حين قرأت حائط المبكى قلت: الآن!!!
الآن أدركَ طريقه، وعرفَ مقصده، وأوضح سبيله في الكتابة، وقد سألتُ نفسي وأنا أقرأ الكتاب ما جنس هذا الفن من القول، أهذا كتاب فكر أم كتاب أدب؟ أهو جمع مقالات، أم فنٌّ جديدٌ في أدبِ المقالة؟ أم هو كتابٌ ينتمي إلى الكتابة الشَّذرية؟ هل هو على نسقِ خواطر صاحب كتاب النواة، أم على نسق كلمة وكليمة كما هو عند الرَّافعي؟
وحين أتممتُ الكتاب لم أجد إلى تصنيفه من حاجة، فهو كتاب أدب، أودع صاحبه فيه المقالة والشذرة، والكلمة والكليمة، فحين يستفتح قوله في بعض مقالاته أو شذراته تمني نفسك بمقالة طويلة يحدوك في ذلك مقدمةٌ تبعث الأفكار وتحرك الأخيلة، فإذا به يقف بها في برزخ من فنون القول، ففنه هنا أكبر من الشذرة ودون المقالة، وهذا منهج سارت عليه كثير من موضوعات الكتاب.
ومما يؤخذ عليه في سلوك هذا المسلك أنه ضنين حين يكتب فإني حين أقرأ مقاله أجد شيئًا في خلد الكاتب لم يقله; ومرد ذلك فيما أحسب أن الكاتب لا يلتفت لشيء من طرائق البيان من حيث المذهب الفني وطرائق التعبير والتصاوير الذهنية والأخيلة النافرة، فالكاتب يبدع في بيان خواطره النفسية فيعرضها دون تزويق أو توضيب فلا يلتفت لتوليد معاني الذهن وصور الحس المؤيدة لخواطره ولا يهتم بالألفاظ الجزلة المعبرة عنها وهو في هذا يوشك أن يكون صاحب مذهب خاص في الكتابة وإن كان يخوض غمار الكتابة وينافس كبار الكتبة معتدًا بخواطره مقتصرًا على تأملاته.
وما يعيبه هنا سرعة تخلصه وعدم استرساله فيشعر القارئ أن فيما يقوله مزيد قول، فالاختصار والتعجل في إنهاء المقال منقصة لهذا المذهب في الكتابة، ومما أخشاه على الكاتب أن يصير هذا المسلك في الكتابة له مذهبًا فيما سيكتبه قابل الأيام، فيند قلمه ويقصر بيانه فيأبى الاسترسال والاستطراد – الذي أراه مزية بيانية ينمق المعنى ويجعله في حلية من القول يفرق بها الكلام العالي عن العادي- ما يجعله يلجأ أحيانًا لنقل كلام آخرين؛ برهنة على صحة خواطره، وسلامة معانيه، فيكون ذلك منقصة لا تليق بأي كاتب.
“إن الأوراق التي نفرغُ فيها لهيب الأقلام، هي الحائط التي نبكي فيه آلامنا المتشظية، وأشواقنا الملتهبة، وتفاصيل الوجع وأصوات النحيب، ورجع الصدى، وآمالنا المختبئة في تباريح الظلام، وفي زواياه نبكي الراحلين عنا، من تدثروا بالغياب، وآثروا البينَ خلف جدران النأي، أو تحت التراب”
“مرت بي لحظات تقطرُ ألمًا؛ ففررتُ منها للقراءة والقلم، ولا أذكر أني قرأت في حياتي أكثرُ مما قرأت في تلك الأيام القاسية، ولا أذكرُ أني كتبت أجمل مما كتبته تلك الأيام” .
“الآلام هي الباعث على إخراج المكنون، هي اليدُ التي تهز جذع الخواطر، فتُسقط حروفًا ملتهبة، هي الوقود الذي يشعل الإبداع المدفون في ركام النفس، تحمل القلم على البوح؛ ليقترن التاريخُ بالمسطور بزفرة الآلام”. “الألم مداد الحياة والخلود، ووقود الإبداع الخالد المتشبث بذاكرة الجمال” .
يبدع الكاتب في حكاية قصة الوجع متكئًا على حائط من جمال الكلمة وسحر البيان، فقد كتب الكاتب الدموع والآلام، فأبكى الحرف وأشجى الكلمة، فأبرز خفايا النفوس، واستثار دفائن الأحزان، وفي الكتاب فصولٌ ماتعة يتنازعها البكاء الشجي، والحديث عن الكتابة، والنظرة الاجتماعية المصلحة، يحسن الكاتب فيها إبراز الحياة كما هي في قالب حكائي جميل يغلب عليه الحزن، وتظهر فيه عاطفة الكاتب لحظة الانفعال بالموقف أو الحادثة، وإن جنح الكاتب إلى تيسير اللغة، ورغب عن تعقيدات الألفاظ والتراكيب؛ إلا أنه يمتاز بقوة الفن والقدرة البارعة على استلهام الأفكار مما اعتاده الناس مع حدة في الذهن ظاهرة.
“إن اللحظات التي يبكي فيها الإنسان كثيرة، لكن التي تبقى، تلك التي تترك أثرًا في تاريخه، وما ذكرته شيء من كثير، فلقد بكيت أوجاع أمتنا، وبكيت يوم بكى الرجال سقوط أوطاننا المتتابعة، فلا بأس إذًا أن نبكي، فليس ثمة عيب في البكاء”
“أنقذني الكتاب من ظروف الحياة المؤلمة وصروفها، لم يسلمني للجنون والسخط والتذمر الذي تستدعيه تلك الظروف التي حلَّت بوطنٍ منكوب لا يعرف للعيش الكريم معنى”
فقد جعل الكاتب من نفسه أداة خلق أدبي عجيب فمقاله مرآة نفسه وتذكار أمسه وصورة من صور الحياة التي لا يأبه لها كثيرون فيعمل فيها قلمه فيصورها آية من آيات الجمال ومثالًا من أمثلة الإعجاز والتفرد ولعمري إن هذا لهو الأديب فإن لم يكن هذا أدب فليس في الدنيا أدب.
“إن الواقع حائطُ مبكى، والفضاء الواسع الذي نفر إليه، تحوَّل لأكبر حائطٍ من حوائط المبكى، لو ألفيتَ نظرة لرأيت الحوائط تحملُ الموت، والنعي، والرحيل، والحروب القذرة… وبتنا بينَ الواقع والخيال نستلهم البقاء والحضور من حوائط المبكى التي نجد فيها الحضور والبقاء”
فلهذا الكاتب في وقائع الحياة مرعى خصيب يستلهم منها مادته يؤب منها كيف يشاء، ويستلهم منها أدبًا يعبر عن الناس تراه سهلًا في عبارته يمكن لأي أحد أن يسبك مثله غير أنه لو حاول ذلك لوجد دونه خرط القتاد، فأدبه معجون بأفراحه وأتراحه مصوغ من تجاربه لم يكتب على منوال أحد، فالأدب صورة الحياة ومتى تجاوز به أحد عن هذه المنزلة صار مسخ كلمات وصورة فكرة مشوهة لا يدري أحد مبتداها من منتهاها.
وأسلوبه أبعد ما يكون عن التكلف، بل إن مقاله ابن زمنه وربيب لغة عامية تفصحت تلحظ في كتاباته نفس الشاعر وروح الملهم، وهو الطائر الحزين، تعجب حين يبكيك من حيث لا تحسب ففي كتاباته مسحة حزن غريبة، ففي مقالات كتابه بواكي حرب ومرثيات وطن، وليت الكاتب التزم عنوانه، وراوح موضوعات كتابه بين غواية الكلمة ولظى الحزن الممض، يحكي المأساة والألم، ويبكي الحياة والناس؛ إذًا لكان الكتاب مبكية اليمن الكبرى، ومرثاة النثر الأولى.
وفي الكتاب نجد تناسق الأفكار وانتظام الخواطر في سلك، وإن لم يتسق الأسلوب، لاختلاف أوقات الكتابة فيما يظهر لي، فليس في الكتاب فرادة ولا عبقرية أسلوبية لكنه مرهف الحس مع قدرة فريدة على التعبير عن ضمير الناس وبعد واضح عن مواطن الاشتباك، وفيه من جميل الأساليب الوضوح والروح الشاعرية مع حسن الصياغة وجمال الديباجة وحسن التوظيف وحسن التخلص أحيانًا، وهذا ما يجعل مقاله ذا مكانة سامية تبشر بأديب ذي شأن.
وقد اطلعت على مسودة كتاب للكاتب سينشره قريبًا، وبعد قراءتي لجميع إصدارته سواءً مجموعته القصصية اغتيال الربيع أو كتابه سطوة البيان؛ أقول هذا كاتب يملك أزمة البيان وناصية الحرف، يتقن حرفة الكتابة، وهو بها زعيم، وقد وجدت أن ثمة فرق بين ما أنتجه في مجموعة الربيع وما سطره هنا في هذا الحائط ففي كتاباته تطور واضح، في اللغة والأسلوب، ففيه مزية -يخشى نقيضها جميع الكتبة، وإني أعرف كتابًا لا يقرأون إلا فرارًا من ذلك- بأنه لا يكرر نفسه فهو يبتدر آفاقًا جديدة، ويفترع معاني في مواضيع لم يلتفت لها كثيرون، فهو في كل كتاب نمط مختلف، ونسق خاص، يأخذ لهذا الأمر عدته من جميل الألفاظ ورائق المعاني، مع الحفاظ على السمات المشتركة في كل ما كتب، فمسحة الحزن وسطوة الخواطر النفسية وأسلوب اللغة السهل الممتنع وحضور ذاتية الكاتب، صفات جامعة لجميع ما كتبه.
وإن سألت، أي نوع من الكتاب هو؟ هل هو الكاتب المتمرد الذي يأتي على الأمر من قواعده فيعمل فيه مشرط الكتابة ومبضع المصلح، فيعلن للناس ثورة في الكلمات وعنفًا بين الجمل، أم هو الكاتب الموادع المسالم الذي ينفر من كل قضية فيها إشكال، أو كل موضوع فيه محل لتوارد الخواطر واختلاف الآراء؟
أقول: هو كل ما ذكرت، فإن كان يبتعد عن مواطن الاشتباك، مستلهمًا من تهامة سلميتها، فهو ابن طينة تهامة الطيبة، لكنه ثائرٌ بطبعه متمرد بفطرته، يظهر هذا في اختيار العناوين، وفي اختلاف نظره للقضايا والحوادث عن نظر جميع الناس، فهو شديد النكير على أي نقيضة نفسية أو منقصة اجتماعية أو فكرية.
وأكثر ما آلمني موقف القراء والأدباء من أهل اليمن مع هذا الكتاب، فالترحيب أو التعقيب والثناء أو النقد كل ذلك كان من دولٍ عربية ليس من بينها اليمن، وكأني بنا لا نقرأ، أو نقرأ قراءة عابر متعجلٍ لا يلقي بالًا لما قرأ، فهذا الكتاب ابن مرحلة يمنية، وصنيع مرحلة ثقافية في اليمن أوشكت على الاختمار فاقرأوه بحق وصدق، واعطوه حقه من الدراسة والنقد، فهذا الكتاب فاتحة قول أدبي وثقافي في بلادنا، فسيكون لنا بعد حين أدباء مرتقبين يصنعون لليمن مكانتها التي تستحق في مجال الفكر والأدب، فمن لم يقرأ قرائح العقول اليوم بعين المستشرف آل أمره إلى تيه وضياع، فيا أيها المارون؛ قفوا! هنا شذرة تهامية، خطَّها مداد الألم، وحروف كساها الحزن شيئًا من صفته فأبت أن تنفك عنه.. هنا روح من حياة الغريب، هنا أديب يصنع أدبًا لم تعهدوه، ويشق طريقًا لم تألفوه، يكتب بمداد الألم، ويبعث في حروفه روح الحياة، يكتب للناس وبالناس، فهذا حائطه فاستندوا إليه، فلكم به حياة أدبية ستؤتي ثمارها بعد حين.
وخلاصة القول:
إننا إن استثنينا “اغتيال الرَّبيع”، وبحثنا عن خالد بريه في حائط مبكاه سنجد فيه المحاولة الجادة له في باب الأدب العالي، وإن طمعنا منه أن لا يتركنا في معمعة القول، يقول فلا يحجم، ويسترسل فلا يوجز، وإن رأى الناس أن الإيجاز سمة عصرية، فهو في حق الأديب منقصة، وخاصة حين يشعر القارئ أن للكاتب قولًا لم يقله، وأن الفكرة لم تُعطَ حقها من العناية والتعبير، فوصيتنا للكاتب أن يقول مضمرات فكره، ويحكي تصاوير فنه، فيولي اهتمامًا للتصاوير الحسية والمعاني الذهنية، مع الانغماس في بلاغة الجملة وفرادة الكلمة، وأن يسترسل في ذلك ما استطاع، فذلك باب نضوج وتمكن، فرسم خوالج النفس والشعور، وكتابة الانفعالات الإنسانية يحتاج صبرًا وأناةً مع دقة ووضوح وإن كان هذا طريق صعب، لكنه باب الكمال الأدبي للأدب الذي قرأناه بإعجاب في هذا الحائط.
فإن من كتب هذا الحائط لو أعطى لخواطره حقها بأناة وتأمل، وأسبغ عليها من قوة فنه وبديع تصاويره، مع جزالة اللغة ووضوح الأسلوب، مستندًا في ذلك إلى الكتابة بمداد الحياة ونبض الفؤاد، مع الانعتاق من تأثير الأدب المصري والشامي أو الأدب الغربي، والكتابة عن اليمن ومأساتها فإنه سيكون من أفضل أدباء الأمة اليمنية بلا منازع، وهذا طريق جدُ عسير، لكنه جدير بالمسير والدأب في المحاولة.
ما اجمل قراءتك بش مهندس خليل , قراءة نقدية شاملة فيها الذوق والفن والارشاد والتشجيع .
بالتوفيق لك استاذنا القدير خليل السلمي والاستاذ مؤلف الكتاب