7 دقائق
الحقيقة والوهم في الإصلاح الديني (3-8)
لأسباب عدة بدأت حركات الإصلاح المسيحية الحديثة بالظهور قبل نهاية العصور الوسطى وبالتحديد في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. فحركة الإصلاح الديني المسيحي في زمن مارتن لوثر التي صارت تعرف بالبروتستانتية؛ في الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي 1517م؛ لم تكن الوحيدة من نوعها ولا الأولى في زمنها.. بل ولا الأولى في تاريخ الديانة المسيحية ففي أكثر من بلد كاثوليكي عرف القرنان الميلاديان الرابع عشر والخامس عشر السابقان على زمن حركة لوثر دعوات إلى الإصلاح المسيحي سبقت حركة لوثر، بل كان بعضها أكثر جذرية من حركة لوثر لولا ظروف طارئة أثرت سلبا عليها كما حدث مع دعوة إصلاحية مسيحية في بريطانيا أفشلتها حرب أهلية مريرة. (1)
1- انغماس البابوات وكبار رجال الدين المسيحيين في الملذات والترف والأبهة عن طريق بيع الوظائف الدينية بغض النظر عن المؤهلات والشروط الأخلاقية ففسدت طبقة رجال الدين وملأهم الجشع، وأهملوا أداء واجباتهم الدينية، وانصرفوا لخدمة الأمراء والاشتغال بالأمور السياسية. وانتشر في المقابل الجهل والجمود بين طائفة صغار رجال الدين وعاشوا بلا نظام ولا مباديء أخلاقية.
2- الإسراف في جباية الأموال من قبل رجال الدين عبر بيع صكوك الغفران وبيع الوظائف الدينية وشراء العفو عن المجرمين.
3- انتشار الفساد الاخلاقي في الهيئات الدينية، وكان مشهورا عن بعض البابوات اتخاذ العشيقات وإنجاب أولاد غير شرعيين.
على الرغم من المرتبة المتقدمة التي نالها مارتن لوثر في تاريخ الإصلاح المسيحي إلا أنه لم يكن كما سلف الأول في سلسلة دعاة الإصلاح الديني ولا الوحيد في زمانه ولا أكثرهم جذرية في ثورته فقد سبقه مباشرة وعاصره عدد من الشخصيات الدينية المسيحية البارزة التي أبلت بلاء كبيرا في ثورة الإصلاح المسيحي، ونجح بعضهم في تأسيس كيانات سلطوية جسدت أفكارهم بأكثر مما حدث للوثر نفسه. ولأهمية الدور الذي قام به هؤلاء نسرد أبرز المعلومات عن أبرز دعاة الإصلاح مع شيء من أفكارهم وأعمالهم الإصلاحية.
كان من رجال الدين المتحمسين لإصلاح الكنيسة في إنجلترا، وكان يرى أن سبب معظم أخطاء الكنيسة هو الإثراء والحصول على السلطة الزمنية وانهماك رجال الدين في متاع الدنيا من جني للأموال بطرق غير مشروعة والتمتع بالشهوات المحرمة، داعيا إلى اتباع قانون أخلاقي شديد صارم، مؤكدا أن الكتاب المقدس يخلو تمام من الإشارة لحق البابا في الحصول على الضرائب السنوية المعروفة بالانيتس (Annates)، وإرسالها إلى البابا في روما، وداعيا إلى رفض طاعة البابوية، واعترض على أملاك الكنيسة ورجال الدين، وترجم الإنجيل إلى اللغة الإنجليزية فكانت أول ترجمة للغة أوربية قومية أتاحت للعامة قراءة الإنجيل وفهمه دون الحاجة إلى وسيط من رجال الدين المسيحي المحتكرين له.
ومن أبرز أفكاره:
– دعا إلى العودة من الكنيسة إلى ما جاء في الكتاب المقدس، ومن حرية الإرادة إلى الجبرية، والانصراف عما يوصي به رجال الكنيسة لأن أيديهم ملوثة بالدماء والحرام.
– إن النجاة يكون عن طريق العمل الصالح رافضا فكرة صكوك الغفران كوسيلة للنجاة، والاعتراف السري للقسيس، ووساطة القسس بين الله وعباده، وعقيدة تجسد المسيح ودمه أثناء تناول الخبز والماء على يد الكهنة (أي أن الخبز والماء يتحولان إلى شيء من جسد المسيح وإلى شيء من دمه).
– عدم القدرة البشرية على معرفة إرادة الله.
– كل شيء معد سلفا وموجود مسبقا في العقل الإلهي نفسه.
– النص المقدس هو أساس الدين وليس تفسيرات الكهنة.
– التأكيد على سلطة الملوك الدنيوية وأنها تقوم مقام الحق الإلهي.
– اعترض على امتلاك الكنيسة ورجال الدين الأموال والأراضي.
كان تلميذا ل(ويكلف)، وكان لهما السبق في الدعوة إلى الإصلاح قبل لوثر، ونجح (هس) في نقل دعوة الإصلاح إلى بوهيميا التشيكية، وبشر بها في شجاعة وإصرار، ولم يجد رجال السلطة سبيلا إلى الخلاص منه إلا بقتله حرقا. اعترف له لوثر بالفضل، واتبع طريقهما في اعتبار الكتاب المقدس هو المصدر الأول للعقيدة.
ومن أبرز أفكاره:
– إصلاح الكنيسة بتخليصها من ممارسات الأكليروس الديني.
– نفى إمكانية شراء الخلاص ( الغفران) بتنفيذ ما تطلبه الكنيسة من أعمال أو مال.
– مراسيم البابا لا تستحق الطاعة إلا إذا توافقت مع الكتاب المقدس وشريعة المسيح اللذين يخلصان الإنسان.
– اعتراف المؤمن بقلبه وتوبته في سره يكفيان.
ثالث ثلاثة سبقوا لوثر، خلف ويكلف وهس في الدعوة إلى إصلاح الكنيسة. اشتد سخطه على سلوك رجال الدين وما ينشرون بين المسيحيين من آراء دفعتهم إلى طريق الضلال وألوان من الرذائل والانحلال. حاول لورنزو العظيم حاكم فلورنسا استمالته بكل الوسائل، وسعى للقائه ملحا في الرجاء لكنه لم ينجح إلا وهو على فراش الموت، وحينها طلب من سافو نارولا الغفران فوضع له ثلاثة شروط: [ طلب التوبة من الله- رد ما اغتصبه من أموال الشعب- منح الشعب الفلورنسي حريته] فرضخ لورنزو للشرطين الأوليين ورفض الشرط الأخير فتركه سافو نارولا دون أن يمنحه ما طلب من الغفران. وانتهز فرصة اضطراب أحوال البلاد بعد وفاة لورنزو وراح يبشر بدعوته إلى الإصلاح بحرية ويسر مناديا بالحكم الديمقراطي في فلورنسا، وخشي البابا عواقب ذلك فأغراه بمنصب الكاردينال لكنه رفض، ومضى يهاجم رجال الدين والبابا نفسه فدبر أمر الخلاص منه وأحرق مع اثنين من اتباعه 1498.
قام بشرح العهد القديم (التوراة) من الكتاب المقدس فأثار كثيرا من الجدل حين رأى الناس فيه كشفا عن عيوب الكنيسة وبدع رجالها.
ترجم الإنجيل إلى اللغة اللاتينية ثم كشف عن أخطاء الكنيسة وجهل القائمين بأمرها وراح يدعو المسيحيين إلى بساطة المسيحية الأولى وطهارتها.
ظهر في زيوريخ بسويسرا وهاجم علنا الرهبانية والمطهر والتوسل بالقديسين، ودعا إلى حظر الصور في الكنائس وكان أنصاره يحطمون التماثيل في الكنائس، وطالب بزواج الكهنة، وعارض منع أكل اللحوم في فترة صيام الفصح. وأكد رمزية قداس المناولة، وأن لا وجود حقيقي لجسد المسيح ودمه، وأفتى بمصادرة أملاك الكنيسة وأديرتها وتحويلها إلى وظائف دنيوية مثل المشافي، وملاجيء العجزة، وخدمة الفقراء، والمدارس الدينية.
ظهر في سويسرا، وعام 1536 أصدر كتاب (قواعد المسيحية) أو مباديء الدين المسيحي، واتفق مع كثير من رجال الإصلاح وخاصة لوثر على أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للعقيدة، وأن الإيمان هو سبيل الخلاص.
– رأى أن تزيين قدس الأقداس خاصة والكنيسة عامة بنشر الصور وإقامة الدمى والتماثيل التي تصور الذات الإلهية والأنبياء دعوى منكرة وأنها تقود إلى عبادة الأصنام.
– حرم الرقص والتمثيل والغناء على المرأة وشكل في جنيف مجلسا دينيا للرقابة على السلوك والفضيلة، وشدد الرقابة على أماكن اللهو ومشارب الخمور وفرض أشد العقوبات على المخالفين والمنحرفين والخارجين. وقد تأثرت الكنيسة الإنجليزية بمباديء كالفن ولوثر معا ونتج عن ذلك عقيدة الكنيسة الإنجيلكانية أي المأخوذة من إنجيلية لوثر ومباديء كالفن.
من أهم مؤسسي الكنيسة المشيخية (إحدى طوائف البروتستانتية) في إسكتلندا، بشر ضد القداس الكاثوليكي بوصفه بدعة وعبادة أصنام.
أستاذ اللاهوت في الجامعة وأوسع دعاة الإصلاح الديني المسيحي شهرة ونفوذا رغم أنه لم يكن الأول في هذا المضمار. واجه كنيسة روما والبابا بنفسه في معركته ضد الأخطاء التي تمارسها الكنيسة ورجال الدين المسيحي، وقد ارتبطت حركة الإصلاح باسمه وكان أول من استخدم كلمة (الإصلاح)، ونجح في ألمانيا نجاحا كبيرا بسبب الظروف السياسية والتاريخية في عصره وخاصة نشوء الأفكار القومية وسيادة الدول التي كانت قد بدأت رياحها تهب على أوربا وشجعت الأمراء ومواطنيه الألمان الكارهين لهيمنة كنيسة روما على المسيحية وألمانيا وضرورة الاستقلال عنها. وقد تبنى الأمراء وحكام الأقاليم الراغبين في الاستقلال عن سلطة الإمبراطور (رغم شكليتها) أفكار لوثر وتمرده على روما ودعموا مطالبه. ويمكن القول إن مطالب لوثر كانت تعبيرا عن مظالم الأمة الألمانية كما ساعد اختراع المطبعة على ذيوع أفكار لوثر وانتشارها بدرجة واسعة جدا في أوربا.
بدأ لوثر ثورته برفض طلب بعض الرعية المسيحيين أن يشهد لهم بفاعلية صكوك الغفران فاستفز الراهب الدومينيكاني (جوهان تينزل) المكلف من البابا ببيع صكوك الغفران فتوعد مارتن، وانتشرت آراء لوثر المعارضة لممارسة البابا والكنيسة وقل الإقبال على صكوك الغفران، وتلقى تهديدا من بعض رجال الدين واقترح أحدهم حرقه على السارية واتهمه نائب مدير جامعة (أنجولشتادت) بنشر السم البوهيمي (هرطقات هس) وتقويض النظام الأكليروسي بأسره.
مثل مارتن أمام لجنة بأمر البابا (ليو) ليجيب عن التهم الموجهة إليه بالهرطقة والخروج عن النظام، وطولب بسحب أقواله والتعهد بألا يعكر صفو الكنيسة، ووضعت أمامه إغراءات بصفح كامل ومناصب في المستقبل في حالة تراجعه عن آرائه لكن اللقاء لم ينجح وتمسك مارتن بموقفه مستندا إلى جواز أمان من الإمبراطور شارل الخامس، وساد المرحلة الأولى من دعوته جو من الأخذ والرد مع البابا إلى درجة أن كتب مارتن إلى البابا يعلن خضوعه التام لكنه لم يستجب لطلب البابا بالحضور إلى روما والإدلاء باعترافه.
وفي ربيع 1520 نشر لوثر موجزا بملاحظات عنيفة، وقابل التطرف بالتطرف، ومما قاله: (.. وإذا كنا نقضي على اللصوص بالمشانق، ونضرب أعناق الناهبين بالسيوف، ونلقي بالهراطقة في النار؛ فلماذا لا نهاجم أيضا بالأسلحة أساتذة الدمار هؤلاء.. أعني هؤلاء الكرادلة وهؤلاء البابوات، وكل هذه البالوعة من سدوم الرومانية التي أفسدت كنيسة الرب بلا حدود، ونغسل أيدينا بدمائهم؟). وفي يونيه أصدر البابا ليو نشرة أدان فيها واحدا وأربعين بيانا للوثر، وأمر بأن تحرق علنا مؤلفاته، وأنذره بأن يتراجع عن أخطائه، وأن يعود إلى حظيرة الدين.. وفي المقابل أعلن لوثر نهاية عهد التسامح بنشر أول كتاب من الكتيبات الثلاثة (خطاب مفتوح) التي كونت برنامج الثورة الدينية.
وتوالى إصدار الكتيبات التي تتضمن انتقادات لوثر لمفاسد البابا والكنيسة، وحضر محاكمة أمام الإمبراطور والسلطة النيابية والكنيسة ووافق على طلبهم بسحب أي فقرة من كتبه ولكن إذا ثبت أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس مؤكدا أنه مالم تدنه آية من الكتاب المقدس أو حجة واضحة فإن ضميره أسير لكلمة الله!
وانتشرت آراء لوثر بين الناس انتشارا قويا، وكسب إعجابهم بمواقفه القوية ضد السلطة والكنيسة، وهاجم أتباعه من الطلبة والفلاحين وأصحاب الحرف مقار الأبرشيات وهدموها وأتلفوا مكتبات ومحفوظات وقتلوا عالما في الإنسانيات، وانضم رهبان إلى لوثر وهجروا أديرتهم وراحوا يبشرون بالعقيدة اللوثرية منددين بالكنسية بوصفها أم الجمود والترف والهرطقة، وبدأ رهبان بتنفيذ أفكار لوثر في الطقوس الدينية في تناول القربان المقدس بأخذ الخبز بأيديهم والشرب من كأس القداس، وزواج الرهبان، وإقامة القداس باللغة الألمانية باللباس المدني.
ومن أبرز أفكاره:
– استنكار فساد البابوية والمحكمة البابوية والحكم على روما بأنها مدينة منحلة أخلاقيا، وأن البابا عدو المسيح.
– كل ما يعارض الكتاب المقدس مرفوض ويجب أن يكون الوعظ طبقا للكتاب المقدس.
– إن الإيمان هو وحده لا الأعمال (الخيرية) هي التي تخلق المسيحي الصادق وتخلصه من عذاب النار.
– كل مسيحي مؤمن (معمّد) يعد قسا يحق له أن يقوم بالخدمات الدينية.
– تناول المؤمنين القربان المقدس يكون بأخذ الخبز بأيديهم والشرب من كأس القداس مباشرة وليس بواسطة الكاهن.
– السماح بزواج الرهبان، وإباحة الطلاق.
– أداء القداس باللغة الألمانية.
– قام بترجمة الإنجيل إلى الألمانية.
(1)- انظر: المختصر في تاريخ أوربا الحديث من مطلع القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، د. زينب عصمت راشد، ص118، ط3، 1981+ مختصر قصة الحضارة، ج3، ص 188+ بشارة، ص238، ج2م1. حركة الإصلاح البروتستانتي: (لوثر، زونجلي، كالفن)، د. سامي الشيخ محمد، مصدر سابق.
(2)- انظر المختصر في تاريخ أوروبا، ص116+ مختصر قصة الحضارة، ج3 ص259+ بشارة ج2م1 ص245+ حركة الإصلاح البروتستانتي د. سامي الشيخ.
(3)- انظر قصة الإصلاح الديني في أوربا وتطوراتها في: مختصر قصة الحضارة، ول ديورانت، ص259 ج 3.. وفي المختصر في تاريخ أوربا الحديث من مطلع القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، ص116-118.. وفي: الدين والعلمانية في سياق تاريخي، د. عزمي بشارة، ج2، م1، ص237-238، ويكيبديا: مارتن لوثر.