الدكتور أحمد خليل البحر، أستاذٌ جامعيٌّ عراقي، يعمل أستاذًا مشاركًا في قسم اللسانيات وعلم اللغة بجامعة يورك، بالمملكة المتَّحدة، متخصصٌ في الأدبِ العربي، ومهتمٌّ بترجمةِ ما تُسْتعصى ترجمته translating untranstable مثل النُّصوص الدِّينية والشِّعرية.
أخذت منه ترجمة قصيدة اللورد تينيسون (ت: 1892) ثلاثة أيام كان يعمل فيها كلما صفا مزاجه للشعر، حاول فيها أن يقدم ترجمة شعرية موزونة تراعي النَّص وخصائصه الجماليَّة، مع الاحتفاظ قدر الإمكان بالقالب وعدم تغريبه. لكن لتحقيق هذا التوازن جرى بعض التَّصرف البسيط من تقديم وتأخير في النَّص بغرض تحقيق التآلف. وهو تقديمٌ وتأخيرٌ ضمن المقطع الواحد لا يتعداه، إضافة إلى بعض المبالغة أو التَّكرار للصفات، لكنه لا يخرج عن سياق المعنى، وهذا متعارفٌ عليه في نظريات وطرائق ترجمة اللا-مترجم.
وهذه القصيدة الطويلة المهمَّة التي كتبت عام 1830 تعدُّ من القصائد التي اشتهر بها اللورد تينيسون، وقد استوحاها من كتاب ألف ليلة وليلة، وأكيد هي مما سمع عنه من “هنري هالام” صديقه المقرب وخطيب أخته الصغيرة، وتينيسون هو شاعر البلاط في العصر الفكتوري وصاحب أشهر قصيدة فيه وهي In Memoriam والتي كتبها في رثاء صديقه هالام.
ويعد الشَّاعر من الشُّعراء الخياليين، قدَّمَ الكثير من المفردات التي لا تزال متداولة في المجتمع الإنكليزي مثل better to have loved and lost than never to have loved at all‘ ويقال أنَّ الملكة فكتوريا لما توفيت وجدوا تحت وسادتها كتابيْن هما الإنجيل وقصائد تينيسون.
***
ذكريات ألف ليلة وليلة، للشاعر ألفرد لورد تينيسون
ترجمة د. أحمد خليل البحر
حين يهب طليقًا وعذبًا نسيم الفجر
في الشراع الحرير لعهد بعيد
ويأخذني الموج ما بين مدّ وجزر
لذاك الزَّمان الذي شمس صيفه كل صباح مُطلة
ولدتُ هناك على شط دجلة
ببغداد ذات المقامات والأضرحة
وقباب الذَّهب المصمحة
وحدائق خضراء دونها أسوارها العاليات القديمة
مسلمًا كنتُ، ملتزمًا بالعهودِ القويمة
في ذلكَ العصر الذَّهبي المجيد
عصر الرجل الصالح هارون الرشيد
يصارع قاربي الموج في الليل
حيث تدلى وتدنوا شجيرات ورد وزهر
وتبعثُ عطرًا يفوح، وفي لمعة الماء يشف القعر
وبينَ ظلال الترنج
وورد القرنفل
وسحر الدجى
حيثُ العرائش مزحومة بالشجيرات في الحديقة
تفتح واسعة أبواب قصر عريقة
على ذهب يتوهج رغم خفوت القناديل
لتبدو على الجانبين زخرفة الأرائك
كان ذاك، لعمري، دهرٌ جميل
ذلك العصر الذهبي المجيد
عصر هارون الرشيد
أدرتُ الزورق عند المصبِّ الذي
تحرسه أشجاره الشاهقات
منحدرًا في اتجاه القناة
تلك التي تصب من النهر
رأيت على ضفتيه مروجًا تضاء بنور القمر
مروج دمشقية، مرصعة الجنبات
بأزاهير مرصوفة واضحة
مصفوفة بامتداد إلى حيث تغفو المياه
نعم المكان، ونعم الزمان
ذلك العصر الذهبي المجيد
عصر الملك الصالح هارون الرشيد
النهر يهدر في خفة
ليصنع من موجه راحة
تحمل زورقي في هدوء تحف به أنجم زاهرة
وفي ليلة أعقبت ليلتي هذه
ليلة مقمرة إضحيان.. أتيت
هناك رأيت
أعمدة النخل تعبُّ الكثير من الماء
والشهد فيها أسير
والنخل باسقات تجاه السَّماء
كأنهن قباب من غصون خواء
نعم الزمان الذهبي المجيد
عصر هارون الرشيد
ومضيت أشق طريقي حتى بلغتُ قناة
مدورة كالبحيرة، صافية كالزلال
على شاطئها الأخضر، مثل الجمان
ينابيع تعزف ألحانها من خرير المياه
وهناك نافورة وسطى كبيرة
مررت من تحتها فرأيت الماء
كأقواس الكريستال
وكان إذ يخر كحزمة فضة
يهز الحصى والصوان تحت مقدمة الزورق
نعم المكان، ونعم الزمان
ذلك العصر الذهبي المجيد
عصر الصالح هارون الرشيد
ثم مررت بمنعطفات مفروشة بالعرائش
ولمحت أصدافًا من كل شكل ولون
مبثوثة في الضفتين،
وعلى الجانبين
تفوح عطور زهور الشرق من الورد والياسمين
من مزهريات مزخرفة مرصوفة بعناية وجرار نحاس
والورد الأحمر منها تدلى كأجراس
نصفه مغمض ونصف مفتح الوجنتين
وزهور تيجانها مستديرة، من شذاها يعبق الجو في كل وقت وحين
إنه العصر الذهبي المجيد
عصر هارون الرشيد
ثمَّ من بعيد لاح بستان ليمون
تأتيك قبل الوصول إليه نسائمه في الدجى
وتسمع صوت البلابل صادحة بالغنا
لكنه ليس غناء البلابل، إنما
هو ما تحجبه ظلمة الليل والسكون
من بهجة وحب خالد وحياة وردى
دون كبت ، دون قيد،
كلها مع بعض تكون
لا زمان يحدها، لا مكان، سوى أنها تتغنى
بذلك العصر الذهبي المجيد
عصر الخليفة الصالح هارون الرشيد
حديقة مدهامة الأفنان والأغصان
ساكنة تنام في أمان
والنخل في الأعالي شامخ منتظم الصف في استواء
كأنه ضد رياح الصيف في عداء
وفجأة هبت من الخلف علينا ومضة
طارت بها
كل نصف ذهبية ونصف خضراء
من أوراق الشجر
في سرعة تطوف في الهواء تدور حول بعضها
في كل دورة لها يظهر منها لون
ثم تستقر في وجه البحيرة
كأنها نثر من الجمان
داكن ولامع في آن
إنه عصر مجيد
عصر هارون الرشيد
من فوقي السماء ما أوسعها، زرقاء غامقة
تزخر بالنُّجوم الزَّاهرات اللامعة
لكنها تبدو أشد عتمة مما أراه تحتها أمامي
لذا، بخفة من زورقي قفزت
تاركها تعوم.. مرساته الفضية
وهناك من عجب، لما أتاني النوم
شعرت بالجلال
يأخذ مني كل مأخذ
وغصت عند الشاطئ
في ذلك العشب الندي الناعم
وذبت في الزَّمان الذهبي والمكان
لذاك الرجل الصالح هارون الرشيد
ثم إلى حديقة أخرى دخلت
فكانت عالمًا من البهجة والسرور
حيث المروج والأكمام أينما نظرت
وارفة الظلال، يملؤها الهدوء والسكينة
ومثلها المدينة
وآجام كثيفة
من الطرفاء والمر وأشجار الأرز
تبعث الروائح العليلة
وشجيرات من الجوري بأشواك تقطر بالعطور
وشجيرات شرقية طويلة
ومسلات حُفرت فيها سطور
عن مآثر ذلك العصر المجيد
للصالح هارون الرشيد
وفجأة، وسط ذهول العقل مما قد رأى
عبر ممر زانه ظل المشبكات رغم طوله
أمام ذلك البهو العظيم صرت
إنه بهو الخليفة
أبوابه من شجر الأرز
محفورة النقش، عندها وقفت
وتفتح الأبواب للداخل عن أرضية صقيلة
بعدها تأتيك أدراج الرخام الواسعة
بقوائم ذهبية حديثة الطراز
متعة للعين في ذاك الزمان الذهبي المجيد
للملك الصالح هارون الرشيد
ثمانون نافذة، كلها متماثلة
مضاءة من ألف ألف شمعة طويلة وقادة وشعلة
تحملها من فضة قواعد ملوية الأشكال
أضوائها تسخر من ظلام القاعة الوهادة المظللة
وضوئها يسري إلى حيث القباب العالية المنعزلة
ليعم بغداد،
ويبدو لك في السقف بعض مئات من أهلة
كأنها ولدت حديثًا تلكم الليلة
لتحتفي بالعصر الذهبي المجيد
عصر الرجل الصالح هارون الرشيد
ثم انسللت للأعلى،
فكان مما يسلب اللب ويجلب الهوى
أن وقعت عيني على جارية حسناء فارسية
مصقولة الترائب، جفونها فضية
رموشها أشعة حيكت من الدجى
جبينها كدرة،
من شعرها المفتل الفاحم ينبع الشذى
ينساب حتى ثوبها الوردي مثل زهرة
هي أجمل النساء في زمانها أكيد
تليق بذلك العصر المجيد
للملك الصالح هارون الرشيد
وعلى الجانبين أعمدة من فضَّة خالصة
في كلِّ جانب منها ثلاثة، من بينها تدلى
عرش عظيم من معادن نفيسة
تكسوه طيات عديدة من أفخر القماش والحرير
مطرز بالورد والذَّهب
رأيته هناك، عيناه تبعث السُّرور في المكان
فيهما تبسم يوحي بهيبة الملوك
من بين كل ما رأيت كان
كالشمس، أجمل ما في ذلك المكان والزمان
رأيته في ملكه الذهبي المجيد
أنه الخليفة الصالح هارون الرشيد