صدَرَ مؤخرًا عن المؤسسةِ العربيَّة للدراسات الاستراتيجية – إسطنبول، للعام 2024، كتاب: “ثقافة الإقصاء وتأثيرها في بناء الدولة اليمنية المعاصرة”، للباحث الدكتور بكر الظبياني. والكتاب في الأصل بحثٌ علميٌّ أكاديمي تقدَّمَ به المؤلف لنيل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، من جامعة محمَّد الخامس بالمملكة المغربية بمطلع العام 2023م، والموسوم بــ” ثقافة الاقصاء وتأثيرها في بناء الدولة وتداول السلطة: اليمن أنموذجًا”.
يستكشفُ الكتاب “ثقافة الإقصاء وتأثيرها في بناءِ الدولة اليمنية المعاصرة”، والآليات التي تمارس من خلالها ثقافة الإقصاء وتأثيرها على النسيج الاجتماعي والسياسي في اليمن. كما يُظهر الكتاب كيف أنَّ التَّاريخ الطويل للإقصاء، سواء كان على أساس سياسي، اجتماعي، أو ديني، قد أثَّرَ بشكلٍ عميق على محاولات بناءِ الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية. ويُقدم تحليلًا للأسبابِ الجذرية لهذه الثَّقافة ويبحث في تأثيراتها على الحوكمة، الاستقرار، والتطور الديمقراطي في اليمن، من خلال دراسة حالات محددة وأمثلة تاريخية، ويُعرج الكتاب على الدروس المستفادة ويقترح استراتيجيات لمعالجة مشكلة الإقصاء، بهدف تعزيز الاندماج والتماسك الاجتماعي كأساس لدولة يمنية أكثر استقرارًا وعدالة.
وفي ضوء معالجة إشكالية الدراسة والأسئلة المتفرعة عنها بطريقة مناسبة، تم تقسيم هذه الكتاب إلى قسمين: يشتمل كل قسم على فصلين، تمهد لهما مقدمة عامة، تضمنت الإطار النظري للدراسة، أما الفصل الأول، فقد أُفرد لعرض الإطار المفاهيمي للدراسة كالإقصاء والتداول، وما يرتبط بهما من مفاهيم، وفي الفصل الثاني؛ تم تناول ماهية الإقصاء في الفكر الغربي والعربي الإسلامي، ومتغيرات ثقافة الإقصاء التقليدية في التاريخ السياسي اليمني، وفي القسم الثاني ناقش الكتاب تأثير المتغيرات الحديثة للإقصاء بمسار تشكل الدولة اليمنية في الفصل الأول، وفي الفصل الأخير؛ أوضح الكتاب آليات ومظاهر ثقافة الإقصاء بواقع التحول الديمقراطي، وتداول السلطة في اليمن، وتوج الكتاب بخاتمة وبنظرة استشرافية.
وقد أكدَ الكاتبُ على التَّاريخ الطويل والشاق الذي اجترحه اليمنيون، للبحث عن الدولة، وبناء مشروعها المتكامل في واقع حياتهم المعاش، منذ نشوء معظم الحضارات والممالك اليمنية بالشطر الجنوبي للجزيرة العربية، حيث تعد هذه المنطقة الجغرافية من أقدم المواقع على الأرض، التي سكنها البشر وأقاموا عليها حضارات إنسانية متعددة لعل من أبرزها (معين، وسبأ، وأوسان، وقتبان، وحضرموت، وحمير)، والتي نشأ معظمها قبل الميلاد.
واستشعارًا من الكاتب بالمسؤولية الوطنية، والعلمية تجاه ما يعانيه وطنه وشعبه، خلال هذه السنوات العجاف من حروب ومآسي وصراع، بفعل ثقافة الإقصاء وممارساتها الحاضرة في واقع المسار السياسي اليمني المثخن بمرارات الصراع والتعثر، والإخفاق، لتأسيس مداميك دولة النظام والمواطنة القوية المستقرة، كان الدافع لخوض مسار هذا البحث العلمي الأكاديمي في مجال العلوم السياسية، تخصص “الفكر السياسي”، وَفْقًا “لنظرية الدولة” المنبثقة عن مسلك “النظرية السياسية” ، للوقوف على ظاهرة الإقصاء كثقافة وسلوك، وتأثيرهما في مسار بناء الدولة اليمنية المعاصرة، والتداول السلمي للسلطة، كآلية معاصرة، وقطيعة لا تعايشية مع ثقافة الإقصاء، التي تزخر بها جذور الثقافة المجتمعية بفعل تسلل متغيرات السلالية الطائفية ببعديها الاجتماعي والديني، حيث نفخت فيها مزيدا من أوار التطرف والتعصب فكرا وممارسات.
وفي محاولة لسبر أغوار البحث والاقتراب أكثر من متغيراته وتفاصيله، وللوقوف على تأثيرات ثقافة الإقصاء، التي ما فتئت بحضورها الكثيف، تفت في عضد مسار بناء الدولة اليمنية، وتعيق ترسيخ التجربة الديمقراطية اليمنية، لتحول دون بلوغ غايتها باختيار الحاكم وفق تداول سلمي سلس للسلطة، تختفي معها الصرعات والحروب المدمرة.
ففي سياق الإطار النظري، والمنهجي للبحث تتلخص في الإجابة على السؤال الآتي: هل كانت ثقافة الإقصاء بمخزونها المتجذر، هي من تقف خلف فشل بناء الدولة اليمنية المعاصرة وتعثر ظاهرة التداول السلمي؟ بمعنى آخر؛ هل ثقافة الإقصاء هي من تقف حائلا دون بناء دولة المواطنة والتداول السلس للسلطة في اليمن؟ مع الأخذ بعين الأهمية أن استهواء الاستحواذ بالسلطة، والتفرد بها وفّر منزلقا خطيرا في الاستئثار بالحكم، والاستماته في توريثه، وهذا بدوره مثل تحديا أحبط معه أي خيارات ممكنة في مشروع بناء دولة مؤسسية راسخة.
واستجابة لإشكالية البحث، فثمة افتراض يطرح نفسه في الواقع اليمني، بأن “متغيرات ثقافة الإقصاء تقف خلف تعثر مشروع بناء الدولة اليمنية المعاصرة، وآليات التداول السلمي السلس للسلطة في اليمن”.
منهجيا، اعتمد الكتاب على المنهج النسقي لمعالجة متغيرات البحث، كونه المنهج المناسب لفهم تأثير مدخلات هذا الموضوع، في ضوء متغيرات الثقافة السياسية، كمتغير مستقل، وتأثيرها على دائرة معالجات المتغير التابع كمخرجات تتمثل في بناء الدولة اليمنية، وتحقق التداول من عدمه.
خلُصت الدراسةُ إلى أنَّ الثقافة السياسية اليمنية بعمومها ثقافة إقصائية، تشكلت خلال المسار التاريخي لبناء الدولة اليمنية بفعل التنشئة وممارسات الحكام والنخب، وظلت تتنفس من رئة الثقافة الإقصائية التسلطية بفعل تأثير متغيرات الإقصاء التقليدية المذهبية والعصبوية، أو المتغيرات الحديثة الأيديولوجية الشمولية والمصالحية، الدافعة للممارسات الإقصائية الاستحواذية، والمغذية لدورات الصراع العنيف، والمعززة لحالات عدم الاستقرار، والذي انعكس بتأثيراته السلبية حالات من التعثر، والفشل خلال محاولات بناء الدولة وترسيخ المسار الديمقراطي الناشئ.
كما توصل البحث؛ إلى أن هناك علاقة غير تصالحية بين الإقصاء وبناء الدولة اليمنية المدنية المؤسسية القوية، فحضور الإقصاء يعني إلغاء أي معنى حقيقي لدولة مؤسسية قوية ومتحضرة، وما حضور المؤسسية لفترات زمنية محددة، كان وفقا لتوافقات سياسية، ووجود توازن في ميزان القوة بين الفاعلين السياسيين.