابقة – يقصد الشيخ عبدالوهاب نُعمان – إذ تعلق به تدبير السرية اللاحقة».
في تلك الأثناء، سارع مواطنو عزلتي الدهمشة والهويشة في طلب الأمان؛ وذلك بعد أنْ أصلاهم المدفع الرابض فوق حصن شرف الجاهلي في عُزلة شرجب بقذائفه، كما سَارع مُواطنو عُزلتي السود والمكابرة بذات الطلب، والأخيرة تقع في الجانب الغربي لقلعة المقاطرة، وسبق لشيخها شمسان بن عبدالله المكابري أنْ قاد المُقاومة فيها، وحضي – كما أفاد المُؤرخ أحمد الوزير – بدعم باقي المشايخ.
وهكذا، وبعد أنْ أتمت القوات الإمامية سيطرتها على عُزل ناحية المقاطرة الواقعة شرق قلعتها المنيعة، وبعض العُزل الواقعة غَربها، جاء الدور على باقي العُزل، وتوالى إرسال الإمدادات إلى تلك الجهة، عبر يفرس هذه المرة، وقد وصلت ثاني المجاميع المُنجدة تحت قيادة علي عبدالله الشهاري، وتلاها وصول مجاميع أخرى من جبل حبشي تحت قيادة عامل الأخيرة أمين قاسم أحمد، وباكتمال تلك الاستعدادات، قرر الشيخ عبدالوهاب نُعمان مُعاودة الهجوم، وذلك بعد أنْ أخذ استراحة قصيرة.
وكما تم الهُجوم على عُزل المقاطرة الشرقية من محورين، تم الهجوم على العُزل الغربية من محورين أيضًا، محور قاده علي بن عبدالله الشهاري، وشمل أفراده مجاميع قبلية من آنس وسفيان والعدين وجبل حبشي، وتمثلت مهمته في السيطرة على عُزلة الزريقة 27 أغسطس 1921م، وذلك بعد مَعارك شرسة، امتدت حتى جبل منيف، ووصفها المُؤرخ حمود الدولة بقوله: «فكانت بينهم وبين أهلها حروب صفيقة، وأهوال عميقة، استشهد وجرح فيها من المجاهدين قليلون، وقتل من البغاة عدد كثيرون.. واستولى المجاهدون على جميع بلاد الزريقة، وغنموا فيها الغنائم الواسعة بمن الله وتوفيقه».
أما المحور الآخر فقد كان تحت قيادة عامل المقاطرة المُستجد الشيخ عبدالعزيز عبدالواسع نُعمان، وتمثلت مهمته في تجاوز وادي المكابرة، والسيطرة على عُزلتي النجيشة والصولحة 28 أغسطس 1921م، وكان ثوار تلك الجهة قد زاد عددهم، وذلك بعد أنْ «انضم إليهم فلول من أهل البلاد التي قد استولى عليها أنصار الحق»، حد توصيف المُؤرخ مُطهر، واستماتوا تبعًا لذلك في الدفاع والمُقاومة، وأوجز ذات المُؤرخ خُلاصة تلك المعركة بقوله: «واستولى المُجاهدون على جميع النجيشة والصولحة، واستشهد في هذه الحرب أنفارٌ من المجاهدين.. وكانت الغنائم في هذه الجهة كثيرة، نال منها المجاهدون حظوظهم الوفيرة»[3].
في المقال القادم نستكمل قصة سقوط القلعة، والهزيمة السياسية التي مني بها الإمام، وما تلا ذلك من أحداث.
الهوامش:
1* تَفرَّد المُتصرف يوسف بك حسن والذي كان يشغل حينها منصب قائم مقام قضاء العدين، في تحديد اليوم الذي قتل فيه الشيخ أحمد نعمان مُقبل البنا، وجاء في نقله لأحداث يوم الأربعاء 20 مايو 1915م ما نصه: «واليوم قتل الشيخ أحمد نعمان قائم مقام الحجرية، وهو جالس في خيمة في عزلة الزعازع، قتله رجل يُسمى علي عون، والقاتل أُهلك – أي قُتل – حالًا هو وعشرة أنفار معه، وكان المرحوم من خدمة الدولة، ورجال الهمة، وقد عزيت عائلته برقيًا»، وأضاف في نقله لأحداث يوم الأربعاء 27 مايو 1915م: «وكنا على نية العزم – أي العزم إلى لحج – يومنا هذا، غير أنَّه ورد نبأ من سعيد باشا يُفيد أنَّه وقع أشد التنكيل في قتلة قائم مقام الحجرية، وأنَّه سيتأخر وقت الحركة للمجاهدين قدر عشرة أيام ».
2* ذات التصرف قام به طاغية العصر الإمام الجديد عبدالملك بن بدر الدين الحوثي حين استعصت عليه قبل تسع سنوات منطقة أرحب، وقام به الإمام يحيى أكثر من مَرة، دون أنْ يُشيع أنَّه تلقى أوامر منامية من أسلافه!
[1] الإحسان في دخول مملكة اليمن تحت ظل عدالة آل عثمان، الموزعي، ص 64 – 65 / مذكرات المتصرف يوسف بك حسن، ص 187 – 188 / كتيبة الحكمة، مطهر، ج2، ص 247 / هجر العلم، الأكوع، ص 690 / حياة الأمير، الوزير، ص 169 / اليمن الجمهوري، عبدالله البردوني، دار الاندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ط5، 1997م، ص 87 – 88 / الفكر والموقف، النعمان، ص 16 – 17 / ثمانون عامًا، بعكر، ص 21 – 22 – 23 / حميد الدين الخزفاري، خالد راوح، صحيفة (الثقافية)، العدد 210، 25 سبتمبر 2003م.
[2] كتيبة الحكمة، مطهر، ج2، ص 247 / زورق الحلوى، الدولة، ص 177 – 189 – 190 / حياة الأمير، الوزير، ص 163 – 165 – 166 – 685 / التاريخ العسكري، سلطان ناجي، ص 105 – 106 / معالم تاريخ اليمن المعاصر، القوى الاجتماعية لحركة المعارضة اليمنية (1905 – 1948م)، د. عبدالعزيز قائد المسعودي، مكتبة السنحاني، صنعاء، ط1، 1992م، ص 150 – 151.
[3] كتيبة الحكمة، مطهر، ج1، ص 284 / ج2، ص 248 – 249 – 250 – 251 – 253 – 254 – 255 / زورق الحلوى، الدولة، ص 190 – 192- 199 – 207 – 208 – 210 – 211 – 212 – 213 – 214 / أئمة اليمن، زبـارة، ج3، ص 63 – 64 / حياة الأمير، الوزير، ص 611 – 612 – 617 / التاريخ العسكري، ناجي، ص 106 / معالم تاريخ اليمن المعاصر، المسعودي، ص 152 / الثقافية، مصدر سابق.