للحديث عن الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ مذاقٌ خاصٌّ لدى كُلِّ مَنْ عَرَفَ هذا الأستاذَ الْجليلَ مِنْ كَثَب، وبخاصَّةٍ أولئك الشُّبَّانُ الذين تَحَلَّقوا حوله، وهو يحاضرُهم في الدِّراسات اللُّغويَّة والقرآنيَّة.
ما الَّذي تَعَلَّمْتُه مِنَ الدُّكتور تركستانيّ؟
أذكر اليومَ ذلك الأمس البعيدَ، وكأنَّه يلوحُ واضحًا ساطِعًا في ناظِرَيَّ!
شَرُفْتُ، عام 1406هـ = 1986م، بالتَّلمذة له، والأخْذ عنه، وأدركْتُ، حينئذٍ، معنَى أنْ تُنْصِتَ إلى عالِمٍ هو، في الوقتِ نَفْسِهِ، أستاذُك.. كُنْتُ حديثَ العهدِ بالْجامِعة، دَهِشًا، مُوَزَّعَ الفِكْر.. كان كُلُّ ما يُحيطُ بي جديدًا فَتِيًّا، ولا أزال، على طُولِ العهد، أستعيدُ تلك الأيَّامَ مِنْ عُمْري.. كان العُمْرُ في طراءتِهِ، والقلبُ أخضرَ..
دَخَلَ الأستاذُ الْجليلُ حُجْرَةَ الدَّرس، حَيِيًّا مُضيئًا. بَدَأَنا بالسَّلام، وتَلَطَّفَ في حديثِهِ معنا، وشَدَّني إليه، أوَّلَ لقاءٍ به، منطقٌ في القولِ فصيحٌ، مَشُوبٌ بلكنةٍ مَكِّيَّةٍ حبيبةٍ لا تُخْطِئُها الأذن.
– دَرْسُنا هذا الفصل هو فقه اللُّغة!
هكذا قال! ثُمَّ أخرجَ مِنْ حقيبتِه أوراقًا، وأَعْلَمَنا أنَّ علينا أنْ نُدَوِّنَ في دفاترنا مَصَادِرَ ومَراجِعَ مختارةً في فقه اللُّغة!
داخَلَني إحساسٌ، حينئذٍ، أنَّ أستاذَنا سيُمْلي علينا مَرَاجِعَ ذوات عددٍ، وإذا بنا نملأ صفحتين أوْ ثلاثَ صفحاتٍ، كُلُّهُنَّ، مِنَ الأَلِفِ إلى الياء، مصادرُ قديمةٌ ومراجعُ حديثةٌ!
وسأُنْبِئُكَ بشيءٍ: كان كُلُّ شيءٍ جديدًا وغريبًا؛ الدَّرْسُ والأستاذُ والدَّهَشُ الذي استولَى علينا، ونحن نرمي بأبصارِنا إلى الأستاذ، ونرفعُ أسماعَنا إليه، ونُقَيِّدُ عنواناتِ الكُتُب وأسماءَ المؤلِّفين الأعلام.
وفي تلك الأثناء، وبينما الأستاذ يُمْلِي علينا عنواناتِ الكُتُب وأسماءَ المؤلِّفين = انتهَى إلى سمعي أصواتُ نفرٍ مِنْ زملائي الْجُدُد الذين لمْ أعرفْهم بَعْدُ = فيها شيءٌ مِنَ الضِّيقِ والتَّمَلْمُل، لعلَّ مصدرَه هذا القَدْرُ الكبيرُ مِنَ الكُتُب، وكأنَّ الأستاذَ – غفر الله له – يحسبُنا مُفَرَّغِين له ولدَرْسِه، دُونَ بقيَّة الأساتذة والدُّرُوس!
تَبَسَّمَ أستاذُنا الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ! وطَمْأَنَنا، وقال: لا تثريبَ عليكم؛ فغايتي أن تُحيطوا، شيئًا مَّا، بهذا الدَّرْس، وأن يَصِلَكُمْ بتُراثِكُمْ، وليس شرطًا أنْ ترجِعوا إلى كُلِّ هذه المصادر والمراجع، لكنَّكم ستحتاجون إلى الاستعانة بطائفةٍ مِنْها، حِينَ تُحَضِّرُون دُرُوسَكم، وحِين أُكَلِّفُكم البحثَ في هذه المسألة أوْ تلك، وأنا لا أشُكُّ في أنَّكم ستُحِبُّون فقه اللُّغة، وستُقْبِلُونَ على الكُتُب الأُمَّهات إقبالَكُمْ على الكُتُب الْحديثة، ولا يُداخِلْكُمْ إحساسٌ بأنَّكم إزاءَ دَرْسٍ مُمِلٍّ.. لا! إنَّ فقه اللُّغة – كما ستعلمون قريبًا – دَرسٌ حبيبٌ لطيف!
أَتَمَّ أستاذُنا دَرْسَه الأوَّلَ، ووَدَّعَنا بالسَّلام، ونَهَضْنا، وقدْ بلغَ بنا الدَّهَشُ مبلغَه، وكأنَّما شيءٌ تَسَرَّبَ إلى أفئدتِنا.. حقًّا أستاذُ المُقَرَّرِ جادٌّ، مَهِيبٌ، لكنَّه – على كُلِّ حالٍ – طيِّبُ القلب! في عينيه ما يَدُلُّ على طبيعةٍ هادئةٍ وكرمِ نَفْس، لكنْ أعانَنا اللهُ على دُرُوسِه!
أمَّا أنا فعالَمٌ طَرِيٌّ جديدٌ يتجلَّى لي في الْجامِعة التي أحببْتُها، وفي القِسْمِ الذي اخترتُه، وكأنَّما قَرْنٌ مِنَ القُرُونِ الأولى عادَ مَرَّةً أخرى، بِلُغَتِهِ، وأسماءِ أهلِه، وأزيائِهم، وها أنذا أراهُم وكأنَّني أعرفُهُمْ منذ زمنٍ بعيد! أنا الطَّالِب القادم مِنَ الثَّانويَّة التِّجاريَّة، وكأنَّ ما قرأتُه، مِنْ قَبْلُ، في كِتاب جواهر الأدب في أدبيَّات وإنشاء لُغَة العرب يُغادِرُ صفحات ذلك الكِتاب العتيق، ويَجْمَعُني بتلك الصَّفوة المباركة مِنْ عُلَماءِ أُمَّتي، وحَسْبي، أنا التَّائه في غابة المعرفة، أنِ اهتديْتُ إلى طريقٍ كُلُّ ما فيه يَضُوعُ بهذه النَّسائِم التي يَبْلُغُني شذاها مِنْ هذه اللُّغة العربيَّة الشَّريفة!
اليوم! وأنا أستعيدُ ماضيًا وَلَّى، وشبابًا ذَهَب = أحمدُ الله – تبارك وتعالَى – أنْ ساقَني إلى ما قَدَّرَهُ لي، وهلْ مِنْ نِعْمةٍ تَعْلُو على ما قُدِّرَ لي؟ أنْ أختلِفَ إلى قِسْم اللُّغة العربيَّة في شبابِهِ وشبابي، وأنْ أَجْلِسَ مجلسَ التِّلميذِ مِنْ أساتذةٍ هُمُ الصَّفوةُ عِلْمًا، وأخلاقًا، وأدبَ نَفْس، وأنْ أفوزَ بالاستماعِ إلى أستاذي العالِم الْجليل الأستاذ الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ، في عامٍ واحدٍ مَرَّتين؛ مَرَّةً في دَرْسِ فقه اللُّغة، وأخرى في دَرْسِ عُلُوم القرآن!
نَعَمْ، لقدْ كان فوزًا عظيمًا، ولوْ أرجأْتُ الاختلافَ إلى دُرُوسِه لَفاتَني خيرٌ كثير؛ فأستاذُنا كان، في تلك المُدَّة، مُعارًا إلى جامِعة الملك عبد العزيز، وآنَ له أن يَرْجِعَ إلى الْجامِعة الإسلاميَّة بالمدينة النَّبويَّة المنوَّرة، فثَمَّ عَمَلُه وطُلَّابُه!
أَقْبَلْتُ على الدَّرسين وأحببتُهما. وسأقولُ لكَ شيئًا: كانتْ دُرُوس أستاذِنا التُّركستانيّ في فقه اللُّغة وعُلُوم القرآن مِنَ النَّمَطِ العالي؛ ذلك النَّمَطِ الذي لا نلقاهُ إلا عند الصَّفوةِ المختارةِ مِنَ العُلماء! وإنَّ دُرُوسَه التي أرادَ بها طُلَّابَ “الإجازةِ الْجامِعيَّة” – البكالوريوس – = تَفُوقُ ما يتلقَّاهُ طُلَّابُ الدِّراسات العُلْيا العربيَّة في كثيرٍ مِنَ الْجامِعات!
أرادَ أستاذُنا، على ما تَخَيَّلَهُ وطَمَحَ إليه؛ أن يَكُونَ مِنَّا العالِمُ والباحثُ! ولْأَقُلْ: أرادَ أنْ نُحِبَّ اللُّغةَ العربيَّةَ، أنْ نَذُوقَ أساليبَها، ونستجليَ عبقريَّتَها، أنْ نُشْبِعَ فقهَها جَسًّا ولَمْسًا، وهذا مطمحٌ لا يبلغُه إلا العاشقُ المُتَيَّم!
لكنَّ دُرُوسَ فقه اللُّغة وعُلُوم القرآن لا يؤدِّيها الْحُبُّ، وحَسْبُ! إنَّها مُكابَدةٌ ومَشَقَّةٌ يُحِسُّهُما الطَّالبُ ويَذُوقُ ما فيهما مِنْ حلاوةٍ ولَذَاذة!
نَعَمْ، كان أستاذُنا حَيِيًّا هادئًا، لكنَّه كان يأخذُنا بالتَّعَبِ والْجِدِّ والسَّهَر؛ فكُلُّ دَرْسٍ نَحْضُرُهُ نستعينُ عليه بالقراءةِ الواسعة! أَلَمْ يُمْلِ علينا، في الدَّرسين، مَصادرَهما ومَراجِعهما؟ إذنْ علينا – أوْ على الطَّامِحِينَ مِنَّا، أداءُ ما يستحقُّه كُلُّ دَرْسٍ مِنْ تحضيرٍ لمفرداتِه ومَسائلِه، ثُمَّ علينا أنْ نُعِدَّ هذا الدَّرْسَ إعدادًا ذِهنيًّا، فإذا تَمَّ لنا ذلك، تَبارَيْنا في الكتابة، كُلٌّ على قَدْرِ ما قَرَأَ واستوعبَ، وإذا كُلُّ طالبٍ مِنَّا يكتبُ ورقةً عِلميَّةً لكُلِّ دَرْسٍ، فعادَ علينا ذلك بألوانٍ مِّنَ النَّفْع، وكأنَّما أرادَنا أستاذُنا باحثينَ لا طُلَّابًا = فإذا أتممْنا ما نَهَدْنا إليه، عادَ علينا أستاذُنا بالتَّصويبِ والتَّصحيحِ والتَّكمْلة والإضافة، ثُمَّ ينتهي الدَّرس، حتَّى إذا كان الدَّرْسُ المُقْبِلُ انفرَدَ أستاذُنا بالدَّرْسِ كُلِّه، وإذا بنا – نحن الذين قَرَأْنا واستعدَدْنا وأَعَدَّ كُلُّ طالبٍ مِنَّا ورقةً = نَسْمَعُ كلامًا جديدًا جليلًا؛ كلامًا أُدِّيَ إلينا خيرَ أداء؛ كلامًا كأنَّما سَمِعْناهُ أوَّلَ مَرَّة. والْحَقُّ أنَّنا ما سَمِعْنا مثيلًا له مِنْ قَبْلُ!
وطالما قُلْتُ لبعضِ الصَّديق: إنَّ ما تَلَقَّيْتُه في دَرْسَيْ فقه اللُّغة وعُلُوم القرآن = فيه الكفايةُ وزيادةٌ لوْ وَقَفْتُ عند حُدُودِ دُرُوس أستاذي الْجليل!
لكنَّ تلك الدُّرُوسَ عَمِلَتْ عَمَلَها في عقلي ووجداني، فأنشأْتُ، منذ ذلك العهد، أقرأُ في فقه اللُّغة، على تَعَدُّدِ أبوابِه وتَنَوُّعِها، وألتمِسُ الكُتُبَ التي عُنِيَ أصحابُها بدَرْسِ القرآن الكريم دراسةً لُغويَّةً؛ وحَسْبي أنْ زَيَّنَتْ لي دُرُوسُ أستاذِنا الاستزادةَ مِنْها، واتَّصَلَتْ أسبابي بهذا اللَّون الطَّريف مِنْ كُتُب اللُّغة في تراثنا.
وكأنَّما داخَلَني إحساسٌ بأنَّ في دراستي الْجامِعيَّة نَقْصًا، لا سبيلَ إلى تتميمِه إلا بالانصراف إلى القراءة التي تُكْمِلُه وتُتِمُّه؛ وأنا أُعِيدُ حماستي لهذا اللَّون مِنَ القراءةِ، وإقبالي عليها = إلى دُرُوس الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ، فإذا رأيتَني أَمِيلُ إلى أُمَّهات الكُتُب اللُّغويَّة في تُراثِنا = وإذا أَلْفَيْتَني أُعْنَى بسلامة اللُّغةِ وصِحَّتِها = فَرُدَّ ذلك إلى مبلغِ تأثير أستاذي فِيَّ!
قرأْتُ، بفضل الله، كثيرًا في فقه اللُّغة، ولَذَّ لي تَدَبُّرُ الكُتُبِ التي تَصِلُ عُلُومَ الشَّريعةِ بعُلُومِ اللُّغة، لكنَّني لَبِثْتُ زمنًا طويلًا أُكابِدُ مَشَقَّةَ تلك العُلُوم، وكُلَّما مَضَيْتُ في عُلُوم العربيَّة، وبخاصَّةٍ أُصُولُ النَّحو والبلاغة وأُصُول اللُّغة = أَسْخَطُ على التَّعليم الْجامِعيِّ الْحديث، فكيف لطالبٍ – وأنا ذلك الطَّالب! – أن يتخرَّجَ في قِسْم اللُّغة العربيَّة وآدابِها = وصِلَتُه بالعُلُوم الشَّرعيَّة مبتوتة؟! ومتى فُرِّقَ بين عِلْمِ العربيَّة وعُلُوم الشَّريعة؟! أَلَمْ يَكُنِ اللُّغويُّون والنَّحويُّون والبلاغيُّون فقهاءً وقُرَّاءً ومُحَدِّثِين ومتكلِّمِين؟
على أنَّ ما لا يُدْرَكُ كُلُّه لا يُتْرَكُ جُلُّه، والْحمدُ لله؛ فقدْ أَصَبْتُ مِنْ تلك العُلُوم على قَدْرِ ما يُعِينُني على فَهْمِ مسائلَ في اللُّغة والنَّحو والبلاغة، وأسألُ اللهَ – تبارك وتعالَى – أن يُيَسِّرَ لي ذلك، ويَفْتَحَ لي مغاليقَ تلك العُلُوم!
ولَعَلَّ مَبْعَثَ هذا الشُّعُور بالنَّقْص في تعليمِنا الْجامِعيّ = هو دُرُوسُ أستاذِنا الْجليل. كانتْ دُرُوسُه لها تَعَلُّقٌ بالعُلُوم الشَّرعيَّة، نلقَى ذلك في فقه اللُّغة، لكنَّه أَشَدُّ ظُهُورًا في دَرْسِ عُلُوم القرآن، وكأنَّما كان دَرْسًا غريبًا، أوَّلَ اتِّصالي به، فما لَنا وعُلُوم القرآن؟! هكذا قُلْتُ، وهكذا قَدَّرْتُ. لكنَّ شيئًا مَّا كان يدفعُني إلى هذا الدَّرْس، وهو أستاذُنا الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ! أَلَمْ نَتَلَقَّ عليه دُرُوسًا في فقه اللُّغة كأَتَمِّ ما يُحَصِّلُه طالبٌ متقدِّمٌ في عُلُوم العربيَّة؟ أَوَلَمْ نَذُقْ حلاوةَ التُّراث ولَذَّةَ اللُّغة؟ إذنْ لا بأسَ في أن يَشُقَّ علينا أستاذُنا في دَرْسٍ آخَرَ! بلْ ليتَ لنا معه دُرُوسًا أخرى! فليس ذلك بكثيرٍ، ولن يُتاحَ لنا هذا الْجِدُّ وذلك التَّعَبُ إلَّا في دُرُوسِه ومُحاضراتِه!
ها نحن هؤلاءِ في دَرْسِ عُلُوم القرآن. عَرَفْنا أستاذَنا مِنْ قَبْلُ وعَرَفَنا، أدركْنا أنَّ له شخصيَّةً تُبَايِنُ ما عَهِدْناه في نَفَرٍ مِنْ أساتذتِنا الذين مَررْنا بدُرُوسِهم؛ فأساتذتُنا، ومِنْهم مَنْ كان رأسًا في صنعتِه وفَنِّه = كانوا يأخذوننا باللِّينِ وأستاذُنا الدُّكتور محمَّد يعقوب يأخذُنا بالْجِدِّ والتَّعَب، وعلينا أنْ نتذكَّرَ ما أحسبُه منهجَه؛ أن يُعِدَّ للمستقبَل باحثين مقتدِرِينَ في عُلُوم العربيَّة، في فقه اللُّغة، كما مَرَّ بنا مِنْ قَبْلُ، وفي عُلُوم القرآن.
سأُعِيدُ ما قُلْتُهُ قبلَ حِين؛ فالأستاذُ الْجليلُ الذي تَضَلَّعَ مِنْ عُلُوم العربيَّة والإسلام = كأنَّما وَطَّنَ نَفْسَه على أن يُؤَدِّيَ إلينا – نحن الطُّلَّابَ – خُلاصةَ ما انتهَى إليه، فكان دَرْسُ عُلُوم القرآن، بالقياسِ إلينا، شيئًا مختلِفًا، طَوَّفَ بنا في مُقَدِّماتِه وأُسُسِهِ، فلمَّا استتَبَّ لنا منهجُه وَصَلَ هذا العِلْمَ باللُّغة، فإذا ما ظُنَّ غريبًا يصبح سائغًا، وإذا بنا نُدْرِكُ تلك الوشيجةَ التي قامَتْ عليها عُلُومُنا، لا فَرْقَ بين عِلْم العربيَّة وعُلُوم القرآن إلَّا لدَى الضَّعَفَةِ مِنَ الباحثين والدَّارسين.
ما اختلَفَ أسلوبُ أستاذِنا وإنِ اختلَفَ الموضوع، واستبانَ لي أمرٌ ما أدركتُه عند اختلافي إلى دَرْسِ عُلُوم القرآن، وأدركتُه الآنَ؛ فدَرْسُ فقه اللُّغة، على جلالَتِهِ، كأنَّما هو مقدِّمةٌ لدَرْسِ عُلُوم القرآن؛ ذاك بمنزلةِ “النَّظريَّة”، وهذا بمنزلةِ “التَّطبيق”، ويكفي أن يأخُذَنا أستاذُنا إلى صميمِ الدِّراسةِ اللُّغويَّةِ القرآنيَّة، وأستطيعُ أنْ أُقَدِّرَ، مَرَّةً أخرى، مرتبةَ ما تلقَّيْناه، وأُنْزِلَها منزلةً تربو على ما تلقَّاه طلبةُ الدِّراسات العربيَّة العالية؛ فالقراءاتُ، وآياتُ الأحكامِ لا سبيلَ إلى فَهْمِها دُونَ عِلْم العربيَّة، كان أستاذُنا يُطْنِبُ في الدَّرْس، ولا أزالُ، على بُعْدِ العهد، أتذكَّرُ كلامًا بعيدَ الغَوْرِ أَدَّاهُ إلينا في البِنْيَةِ، والنَّحْوِ، والدِّلالة، حتَّى إذا أَتْمَمْنا الدَّرْسَ وأَحْسَنَّا التَّهدِّي إليه = غادرْناه – وغادرْنا أستاذَنا – بعد أنِ اطمأَنَّ على غَرْسِ يديه، وقَفَلَ راجِعًا إلى الْجامِعة الإسلاميَّة بالمدينة النَّبويَّة المنوَّرة.
أَقِفُ الآنَ قُبَالَةَ كُتُبِ عُلُوم اللُّغة في خِزَانةِ كُتُبي، أستعيدُ ذكرَى كُلِّ كِتاب، ويَعود بي الزَّمنُ إلى أيَّام الطَّلب في الْجامِعة، وإلى دَرْسَيْن أثيرَيْن؛ فقه اللُّغة وعُلُوم القرآن.
أتذكَّرُ عُمْرًا مضَى وشبابًا وَلَّى، وأساتذةً ورِفاقًا، وصُعُودًا وهُبُوطًا، وأستعيدُ دُرُوسَ أستاذي العَلَّامة الْجليل الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ = وأَحْمَدُ اللهَ – تبارك وتعالَى – أنْ أكرمَني بالتَّلمذةِ له، والْجُلُوسِ إليه، وأنْ أتأثَّرَ به، وأقتفِيَ خُطَاه، وأَمُدُّ يدي إلى كِتابٍ في أحكام القرآن، وآخَرَ في إعرابِه، وأَشْتَمُّ عَبَقَ كِتابٍ لُذْتُ به في القراءات القرآنيَّة، وأتذكَّرُ أيَّامًا ولياليَ قَضَيْتُها في صُحْبة كُتُبٍ حبيبةٍ قريبةٍ في الدَّرْس اللُّغويِّ القرآنيّ لعبده الرَّاجحيّ، وعبد الصَّبور شاهين، وعبد العال سالم مَكْرَم، وأستعيدُ ذلك التَّوَلُّعَ الذي استولَى عَلَيَّ حِينًا مِنَ الزَّمنِ = بهذا الضَّرْبِ مِنَ الكُتُب، وأقول: ما كان ذلك لِيَكُونَ لولا فضلُ اللهِ عَلَيَّ، ثُمَّ دُرُوسُ أستاذي العَلَّامةِ الْجليل الدُّكتور محمَّد يعقوب تركستانيّ!
جُدَّة في غُرَّة شهر ذي القعدة سنة 1444هـ