طفل يولد يتيم الأب ولا يكمل طفولته إلا وقد أصبح يتيم الأم، لا يبلغ أشده إلا وقد رحلَ عنه جده، يعيش في كنف عمه عيشًا بعيدًا عن نمطِ عيش قبيلته، منشغلًا عن الشعر والنَّسب بالتِّجارة ورعي الأغنام، في الخامس والعشرين من عمره يتزوج وفي الأربعين بُعِثَ رسولًا ونبيًّا، أربعة عقود من حياته خالية من تربية الملوك وتهيئتهم، ومن الحروب وصولاتها وجولاتها، فلا هو أمير حرب ولا هو سيد ذو مكانة، أربعة عقود خالية من أي علامة تنبأ أنَّ العقد الخامس والسَّادس من عمر هذا الرجل سيغير مجرى التَّاريخ حتى قيام السَّاعة، فتى من قريش اسمه محمد، شبَّ وبلغَ أشدّه واستوى في كنف حيٍّ من أحياء مكَّة، سنحاول تتبع الآيات التي أيّدت بشرية هذه الشَّخصية – شخصية محمَّد – التي روّعتها إرهاصات الوحي وتكاليف الرسالة والنُّبوة.
مقدمات تأسيسية، وقصص تأييدية
جاء القرآن بأسلوبٍ سردي ثوري جديد لم ولن تألفه البشرية على الإطلاق، فلا يكاد يتحدث بموضوع إلا وقد قدَّم له بمقدمات تأسيسية راسخة، تعيد تشكيل وعي البشرية وعوالمها وتصلها بتاريخها الغابر، وتعيد تشكيل هويتها ومعرفتها بطبيعة الإله والكون والإنسان والحياة، ثمَّ يدخل في المراد من بشارات ونذر، حقوق وواجبات، أوامر ونواهي، قصص ومواعظ، سنن كونية وقوانين إلهية، كفواتح الكهف والنَّحل والإسراء وغيرها من السور الكثيرة ، منها سورة النمل التي ابتدأت بست آيات تأسيسية تعيد تشكيل خريطة النبي محمَّد الذهنية وتسبر أغوار نفسيته البشرية لتزيل منها القلق والمخاوف وتنميها بالشجاعة والصبر والإقدام، وتوعيها بطبائع البشر والمجتمعات ، فالآية الأولى والثانية تبين طبيعة هذا الكتاب الجديد وماهيّته ومن باستطاعته الاستفادة منه (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين) والآية الثالثة تبين صفات هؤلاء المستفيدين وأعمالهم التي استحقوا بها تلك الاستفادة (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون)، والآية الرابعة والخامسة تكشف حقائق اجتماعية ونفسية وغيبية عن طبيعة الإنسان واختياراته وتحمله نتائجها (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون)، ثم يؤسس بالآية السادسة – بأسلوبٍ عذب – مدخلًا للقصة التأييدية لنفسية محمد الخائفة والقلقة (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)، ثم بدأت الآية السابعة بقياس قصة موسى – بجانب جبل طور سيناء – قبل إرهاصات نبوته، كالتي تعرض لها محمد في غار حراء بمكة، واستشعر أيها القارئ نفسية محمد – الذي هو (بشر مثلكم) ) لا الذي ( يوحى إليّ ) – وهو يتلقى الوحي من جبريل الذي سيخبره بما حدث لموسى في دعوته، تفكر في ربط محمَّد الآيات بأحداث حياته (إِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، موسى يسير مع أهله من مدين إلى مصر وهو موسى البشر كما محمد البشر الذي عنده أهل زوجه خديجه، ثم تَتَتَبّع نفسية محمد تفاصيل قصة موسى البشر مع الوحي حيث يقول لأهله )إني ءانست نارًا سآتيكم منها بخبر) فيذهب موسى إليها وتحدث له إرهاصات الوحي للمرة الأولى كما حدثت لمحمد في غار حراء، ونفسية محمد تقارن بين ما حدث لها ويحدث لموسى ليخطوا على آثاره ويدلل لنا خطواته بمقولاته: “رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر”، ) إذًا شخصية محمد ونفسيته تتبع الوحي المؤيد لها تتبع الملهوف لعظمة القصد ومشقة الطريق وشدة الحاجة، يربط محمد حواره مع جبريل (اقرأ ! ما أنا بقارئ -إلى قوله (اقرأ باسم ربك الذي خلق) بحوار الله لموسى مع العصا واليد ( يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) وتأمل كلمة بورك في قوله ( بورك من في النار ومن حولها ) وأثرها على نفسية محمد التي تتعرض لإرهاصات جديدة عليها بعدما بلغت أربعين سنة، يتتبع محمد مراد الإله الذي اختاره مبعوثًا للعالمين ، يتأمل محمد في وصايا وحقائق الوحي في ذلك الحوار الذي حدث وسط إرهاصات الوحي، (يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون)، فيحصل لمحمد الذي وُكّل بمهمة جديدة نوع من الارتياح، ثمَّ تؤكد الوصايا بشرية الأنبياء والرسل لتخفف عنهم وطأة بعثتهم )إلا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم) وهكذا تتواصل الآيات ويتواصل معها ربط محمد أحداث حياته بها فيربط آياته التي بعث بها بالـ (تسع آيات إلى فرعون وقومه) ويستشرف حقيقة ما يراه في قومه بقوم موسى(إنهم كانوا قومًا فاسقين) ويرى تشابه الادعاءات بين قوم موسى وقومه قريش(هذا سحر مبين)، وأخيرًا يستجلي الظواهر الاجتماعية (وجحدوا بها)، والحقائق النفسية (واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا) فانظر يا موسى ولتنظر يا محمد بالضرورة (كيف كان عاقبة المفسدين)، ثم يكمل القرآن هذا النهج في توزيع قصص الرجال الذين أوحى الله إليهم بالنبوات والرسالات، بحسب الحاجة المؤيدة لنفسية محمد حتى يذهب عنها الذهل والروع واليأس ويعيد تشكيل هويتها بعوالم جديدة عليها؛ عوالم رجال من أمثالها أصبحوا أنبياء ورسلا، في تفاصيل شبيهة تمكن شخصية محمَّد من الاستفادة من تجربتها والقياس عليها، فلا تجد قصة من القصص إلا وتجد نفسية محمد ورائها، من هول المهمة والمسؤولية الملقاة على عاتقها مقابل مجتمعه الذي تنكّر له وسفهه وحاربه وضيَّقَ عليه.
إننا بحاجة إلى إعادة قراءة سيرة نبينا محمد قراءة جديدة نستشرف من خلالها شخصيته ونسبر أغوار نفسيته، إننا بحاجة إلى التعرف على النبي محمد بثنائية البشر والرسول حتى نكمل الفجوات النَّاقصة من سيرته التي لم تدون وتصل إلينا لطبيعة السياق الذي دونت فيه المغازي والسير، فواقعنا بحاجة إلى شخصيات جذرية تتشبع من سير العظماء وتقتدي بآثارهم وتنهج مناهجهم، إننا بحاجة إلى قوالب سردية أكثر حيوية وتفاعلية لإعادة سرد السيرة النبوية من منظور جديد تشبع حاجتنا المعرفية لشخصية نبينا محمد ﷺ الرجل الذي لم تشهد البشرية مثله مثيل، نحن بحاجة إلى أن نتتبع شخصيته حتى نفهمها ونمشي على خطاها، ونخبر العالم والإنسان المعاصر من هو محمد. فكما يقول راما كريشنا راو في كتابه “محمد النبي”: لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا .