يتساءل البعض كُلَّما علَتْ وتيرةُ الأحداث على أرض فلسطين: هل قضيَّة فلسطين تخصُّني؟! وهل يجب أنْ أكون مُهتمًّا بها؟! بل قد يعرض فلانٌ رأيه قائلاً: فلنهتمَّ بأنفسنا، ولا نلتفت لشئون غيرنا –”غيرنا” هذه يقصد بها أرض فلسطين ومَن عليها-. وفي الآونة الأخيرة؛ ومع كثير من التغييرات التي يحاول البعض فرضها على الوعي الإسلاميّ بالإرهاب الفكريّ، بدأت هذه الأسئلة تخرج من حيِّز السؤال الاستفهاميّ -الذي يطلب إجابة بالفعل على سؤال-، إلى رأي مُباشر صريح يُطرح بمنهجيَّة خبيثة مُلحِّة لا تريد إجابةً؛ إنَّما تريد زرع الشَّكِّ في قلوب المُسلمين وضمائرهم، وزعزعة اليقين حول قضيَّة فلسطين، بل تمتدُّ بها الجُرأة إلى الشَّكِّ في “المسجد الأقصى” نفسه.
ولأنَّ الإسلام هو الحقُّ؛ لذا فقضاياه عادلة، وأفكاره مُستقيمة، ويحمل من القوَّة الفكريَّة ما يجعل حامِلِي لوائه لا يخشون طرح أيّ سؤال، بل يجدون الجواب الصريح عنها. وعلى كلا الطرحَيْنِ -حَسَن النِّيَّة، وصاحب الغرض الخبيث- ينبغي علينا في كلّ حين أنْ نُجيب عن الأسئلة المركزيَّة -مثل سؤال فلسطين-، لنُجدِّد من وعينا الحاليّ، ونواكب صناعة الوعي لدى الأجيال الجديدة، و”نُذكِّر أنفسنا”. والتذكير والذكرى من الأوامر التي حثَّ عليها الشارع الحكيم.
ولأنَّ هذه الإجابات عن الأسئلة وعن الشبهات يجب أنْ تكون نافعة مُفيدة؛ لذا يجب البُعد عن لغة الخطابة والتأثير، والاكتفاء بإجابات واضحة حاسمة في نقاط مُحدَّدة. حتى نستطيع أن ننفع بها أنفسنا -بإذن الله-، ونردّ بها على غيرنا. والحديث هنا دائر على فلسطين كلها، لا عن المسجد الأقصى -وهو يكمل الصورة للدعاة والعلماء الذين يقصرون الكلام عن فلسطين في أمر المسجد الأقصى-. وسأبدأ بذكر معنى عقديَّة قضيَّة فلسطين، ثمَّ شرح فكرة عقديَّة القضيَّة من ثلاثة مُرتَكَزات: الأرض نفسها، والعائشين على الأرض، وخصوصيَّة العدوّ المُحتلّ.
· ماذا تعني جملة أنَّ "فلسطين قضيَّة عقيدة"؟
نسمع كثيرًا أنَّ قضيَّة فلسطين قضيَّة عقيدة، وقد لا يدرك السامع المعنى من وراء ذلك. وتعني في أهمّ دلالاتها الآتي:
– أنَّ أصل ما يحدث من احتلال للأرض نبع من أصول عقديَّة عند اليهود. أهمُّ تلك الأصول أنَّ مسألة اجتماع اليهود في بقعة من الأرض هي فلسطين، ولمّ شملهم من بقاع الأرض كافَّة؛ كانت تحت تكييف عَقَدِيّ لعقيدة “الأرض الموعودة”؛ حيث ورد في “سِفر التكوين”، الإصحاح 15 “في ذلك اليوم قطع الرَّبُّ مع أبرام مِيثاقًا قائلًا: لنَسلِكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مِصرَ إلى النهر الكبير نهر الفُرات”. ويليه في الأهميَّة أنَّ اليهود يسعون لإقامة ما يُسمُّونه بـ”هيكل سُليمان” -أو لإعادة تشييده حسب تصوُّرهم- على أنقاض “المسجد الأقصى”.
2- يُشارك اليهود هذه “العقائدَ” طوائفُ من المسيحيين تعتقد أنَّ إتمام هذا الأمر هو استعجال لنزول المسيح مرَّةً أخرى على الأرض؛ فيما يُسمَّى بـ”عقيدة الألفيَّة الاسترجاعيَّة”. يقول عنها د/ عبد الوهاب المسيري: “يؤمن كثير من المسيحيين البروتستانت بأنَه حينما يعود المسيح المُخلِّص -الذي يُشار إليه بأنَّه المَلِك الألفيّ- سيحكم العالَم -باعتباره المَلِك المُقدَّس- هو والقدِّيسُون لمدة ألف عام يُشار إليها أحيانًا بأيام المسيح أو الألف السعيدة …. وكيما تبدأ الألف السعيدة؛ لا بُدَّ أنْ يتمَّ استرجاع اليهود إلى فلسطين تمهيدًا لمجيء المسيح” (الأكاذيب الصهيونيَّة، دار المعارف صـ85).
3- ونرى بأعيننا اليهود ماضِيْنَ في تنفيذ هذا المُعتَقَد كلَّ يوم؛ فها هُم قد أتوا إلى الأرض، واحتلُّوها، وأخرجونا منها، وكلَّ يوم يكتسبون جديدًا منها؛ ثمَّ ها هُم ماضون في أعمال الحفر والتنقيب عن الهيكل، ومُسارِعون في إقامته، وعاملون على هدم المسجد الأقصى -وكانت أخبار الحفر والتهديد تملأ الأخبار في التسعينيات وأوَّل الألفيَّة لمَنْ لمْ يسمع بها لحداثة سنِّه-؛ وها هُم مُطارِدُون للمُسلمين في كلّ أرض فلسطين، وخارجون عنها -باحتلالهم مجموع دول في 1967م-. مِمَّا يدلُّ على أنَّ المقصد ليس قطعة أرض بل هو مُحاربة المُسلمين بمجموعهم، والعقيدة الإسلاميَّة تصوُّرًا حاكِمًا مُهيمنًا مُعاديًا لمُعتقد اليهود.
4- ومن هنا نعلم أنَّ القضيَّة العقديَّة لا تُمثِّل “المسجد الأقصى” وحده -كما يتسابق المُتحدِّثون بلا رويَّة-، بل أمر القضيَّة العقديَّة هو فلسطين كلُّها. ولا شكَّ أنَّ تهديد المُعتقد الإسلاميّ، وتهديد مجموع المُسلمين هو خطر داخل في صُلب مُشكلات العقيدة الإسلاميَّة؛ لأنَّ المُسلمين هُم جماعة الحقّ القائمة في الدنيا بأمر الله، ومتى زالوا أو أصابهم الضررُ الماحِقُ كان هذا إزالةً لعقيدتهم؛سواءعلى أرض مُعيَّنة للمُسلمين -وهنا هي فلسطين-، أو في المجموع.
5- ويتمثَّل جزء ضخم من عَقَدِيَّة قضيَّة فلسطين في “المسجد الأقصى” والاعتداء عليه. وهذا الاعتداء ثابت راسخ يراه كلُّ أحد؛ يتمثَّل في محاولات هدمه المُباشرة، أو في الدفع بمأجورين لبذر الشكّ في أنَّ الأقصى في الإسلام ليس “الأقصى” الذي على أرض فلسطين، أو في الانتهاكات المُباشرة التي تحدث أسبوعيًّا، أو في كون المسجد تحت الاحتلال ومُسيَطَرًا عليه من قبل أعداء الإسلام. وإذا سأل أحد: ما الإشكال في المسجد الأقصى؟! إنَّه مسجد ككُلِّ المساجد؟! أقول: أوَّلًا الاعتداء على أيّ حَرَم إسلاميّ أمر مُوجِبٌ للدفع عنه والمُحاربة دونه؛ ثانيًا: المسجد الأقصى ليس كُكُلّ مسجد -كما سيأتي في بيان خاصّ- فإنَّ المسجد الأقصى من مَحلَّات ولاء الشَّارِع -الشَّارِع هو الله تعالى-، ومن مَحلَّات مُراعاته البالغة، ومن مَحلَّات ذِكره المباشر الصريح على سبيل الحث والأمر بالولاء الشعوريّ والإيمانيّ.
ويرتكز التصوُّر الأُصوليّ الإسلاميّ على أنَّ الشارع حكيم، وكلّ ما يأتي منه هو محلّ للاعتبار والحِكمة، وأنَّ شيئًا في كتابه أو في سُنَّة رسوله الصحيحة لمْ يأتِ عبثًا. هذه الركيزة الإسلاميَّة تُقال في مجال أبسط الأمور وأهونها. فما بالنا وقد نصَّ الشارع بالقول وقصَدَ بالفعل -كما سنرى- إلى تعظيم أمر هذا المسجد، وإنشاء مكانة له في نفوس المُسلمين، إلى درجة إلحاقه بالمسجد الحرام. ويدلُّ هذا الإلحاق على أنَّه من أبلغ مُعظَّمات الشرع. ولعلَّ القارئ يعلم أنَّ المُسلم مُطالب بإتيان الخير في أبسط مواضعه؛ فما الحال مع ما عدَّه الشارع من أعظم مَحلَّاته؟! .. ونضمُّ لهذا حتى تكتمل الصورة أنَّ استهداف المسجد الأقصى ليس للإضرار به وحسب، بل لإقامة تصوُّر ديانة أخرى وهذا أمر مُحارِب لعقيدة الإسلام وتصوُّرها.
هذا باختصار بالغ -وبالقطع هذا الموضوع وحده يُفرد بالتأليف- أهمُّ ما تدور عليه فكرة “عقديَّة قضيَّة فلسطين”.
· المُرتَكَز الأول: أرض فلسطين وخُصُوصيَّتها
ليس “المسجد الأقصى” -كما سبق- هو المُنشئ لعَقَديَّة فلسطين، بل هو أحد مُرتكزات القضيَّة. أقول هذا اعتمادًا على ما سبق، وكذلك على نصّ الشارع نفسه الذي ذكر أرض فلسطين واختصَّها ببركته. وهنا أؤكد على أنَّ اختصاص أرضٍ ما بالبركة من الشارع يجعلها هدفًا لعباده المُؤمنين به، كما أكرِّر أنَّ النصَّ من الشارع له حِكمة ودلالات، فهو ليس كنصّ العباد وقولهم.
· ذِكر أرض فلسطين من الله مَقرون بالبركة
وأرض فلسطين من أهمّ الأراضي، إنْ لمْ تكُن أهمَّها. لأنَّ عليها دارت قصصُ رُسُل الله بالإسلام واحدًا تلو الآخر، وكلُّ رُسُل الله دعوتهم واحدة تقول الآية: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) -النحل 36-. وأنوِّه إلى أنَّ هذه الأرض قد ذكرتها المصادر الإسلاميَّة -مثل صحيح البخاريّ- تحت اسم “الشام”، وأثبتها الكثير منهم بالهمزة “الشأم” (هذا لا ينفي أن كلمة الشام تضم فلسطين وما حولها). وقد ذُكرتْ مرَّات في كتاب الله تثبيتًا على أنَّها أرض البركة والخير من الله لعباده الصالحين الأتقياء القائمين بحقه، وحق تصوره الصحيح، وعبادته الصحيحة. ولا شك أن نص الشارع بمُباركة الأرض يوحي بوقوع التنافُس والقتال على نَيلها وحيازتها. وهذه بعض آيات تذكرها: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) -الأنبياء 81-، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) -الأنبياء 71-، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً) -سبأ 18-.
· ذِكر "المسجد الأقصى" بالتشريف والتعظيم
أمَّا عن “المسجد الأقصى” فأمره مُقسَّم -في نظري- إلى قسمَيْنِ: هو نصُّ الشارع على فضله، وفعل الشارع بجعله قبلةَ الأنبياء السابقين، وقِبلة النبيّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، ومَسرَاه إلى السماء، ومحلّ مُعجزة الله فيه. وتعاضُد النصّ القوليّ والفعل يُكمل التصوُّر عن المسجد، ويدلُّنا على الهدف منه.
وفي أوَّل النصَّ آية الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) -الإسراء 1-. ولعلَّ تدقيقًا في النصّ كفيل بعدم فوات أنَّ البركة لما “حول المسجد” أيْ أرض فلسطين، ويشير النصُّ إلى أنَّ سبب هذه البركة هو وجود المسجد بها -لأسباب ستراها في بيان أنَّه من العقيدة-.
ومن الأحاديث نجد في “صحيح البُخاريّ”؛ “كتاب أحاديث الأنبياء” سؤالَ “أبي ذرّ الغفاريّ” -رضي الله عنه-: “يا رسول الله؛ أيُّ مسجد وُضِع في الأرض أوَّل؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى”. وفي “كتاب تفسير القرآن” -حديث 4486- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- صلَّى إلى بيت المقدس ستَّةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا. ثمَّ بعدها تحوَّلت إلى “المسجد الحرام”. وفي الكتاب نفسه، في تفسير سورة “بني إسرائيل” -وهي سورة الإسراء- حديث يقول فيه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: “لمَّا كذَّبتني قريش قمتُ في الحِجر فجلَّى الله لي بيت المَقدس؛ فطفقتُ أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه”.
· اختصاصه بالقصد إليه بالسفر
ونجد في “صحيح البُخاريّ” بابًا مخصوصًا بالمسجد؛ “بابَ مسجد بيت المَقدس”. وفيه حديث: “ولا تشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي” .. ومعنى “لا تشدُّ الرحال” أيْ لا يُسافر ولا يُقصد بعينه إلا لها. وإنْ دلَّ هذا الأمر على شيء فيدلُّ على عِظَم قدرها، ومكانتها التي أشار الشارع إلى وجوب تمكُّنها من قلب كلّ مُسلم. غير أحاديث تنصُّ على فضل الصلاة فيه على غيره.
· المسجد الأقصى من عقيدة المُسلمين
وهنا نلحظ أنَّ المسجد الأقصى هو جُزء من عقيدة المُسلمين الرئيسيَّة. وذلك لأنَّه:
قِبلة الأمم السابقة من المسلمين الطائعين لله المُؤمنين به. وهنا أكرِّر أنَّ كلَّ المُؤمنين بالرُّسُل السابقة هُم مُسلمون في نظر العقيدة الإسلاميَّة، وأنَّ المُسلمين الحاليين هم امتداد لهُم. فالإله في الإسلام واحد أحد، وهو مُرسِل كلِّ الرُّسُل.
2- وهو قِبلة المسلمين قبل التغيير -كما رأينا في النصوص-. وهُنا نقف على معنى حتى نفهم؛ “استقبال القِبلة” هو توجُّه العبد لله -في المكان الذي أمره به-، والقِبلة نفسها هو محلّ هذا الاستقبال الذي أمر الشارع به. فتصوَّرْ أنَّ الله قد جعل هذا المسجد قِبلة المُؤمنين السابقين حتى سيِّدنا “محمد” -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وبهذا يكون المسجد محلًّا لأعظم مُقدَّسات المُسلمين. فليس أقدس من الموضع الذي اختاره الله لعباده لاستقبال القِبلة.
وأعضد هذا التشريف لمَحلَّ القِبلة -أيًّا كانت- بنهي النبيّ عن استقبال القِبلة في قضاء الحاجة، ويعني نهيُه هذا أنَّ مُجرَّد استقبال دون التعبُّد لا يكون إلا في الفعل الشريف فقط. فما بالنا بهذه القِبلة نفسها! ومدى حُرمتها وتعظيمها وتقديسها عند المُسلمين! .. كما لا يعني هذا الانتقال بالقِبلة إلى “المسجد الحرام” قطعَ صِلة المسلمين معه، بل تحويل المكان وبقاء التقديس والتعظيم.
· المُرتَكَز الثاني: مُسلِمُو فلسطين ووجوب نصرتهم
وهذا المُرتَكَز لا بُدَّ من إدراجه في باب “قضيَّة عَقَديَّة فلسطين”. فالأرض عليها أصحابها، وهُم مُسلمون كثيرون وقليل من غير المُسلمين. وسأضيفُ هنا -فوق حُرمةِ ترك المُسلمين في قتالٍ وحدَهُم، مع توفُّر القدرة على المدافعة عنهم- توجيهَ الشارع في هذا الأمر من خلال استدعاء مواقف للرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- تُشبه أو تماثل حالتنا هذه. وفعل النبيّ بأمر الله هو توجيه من الشارع.
· حُرمة دم المُسلم
حتى لا نطيل في الأمور المَحسومة؛ فمقطوعٌ به أنَّ الإسلام قد جعل أمَّة المُسلمين واحدة، وقد أقرَّ علاقة واحدة بين المُسلمين هي علاقة “الأُخُوَّة” من خلال النصّ عليها بالحصر: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) -الحجرات 10-. و”إنَّما” أداة حصر يبلغُك هذا درس اللغة العربيَّة؛ أيْ أنَّ الهيئة الوحيدة للمُسلمين هي الأخوَّة، عليها مدار العمل بينهم. وهذا التصوُّر لجماعة المُسلمين من الشارع هو أمرٌ منه بأنْ يتعامل كلُّ مُسلم مع أخيه المُسلم على هذا الأساس، وتنبيه على أنَّ الخروج عن هذا الأمر هو عصيان لأمر الشارع.
ويُقوِّي هذا المعنى عشراتُ الأحاديث نذكر واحدًا يجمع الأمر: “المُسلم أخو المُسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله … كلُّ المُسلم على المُسلم حرام؛ دَمُه، ومالُه، وعِرضُه”. وفي هذا الحديث -وفي غيره- أمر الله بالدفع عن دماء المُسلمين كافَّةً، وعن أموالهم -التي منها أراضيهم- كافَّةً، وعن أعراضهم -التي تنتهك على أرض فلسطين كلَّ يوم- كافَّةً. وفيه أيضًا النهي عن خذلان المُسلمين، أو النظر إلى شئونهم بغير اكتراث أو الوقوف على الحياد معهم. وهذا كلُّه يُرينا الواجب الشرعيّ نظريًّا تجاه فلسطين وأهلنا فيها. أمَّا عن الجانب العمليّ الذي كان أوَّل مُطبِّقيه هو الرسول المَبعوث من الله، فالآتي شيء يسير منه.
· جهاد النبيّ بالدعاء حين قتل المسلمين
ذَكَرَ “البخاريُّ” في صحيحه “باب غزوة الرَّجيع، وبئر مَعونة” حديثًا فيه: “بعَثَ النبيُّ سبعين رجُلًا لحاجة، يُقال لهُم القُرَّاء. فعَرَضَ لهم حيَّانُ من بني سُليم رعل، وذكوان عند بئر يُقال لها: بئر معونة. فقال القوم: والله ما إيَّاكم أردنا؛ إنَّما نحن مُجتازون في حاجةٍ للنبيّ. فقتلوهم؛ فدعا النبيّ عليهم شهرًا في صلاة الغداة. وذلك بدءُ القُنُوت، وما كُنَّا نقنُت”.
وبالعموم يعني الحديث أنَّ النبيّ بعث قومًا فلقيهم قومٌ من الكافرين، واعترضوا طريقهم وبالتعبير الحديث “تحرَّشوا بهم”. فقال لهم المُسلمون: إنَّنا لمْ نأتِ لكم، نحن عابرون فقط. لكنَّ الكافرين قتلوهم رغم ذلك. وهُنا نجد النبيّ قد جاهَدَ فيهم بالدعاء على القاتلين، ويدلُّ جهاده بالدعاء على ضرورة استمرار الدعاء على الظالمين المُعتدين إذا لمْ يُستطَع النَّيْل منهم في الوقت الحاليّ.
· قتال النبيّ لقتل المُسلمين
وقد حارب الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كثيرًا لقتل أحد المُسلمين، أو أكثر؛ أو لانتهاك عِرض وحِمَى أملاك المُسلمين، أو لانتهاك العهود والمواثيق، أو لمُحاولة الغدر بأحد من المُسلمين -بمَن فيهم الرسول نفسه بصفته أحد المُسلمين-. بل إنَّ من أسباب المناوشات الأولى بين الرسول بعد الهجرة وبين مُشرِكِيْ قريش هو سنوات من الاضطهاد والتعذيب والقتل، ومُصادرة الأموال والتضييق على كُلّ مَن أعرَبَ عن إسلامه. وهنا نذكر أنَّ بدء هذه السرايا والغزوات كانت مع ضعف المُسلمين لا مع قوَّتهم؛ فما زالوا وقتئذٍ قوَّة ناشئة. وسأذكر أمثلة مختصرة جدًّا لذلك.
في حوادث سنة ثمانٍ من الهجرة ذَكَرَ الإمام الحافظ “ابن كَثِير” في كتابه “البداية والنهاية”، خبرَ “سَريَّة كعب بن عُمير إلى بنِيْ قضاعة من أرض الشام”. يقول: “فوجدوا جَمعًا من جمعهم كثيرًا، فدعوهم إلى الإسلام. فلَمْ يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنَّبْل. فلمَّا رأى ذلك أصحابُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قاتلوهم أشدَّ القتال حتى قُتلوا. فارتُثَّ -أيْ خرج جريحًا من القتال- منهم رجلٌ جريحٌ في القتلى. فلمَّا أنْ برد الليل تحامَلَ حتى أتى رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-. فهمَّ بالبَعثة إليهم”. فها هو الرسول يبعث جيشًا أو قوَّةً للقتال لقتل جماعة من المُسلمين.
وفي غزوة “مُؤتة” أخرج النبيُّ جيشها مُقاتلًا لقتل واحد من المُسلمين؛ “الحارث بن عُمير” الذي بعثه الرسول برسالة إلى أمير بُصرى. فتعرَّض له “شرحبيل بن عمرو الغساني” -وهو من أمراء قيصر على الشام-، ولمَّا علم أنَّه من رُسُل “محمد” قتله. وكان قتل الرُّسُل أمرًا مُنكَرًا، ويعدُّ في مقام إعلان الحرب. لكنْ بالعموم فهذا شهيد واحد أخرج له الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- جيشًا.
وفي قتال يهود “بني قينُقاع” قتَلَ اليهودُ مُسلمًا حامَى عن امرأة تحرَّش بها اليهود. فحارب النبيّ عليه -وهو واحد- وعلى حقوق المُسلمين. وكذلك أمر الرسول بقتل “كعب بن الأشرف”؛ وهو يهوديّ كان يُنابذ الرسول بالقول، ويذكره بالسُوء، ويتغزَّل بشِعره في نساء المُسلمين.
وكما هو واضح أنَّ الشريعة الإسلاميَّة تُوجب على كُلّ مُسلم الاهتمام بالمُسلمين ومُصابهم، وفعل ما أمكنه في سبيل نُصرتهم، بالمال أو بالقتال المُباشر أو بالمُساعدة العَيْنيَّة أو باستمرار الدعاء على الكافرين المُعتدين في كلّ وقت. وأكرِّر هنا أنَّ نُصرة جماعة الحقّ هو من أمر العقيدة؛ لأنَّهم القائمون بها وعليها، وقتلهم وإبادتهم تقويضٌ بالتبعة للعقيدة الإسلاميَّة التي يحملونها ويقومون عليها. وأظنُّ أنَّ هذا البيان يردُّ على كُلّ سؤال يسأله شخص حَسَن النيَّة، وعلى كلّ قول لمُغرِض.
· المُرتَكَز الثالث: خُصُوصيَّة العدوّ على الأرض "اليهود"
وأنوِّه إلى أنَّ اليهود لهُم خصوصيَّة في الإسلام. وللاختصار في أمور معروفة؛ فالقرآن يمتلئ بذِكر نُكرانهم، وكُفرهم، وظُلمهم، واختصَّهم كثيرًا بصفة “الإفساد في الأرض”. ولنا أنْ نعلم أنَّ اليهود ما ارتاحوا إلا في ظلال المُسلمين؛ فالرسول قد بادرهم بالعهد عند الهجرة، وكذلك عاشوا في أرض الإسلام بأمان. أمَّا الدول الأوربيَّة التي تؤمن بالمسيحيَّة كانت محلات ويلات عليهم طوال التاريخ، وكانوا هناك مَذلُولين مُحتَقرين. ورغم ذلك ما همدوا أبدًا عن النَّيْل من المُسلمين والإفساد في نفوسهم، وبثّ الشُّبهات في دينهم. وقد حاولوا بثَّ الشُّبهات والرسول حيّ أمامهم في شكل أسئلة كثيرة سألوها، اعتقدوا أنَّها تعجز الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في إجابتها.
· عداء اليهود للمُسلمين منذ القديم
ولنْ أطيل؛ فالأمر معروف معهود. فمنذ بدء الدعوة حاول اليهود بكُلّ الطُّرُق فضَّ المُسلمين عن إسلامهم، والتشكيك في أمر الرسول ومَبعَثه، ونقض العهود التي عاهدهم عليها، وحاولوا أيضًا وأد الإسلام من أصله في محاولات قتل الرسول عدَّةَ مرَّات. ولعلَّ أصدق ما يُمثِّلهم هو فِعلتهم في “غزوة الخندق” -التي تُسمَّى الأحزاب أيضًا- عندما اجتمع الناس من كلّ جانب لقتال المُسلمين، فعاهَدَ اليهودُ الرسولَ على حمايته من جانبهم في المدينة؛ ثمَّ فعلوا فعلتهم الأصيلة -وهي الغدر ونقض العهود- وفتحوا جانب المعركة -وهذا الفعل من أشدّ الأفعال خيانةً في القديم والحديث-. وعلى هذا فقِسْ تاريخهم الطويل.
ولهذا نقرأ عنهم نوعَيْن من الأخبار في سيرة الرسول -إجمالاً أقصد لا تفصيلًا-: الأول هو مُعاهدة الرسول لهم في بدء هجرته، والثاني أخبار وقائع حرب الرسول معهم على حسب قبيلتهم -بني قريظة، بني قينقاع، بني النُّضير، يهود خيبر…-. وما المُتوقَّع بعد تلخيص حالهم من الله في آية (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلً) -النساء 155-؟
· قتال اليهود في المُستقبل الذي أخبرت عنه الأحاديث
وقد أخبر الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- بأنَّ القتال مع اليهود سيستمرُّ إلى يوم القيامة. فقد خصَّص “البُخاريّ” “باب قتال اليهود”، وفيه حديث: “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود؛ حتى يقول الحَجَر وراءه اليهوديّ: يا مُسلِم هذا يهوديٌّ ورائي فاقتله”. وفي الواقع ما يُعضِّد النفوس في تقبُّل الحديث، وها نحن نرى ما نراه.
وبعد؛ فهذا استعراض مُختَصَر لمسألة “عَقَديَّة قضيَّة فلسطين”. وهي إجابة عن سؤال بالغ الحاجة في الإجابة عنه. فلينتبه جميع مَن قرأ إلى خطورة القضيَّة ومركزيَّتها، وليُبلغ الذي لمْ يقرأ.