أجدني شغوفاً بمطالعة كتب التاريخ اليمني؛ لما أجد في ثَنَايَاهَا من متعة وسلوة، وبين سطورها من عبرة وعظة، تقرع وجدان القلب مني، وأحدث نفسي عندها قائلاً: “حزين يتسلى بحــزين”!
لذا كنتُ وما زلتُ أضاعف جهدي لمواصلة القراءة، والاطلاع على كتب التاريخ والتراجم التي تتناول بلاد اليمن وعلمائها منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا.
ومن الشخصيات التاريخية اليمنية التي استهوتني ووقفت عندها متأملاً، شيخ مؤرخي اليمن “عمر بن علي بن سمرة الجعدي” (ت:٥٨7 هـ)، وكتابه “طبقات فقهاء اليمن” فقد مكثت في مطالعته أيامًا وفي تصفحه لياليَ؛ لما أجد فيه من عبق الماضي وأصالة الحاضر، ولمحات تاريخية على الأحداث التي لا يُستغنى عنها لمن أراد معرفة تاريخ اليمن وعلماءه، وهي كما قال الأكوع: “بمثابة الشَّذرات الذهبية في القلائد المنظمة بنفائس الأعلاق، وكالجواهر اليتيمة في العقد الفريد، بحيث لا توجد في غيرها مما قد عثرنا عليه من تواريخنا، ويا ليته زودنا من معلوماته القيمة والبالغة في الثقة والدقة والأهمية والمكانة القصوى”(1).
فـــإليك أيها القارئ نبذة مختصرة عن ابن سمرة الجعدي وكتابه، وهذا جَده المقل، وزاد المُستَقِل لما يجب على الباحثين والدارسين تجاه تراثنا العتيق، ومعلوم أنه قد كان فيه من المحاسن الحسنة في أخبار الدنيا في الجاهلية والإسلام وسائر مكارم الأخلاق.
أولًا: التعريف به.
هو: عُمَر بْن عَليْ بن سَمُرَة الجَعْدي(2) من مؤرخي القرن السادس الهجري، فقيه شافعي ولد سنة (547ه) في قرية أنامر من قرى العوادر(3) شرقي الجند، نشأ بها، وتعلم القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدينة الجند وكانت حينئذ آهلة بالعلماء، فتفقه فيها على عدد من علمائها كعلي بن أحمد اليهاقري(ت558ه)، وزيد بن عبد الله الهمداني(ت570ه)، وسالم بن مهدي بن قحطان الأخضري(ت582ه)، وعثمان بن أسعد العمراني(ت577ه)، ثم تابع دراساته في الفقه، والحديث واللغة، فأخذ عن عدد آخر من العلماء كــعلي بن أبي بكر بن سالم (ت574ه)، وطاهر بن يحيى العمراني(ت587ه)، وسعيد بن أحمد بن إسماعيل المسكيني(ت588ه)، وأحمد بن عبد الله بن أبي سالم القريظي(ت584ه).
وفي سنة(580ه) تولى منصب القضاء في أبين(4) ولعله بقي في هذا المنصب حتى وفاته سنة (587ه).
ثانيًا: التعريف بكتابه الطبقات:
– وضع عُمَر بْن عَليْ بن سَمُرَة الجَعْدي كتاب: “طبقات فقهاء اليمن” تناول فيه تراجم علماء اليمن منذ بداية الإسلام إلى عصره أي إلى حدود سنة(587ه)، وقد اِهتم المؤلف بالترجمة لفقهاء الشَّافعية في اليمن الأسفل حيث كان مركزًا لدراسات الفقه الشَّافعي، وتكلم ابن سَمُرَة عن تاريخ المذهب الشافعي ودخوله اليمن وانتشاره فيها، وقد ترجم ابن سَمُرَة لعلماء من غير أهل اليمن؛ وذلك لصلتهم الوثيقة بعلماء اليمن، وبذلك تضمن كتابه تراجم مهمة لأعيان فقهاء الشَّافعية فيما بين القرنين الرابع والسَّادس.
– رتب ابن سَمُرَة كتابه على سبع طبقات مبتدئًا من عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عصره(5)، ثم ألحق بآخر الكتاب فصلاً في تراجم الفقهاء بحسب بلدانهم(6)، وهذه الطريقة لم يسلكها قبله أي مؤرخ يمني(7)، وقد اشتمل الكتاب على ما يقرب من (312) فصل، والعديد من العناوين.
– تعتبر تراجمه لمعاصريه من العلماء والفقهاء المادة الأساسية لكتابه، وهي لا تتوفر في أي كتاب آخر غيره، وتمثل جهوده الحقيقية المباشرة، لذا كان لكتابه قيمة ثمينة لدى المؤرخين الذين أعقبوه لما استقوه منه من مادة تاريخية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر المؤرخ الجندي الذي اعتمد على كتاب الجعدي بشكل رئيسي(8).
– كان هدف المؤلف في هذا الكتاب، أن يبين وجه اتصال الفقه برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مع ما يندرج فيه من ذكر تاريخ فقهاء اليمن وغيرهم(9).
ثالثًا: استحقاقه لقب (شيخ مؤرخي اليمن).
إنَّ ممن يقرأ في كتب العلماء المترجمين له يجدُ فيها ثناءً بالغًا عليه، ويستشفُ من ثنايا كلامهم، -عَلاوةً على أسبقيته- وفضلًا عن اعتمادهم عليه في نقولاتهم؛ دلالةً على استحقاقه لهذا اللقب وهو (شيخ مؤرخي اليمن) ومن الأمثلة المؤكدةِ على ذلك ما يلي:
– قال عنه علي بن الحسن الخزرجي(ت ٨١٢هـ): “هو أول من جمع طبقات الفقهاء من أهل اليمن، وأشار إلى لُمَعٍ من ذِكْرِ الولاة، والملوك، ومن ينخرط في سلكهم، ومهد القواعد، وقيد الشوارد، فهو السَّابق المجلي؛ والقاضي بهاء الدين التابع المصلي، وهو الذي أحرز قصب السَّبق والفخر، وفاز بعظيم الفضل والأجر، وإنما مشيت على إثره واعتمدت على تحقيقه ونظره”(10). – وقال عنه ابن الديبع الشيباني الذي ينقل عنه كثيرًا، في مقدمة كتابه “قرة العيون في أخبار اليمن الميمون”: أنه ذو السَّبق والابتداء فيمن ألف في تاريخ اليمن وفضائله(11).
– وقال الجندي: “واعلم أني أخذت أخبار المتقدمين غالبًا من أحد كتب ثلاثة، أكملها في ذكر العلماء وتواريخهم كتاب الفقيه أبي حفص عمر بن علي بن سمرة إذ ذكر غالب الفقهاء باليمن منذ ظهر به الإسلام إلى بضع وثمانين وخمسمئة”(12).
– بل إنَّ الجَنَدي اعتبره أساس كتابه “السلوك” وقال عن مؤلفه: “وَهُوَ شَيْخي فِي جمع هَذَا الْكتاب، وَلَوْلَا كِتَابه لم أهتد إِلَى تأليف مَا ألفتُ، وَلَقَد أبقى للفقهاء من أهل الْيمن ذكراً وَشرح لِذَوي الأفكار صَدراً”(13).
– ومما يبين مكانة ومنزلة ابن سمرة الجعدي، أن الجندي استفتح كتابه “السلوك” بحديث عنه حيث قال: “وهذا أوان الشروع في ذكر الذين تأخروا عن زمن ابن سمرة إذ يغلب على ظني أني قد أتيت على جميع من ذكره مع ما حصل وزيادة… ورأيت أن أستفتح من ألحقت، وأحببت أن أبدأ بذكره رحمة الله”(14).
– وقد حذا الجندي في ترتيب كتابه على طريقة الجعدي، وهذا ما ذكره السخاوي بقوله: “وللبهاء أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الجندي، كتاب “السلوك” رتبه على الطبقات، وأنه يعتمد في تراجم المتقدمين على كتاب الفقيه أبي حفص عمر بن علي بن سمرة في “فقهاء اليمن”(15).
وختامًا:
مما لا شكَّ فيه ولا ريب أنَّ ابن سمرة قد استطاع أن يبلغ بغيته في هذا الباب بعناية وتحقيق، ويعد أول من طرق بابه وسلك طريقه، فبجانب ما ذكر من تراجم أضاف الكثير من المعلومات التاريخية الهامة، وبخاصة في أحداث العصر الذي عاش فيه، مما لا يوجد عند غيره من المؤرخين، إلا من أخذ عنه أو نقل منه؛ ولذلك اشتمل كتابه على تراجم مهمَّة لفقهاء الشَّافعية في اليمن -الأسفل- فيما بين القرنين الرابع والسَّادس، ويتضح ذلك جليًّا من خلال النقاط التالي:
– يعد القاضي المؤرخ عمر بن علي بن سمرة الجعدي من المؤرخين القلائل في تلك الحقبة الزمنية. – يعتبر كتاب طبقات فقهاء اليمن من أقدم كتب التاريخ، ومن أهم المراجع لدى الباحثين والدارسين، وذو قيمة كبيرة لما استقوه من معلومات منه، ونهلوا من معينه.
– تعتبر منهجية الكتاب دليلًا ومرشدًا لمن جاء بعده، أمثال: الجندي، وغيره.
– وفي هذا الصدد أحث الباحثين على مزيدٍ من البحث والاطلاع في كتب التراث اليمني، وتسليط الضوء على تراجم علمائه، وإحياء ما كانوا عليه من الفضائل والمحاسن.
– هذا قليلٌ مِن كَثيرَ، وقطرةٌ من مَطرةٍ، ونُغْبةٌ من بحرٍ، فـــي بعث روح النشاط للقراءة، والمطالعة، والتأليف، والنشر، وإحياء التُّراث اليمني.
والحمد لله أولًا وأخيرًا، وصلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهوامش:
- ينظر: تحقيق مقدمة “كتاب السلوك”: (1/21)
- لقد تطرق لترجمته عدد من المؤرخين. ينظر: طبقات فقهاء اليمن: ابن سمرة، تحقيق: فؤاد سيد، (ص 3)، السلوك: الجندي، (1/ 466)، العطايا السنية: الأفضل العباس بن علي بن داود بن يوسف ابن عمر بن علي الرسولي، (ص 494)، طراز أعلام الزمن: الخزرجي، (3/ 1611)، تحفة الزمن: الأهدل، (1/ 379)، قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر: بامخرمة، (4/ 338)، تاريخ ثغر عدن: بامخرمة، (2/ 179)، هجر العلم: الأكوع، (1/ 119)، الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ ت الظفيري: السخاوي (ص442)، كسف الظنون: لحاجي خليفة، (2/1105)، سلم الوصول إلى طبقات الفحول: (2/ 419)، الأعلام للزركلي: (5/ 55)، معجم المؤلفين: كحالة، (7/ 299)، هدية العارفين: البغدادي، (1/ 785).
- العوادر: تقع شرقي الجند بمديرية ماوية، ولا تزال أثار وأطلال هذه القرية إلى يومنا هذا، والعوادر من السكاسك ثم من قبيلة يقال لهم الأعروق، ولهم بقية إلى يومنا هذا في بلد القَمَاعِرة من مديرية مَاوِيَة، وأعمال محافظة تعز في شرقيها. ينظر: معجم البلدان: ياقوت، (4/164)، معجم البلدان والقبائل: المقحفي، (2/1136)، مجموع بلدان اليمن: الحجري، (2/616).
- ينظر: طبقات فقهاء اليمن: ابن سمرة، (ص223).
- المرجع السابق: (ص142).
- ينظر: أمثلة ذلك، طبقات فقهاء اليمن: (ص220، 248).
- ينظر: حياة الأدب اليمني: الحبشي، (ص50).
- ينظر: طبقات فقهاء اليمن: ابن سمرة، مقدمة المحقق فؤاد سيد، (ص8).
- طبقات فقهاء اليمن: ابن سمرة، (ص74).
- العقد الفاخر: (3/1611، 1612).
- ينظر: (ص: 28)، تحقيق: محمد علي الأكوع، مكتبة الإرشاد، صنعاء، الطبعة: الأولى، سنة، 2006م.
- السلوك في طبقات العلماء والملوك: (1/ 67).
- السلوك في طبقات العلماء والملوك: (1/ 466).
- السلوك في طبقات العلماء والملوك: (1/ 466).
- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ ت الظفيري: السخاوي (ص442).