في هذا المبحث سنعود إلى “الإمام” زيد بن علي (النسخة الشيعية الزيدية)، لنرى إلى أي مدى أسس للأفكار التي تبناها الهادي ومن جاء بعده من الشيعة الزيدية. ولأنني أدرس النسخة الشيعية لزيد بن علي، فسأستخدم اللقب الذي يلقبونه به، وهو “الإمام زيد بن علي”؛ بوصفه أحد أئمتهم. وقد رجعنا إلى مدونتين للإمام زيد، من المدونات التي ترويها عنه الشيعة الزيدية، ونجد أهل السنة ينكرونها، ويرفضون نسبتها إليه(1). ونحن لن نخوض في هذا الجدل، فالذي يهمنا هو التراث المروي عن الإمام زيد، الذي شكل صورة الآخر لدى “الشيعة الزيدية”.
والإمام زيد هو زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، (75هـ – 122) خرج بالكوفة زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، بعد أن بايعه نحو 15 ألفا من الشيعة، فلما خرج خذلوه وتركوه حتى قتل. وقبل بياني للمدونات التي أعتمدها في هذا التحليل مع نقدي لنسبتها، سأتحدث أولا عن مصطلح الزيدية.
مصطلح "الزيدية"
مصطلح “الزيدية” بدأ إطلاقه – ربما خصوم الزيدية – لينسبوا من قاتل مع زيد بن علي إليه، وهذا من عادة العرب نسبة القوم إلى أميرهم. فكانت نسبة المصطلح – أول الأمر – لا علاقة لها بالمذهبية.
ثم بعد ذلك أطلقوا المصطلح ليراد به من انتسب مذهبا إلى زيد بن علي. ومن هذا الإطلاق نجد أول ذكر لمصطلح الزيدية في كتاب ما، عند مؤرج السَّدوسي (ت195 هـ)، في كتابه “حذف من نسب قريش”، حيث قال (2): “وزَيْدُ بن عليّ بن حُسَيْن، الَّذي تُنْسَبُ إليه الزَّيْدِيَّةُ، قَتَلَهُ يُوسُفُ بن عُمَرَ الثَّقَفيُّ بالكُوفة”. ويبدو أن هذا الكتاب لم يكن معروفا؛ لعدم وروده في من ترجموا لمؤرج من السابقين، وهذا ابن قتيبة (ت 276هـ) ترجم لمؤرج في المعارف، ولم يذكر له أي كتب. وحين ترجم له السمعاني في الأنساب ذكر أن له مؤلفا في غريب القرآن(3)، فلو كان مؤلفه في الأنساب معروفا لذكره. وأول من ترجم لمؤرج وذكر كتابه “حذف من نسب قريش” هو ياقوت الحموي (ت 626 هـ) في معجم الأدباء(4).
ثم نجد مصطلح “الزيدية” عند المصعب بن عبد الله الزبيري (ت: 236هـ) في كتابه “نسب قريش”(5)، يقول: “وخرج زيد حتى إذا كان بالقادسية، لحقته الشيعة؛ فسألوه الرجوع معهم والخروج؛ ففعل؛ فتفرقوا عنه إلا نفرًا، فنسبوا إلى الزيدية؛ ونسب من تفرق عنه إلى الرافضة، يزعمون أنهم سألوه عن أبي بكر وعمر؛ فتولاهما؛ فرفضته الرافضة؛ وثبت معه قوم؛ فسموا بالزيدية؛ فقتل زيد وانهزموا أصحابه”.
ويبدو أن مصطلح الزيدية بدأ بالذيوع والانتشار عند غير الزيدية، وذلك بدءا من الربع الثاني في القرن الثالث الهجري (أي بعد 225هـ)، فنجده عند الفسوي (ت 242هـ)، في المعرفة والتاريخ، ثم الجاحظ (ت 246هـ) في رسالة العثمانية، والحيوان، وغيرهما، ثم ابن طيفور (256هـ) في كتاب بغداد… إلخ.
ولكن الذي يظهر أن مؤسسي الشيعة الزيدية لم يعترفوا بهذا اللقب، فلا نكاد نجده في تراث القاسم أو الهادي، والذي نجد عندهما أنهم يسمون أنفسهم “الشيعة”، ويعتبرون أنهم الشيعة الحق، في حين أن غيرهم ممن ينتسبون إلى الشيعة أدعياء.
بل وجدت الهادي يستخدم مصطلح “الزيدية” بما يفيد أنه يتحدث عن فرقة شيعية أخرى، فيقول(6): (وأما شهادتهم لنا في المنزلة بين المنزلتين، وقولنا إن أهل الكبائر من أهل الصلاة فساق فجار أعداء الله ظلمة معتدون، فإنهم شهدوا لنا بذلك فشهدنا بما شهدوا، ثم ادعى بعض الخوارج أنهم كفار، وأن فسقهم قد بلغ بهم الكفر والنفاق دون الشرك، ويقال إن الزيدية، أو بعضهم، يزعمون أن فسقهم قد بلغ بهم الكفر). فهو ميز مذهبهم أولا بالقول إن أهل الكبائر فساق. ثم بين أقوال الفرق الأخرى؛ فالخوارج والزيدية أو بعضهم قالوا بكفرهم. فمن يقصد الهادي بالزيدية؟
وفي موطن آخر يقول الهادي(7): (وقالت الزيدية: إن الله حرم ذبائح اليهود والنصارى…). فهو يطلق على مذهبهم: الزيدية، حيث إن الهادي قال بتحريم ذبائح اليهود والنصارى، وتحريم الزواج بنساء اليهود والنصارى. وهذا يبين أن الهادي يسمي أنفسهم الزيدية، ولكن المصطلح لم يكن بذلك الشيوع والانتشار.. ففي تراث الهادي لم أعثر إلا على هذين الموضعين، بل الغالب أنه يطلق عليهم مصطلح “الشيعة” دون تقييده.
وأما بداية استخدام الشيعة الزيدية لهذا المصطلح “الزيدية”، فقد وجدته لدى محمد بن القاسم الرسي (ت: 279 هـ)، وهو عم الهادي، حيث ذكره وهو يتحدث عن من يستحق الإمامة، ثم قال: “وهو مذهب الزيدية القاسمية العدلية”(8). ولم يبدأ المصطلح بالشيوع عند زيدية اليمن إلا في القرن السادس الهجري، وبالأخص عند المتوكل أحمد بن سليمان (ت 566 هـ)، في كتابه: “حقائق المعرفة في علم الكلام”… ثم من بعده من المؤلفين.
في حين نجد أن التسمية شاعت عند زيدية الديلم منذ القرن الثالث الهجري، فمن أول الكتب التي شاع فيها استخدام المصطلح، كتاب: “المنير على مذهب الإمام الهادي يحيى بن الحسين”، لـ” أحمد بن موسى الطبري” (٢٦٨ – ٣٤۰ هـ)، وهو من الطبريين الذين قدموا من الديلم لنصرة الهادي. فنجده يستخدم “مصطلح الزيدية” في مواطن عديدة(9)، يسمي بها أنفسهم. وكذلك أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني ( ت: ٣٥٦ هـ)، في كتابه “المصابيح في سيرة الرسول وآل البيت”، ويشيع المصطلح شيوعا واسعا عند أبي طالب الهاروني (340 – 424 هـ)، في مختلف كتبه، ومنها: “الإفادة في تاريخ الأئمة السادة”، و”شرح البالغ المدرك”، و”الدعامة في الإمامة”، و”تيسير المطالب”… وكل هؤلاء من زيدية الديلم، أو الطبريين.
❃❃❃
ويبين عبد الله بن حمزة سبب نسبة الزيدية إلى زيد بن علي، أنه: “أول قائم من أهل البيت” (10).
ثم إن المتأمل في كتب الشيعة المؤسسين، كالقاسم والهادي، لا يكاد يجد فيها ذكرا لزيد بن علي إلا حين يهاجمون الرافضة، ويثبتون إمامة زيد بن علي. أما أن يستشهدوا بزيد بن علي في أحكام الفقه، فهذا أمر نادر الحدوث، أما الاستشهاد بزيد في أصول الدين فلا تكاد تجده. ومن الغريب أن يقول ابن حمزة أن الزيدية اختصت بهذا الاسم لانتسابهم في الاعتقاد إلى زيد بن علي (11) ؛ ذلك أن مؤسسي الزيدية لم يعولوا في شرح مسائل الاعتقاد على زيد بن علي، والصحيح أن الانتساب إليه سياسي، كما ذكره ابن حمزة نفسه؛ في أن زيدا أول قائم من أهل البيت.
ولذلك؛ فمن المقرر أن انتساب الشيعة الزيدية إلى زيد بن علي إنما هو انتساب سياسي لا فقهي ولا فكري؛ سواء في ذلك من نسبهم من أهل السنة إليه، أو الزيدية حين رضوا بنسبة أنفسهم إلى زيد بن علي. فهي نسبة مذهبية سياسية، وليست فقهية كالشافعية أو الحنفية مثلا.
مصطلح "الوصية"
سنحاول من خلال تتبع نشأة مصطلح الوصية الوصول إلى المحاججة بشأن خروج زيد بن علي: هل هو خروج سياسي؛ نابع من مقاومة الظلم، كما يدعي أهل السنة؟ أم خروج ديني نابع من نظرية الإمامة، كما يدعي الشيعة؟
بالنظر في مصطلح “الوصي”، نحاول تتبع نشأته الأولى في تراثنا. ونحن ننظر إليه من منظورين، الأول: البحث عن أقدم المصادر التاريخية التي يرد فيها. والثاني: البحث عما يريد في المصادر بوصفه أول ذكر للفظ.
فأول المصادر التاريخية التي نجد فيها اللفظ، يتمثل في ديوان كثير عزة (ت 105هـ)، يقول:
وَصِيُّ النّبيِّ المُصْطفى وابنُ عمّهِ
وَفَكّاكُ أغْلالٍ وَقَاضِي مَغَارِمِ
ثم السيد الحميري (ت 173هـ)، وقد أكثر من استخدام هذا المصطلح في شعره، يقول مثلا:
وصيُّ محمدٍ وأبو بنيهِ
وأوّلُ ساجدٍ للهِ صلَّى
ثم كثر استخدامه عند نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 هـ) في كتابه “وقعة صفين”، وهو مؤرخ شيعي.
فأما ما تورده المصادر على أنه الورود الأول للفظ، فيذكر الشيعة على أن اللفظ للنبي نفسه، ويوردون لذلك أحاديث منكرة عديدة(12)، ومنها أن سلمان الفارسي قال: يا رسولَ اللهِ لكلِّ نبيٍّ وصيٌّ فمن وصيُّك؟ فسكت عني، فلما كان بعد قال: “يا سلمانُ إنَّ وصييَّ وموضعَ سرِّي وخيرُ من أتركُ بعدي ينجزُ موعدي ويقضي دَيني عليُّ بنُ أبي طالبٍ”، وعلماء الحديث على أنه منكر وباطل، ولم يصح حديث في الوصية.
ومن الورودات الأولى التاريخية، ونحن لا يمكننا الوثوق من هذه النقولات، بل هي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة:
نسب نصر بن مزاحم (ت 212 هـ) في كتابه “وقعة صفين” إلى خزيمة بن ثابت الأنصاري (ت37هـ)، قوله:
أعائشُ خلِّي عن عليٍّ وعيبِه
بما ليسَ فيه إنما أنتِ والدةْ
وصيُّ رسولِ اللَه من دُونِ أهلِهِ
وأنتِ على ما كانَ من ذاك شاهِدَة
ونسب الطبري في تاريخه (ت: 310هـ) ذلك إلى عبد الله بن سبأ اليهودي، وأنه كان في خلافة عثمان يدعو الناس إلى الثورة على عثمان وبيعة علي، ويقول لهم: (لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد).
بل إن اليعقوبي في تاريخه (ت259هـ)، نسب هذا إلى أبي ذر رضي الله عنه، وادعى أنه كان يخطب في الناس زمن عثمان، فيقول في خطبته (ومحمد وارث علم آدم وما فضل به النبيون، وعلي بن أبي طالب وصي محمد، ووارث علمه).
❃❃❃
وبقراءة بحثية واسعة للمصادر التراثية الأولى، يتبين لنا أن المصطلح لم يثبت ظهوره واستخدامه كحجة دينية إلا مع صراع العلويين مع العباسيين، في منتصف القرن الثاني الهجري، وشعر كثير لا ندري مدى صحته، لا سيما أنه بيت يتيم، قد يكون مدسوسا عليه، ذلك أن كثيرا شيعي، فلو كان اللفظ شائعا لشاع في شعره. ولكننا نجد شيوع اللفظ عند السيد الحميري في منتصف القرن الثاني الهجري. وبذلك يتبين أن الأئمة الاثني عشرية لا وجود لهم حقيقة إلا في التراث الشيعي، أما في الواقع فهم من أهل السنة، ولا علاقة لهم بالتراث الشيعي.
و”نظرية الإمامة” لا تقوم إلا على “الوصية”، فإذا تبين لنا أن مصطلح الوصية لم يكن قد ولد بعد، ولا دليل على ولادة المفهوم أيضا، فإنه يظهر لنا أن “نظرية الإمامة” لم تولد إلا في أول العصر العباسي الأول.
ويتبين أيضا أن خروج زيد بن علي لا علاقة له بنظرية الإمامة، ولا بالوصية، ولا بشيء من هذا القبيل، ولم يثبت في أي مصدر أنه خرج مطالبا بالإمامة، أو أن لديه وصية من إمام سابق، ولا يوجد أحد من بني هاشم ادعى أثناء الخلافة الأموية أن عليا وصي للرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان ظهور نظرية الإمامة وما بُنيت عليه من دعوى الوصية إنما استخدم سلاحا من العلويين ضد العباسيين، الذين جمعتهم الحركة السياسية ضد البيت الأموي، فلما استأثر العباسيون بالحكم، لجأ العلويون إلى “مفهوم الوصية لعلي”؛ ليوجدوا مبررات دينية لهم في مواجهة رفقائهم: العباسيين. ولم يستخدم الشيعة “نظرية الإمامة” في العصر الأموي؛ لأنها لم تولد بعد، ولأنهم لم يكونوا بحاجة إليها.
تراث الإمام زيد بن علي
المدونات التي أعتمدها في التحليل هي:
– المجموع الحديثي والفقهي (المشهور بمسند الإمام زيد)، تحقيق: عبد الله بن حمود العزي، صنعاء: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، 1422هـ/2002م. والمجموع رواه عن الإمام زيد: عمرو بن خالد الواسطي.
– مجموع كتب ورسائل الإمام الأعظم أمير المؤمنين زيد بن علي (ع)، جمع وتحقيق: إبراهيم يحيى الدرسي الحمزي، صعدة: مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية، 1422/2001م. وقد اشتمل على نحو 42 بين كتب ورسائل وأجوبة وخطب ومكاتبات ومقالات وأدعية، ألحقها به محقق الكتاب.
وبعد دراستي لهاتين المدونتين، ولتراث الإمام الهادي أستطيع القول:
من المؤكد أن الإمام الهادي لم يطلع على هذه النصوص المسندة للإمام زيد، وإلا كان استشهد بها، لا سيما وأنه تناول هذه المسائل، والاستشهاد بقول الإمام زيد سيقوي موقفه. هذا يجعلنا نفترض إما أنها ليست من كلام الإمام زيد، بل لفقت عليه في فترة متأخرة. وإما أنها ظلت غير معروفة حتى زمن متأخر. ومما يجعلنا نرجح الأول أن طريقة الحجاج في (مجموع الرسائل) أقرب ما يكون إلى أسلوب الهادي في الحجاج، وحتى الحجج كثير منها مأخوذة عنه، مما يجعلنا نعتقد أنها كتبت بعد الهادي، وتأثرت بأسلوبه ومنطقه الحجاجي وأفكاره.
ويلاحظ أيضا أنها لو كانت من قبل الهادي فمن المستبعد ألا يكون اطلع عليها، ولو اطلع عليها لظهرت آثارها في تراثه. لا نجد أثرا لكتاب الإمامة أو الوصية أو الإيمان أو غيرها من الكتب المنسوبة إلى زيد بن علي، لا نجد أثرا لها عند الهادي، وقد ناقش كل هذه المسائل، بل لا نجد في تراث الهادي ذكرا لعناوينها، ومن المستبعد ألا يكون الهادي على اطلاع بكتب الإمام زيد.
ومن الملاحظ أن الأفكار التي في مجموع الإمام زيد بن علي شديدة التأثر بتراث الهادي، كما في الإمامة والوصية، وكما في بيان سبب اختلاف الأمة وضلالها (افتراقهم على أهل نبيهم)… وغير ذلك من أفكار. فإن قيل: ولم لا تفترض العكس؟ أن يكون الهادي أخذها من زيد، فنقول: لو كان أخذها الهادي لأشار إليها.
❃❃❃
هذا، ومن حجج الطعن على نسبة المسند للإمام زيد: أن الهادي قد خالف في اجتهاداته وأحكامه بعض ما جاء في المجموع، وقد ردت الزيدية على هذه الحجة أن الإمام الهادي إمام مجتهد، له اختياراته وترجيحاته، وأنه كان يحتج ببعض ما فيه، ولا يصح إبطال رواية الواسطي وهو ثقة برواية الهادي (13). وأود أن أشير إلى أن حجتي لا علاقة لها بهذه الحجة، فحجتي: إن الإمام الهادي لم يطلع على شيء اسمه “مسند زيد بن علي”، والروايات التي يرويها عن زيد ليست من المسند، بل مما ينقله عن أبيه عن جده بسنده إلى زيد، ولو كانت من المجموع لأشار إليه. ثم إنه حين يخالف ما في المسند لو أن المسند موجود ويعلم أنه خالفه لأشار إلى ذلك، كما كان يشير إلى الروايات المروية عند أهل السنة عن علي ويطعن فيها، حين يخالف ما فيها من أحكام. ولا أدل على ذلك من مسألة (جواز بيع أمهات الأولاد) فقد شنع الهادي على أهل السنة الذين رووا عن علي جواز ذلك، في حين أنه قد ورد ذلك في مسند زيد، فلم لم يشر إليه ألبتة؟! بل إنه وصف من نقل جواز البيع عن علي بـ”الهمج، وأهل الجهل”، وقال: “لو كان ذلك كذلك لكان أهل بيته أعلم بذلك”(14). فهذا دليل واضح أن أهل بيته لم يرووا ذلك عن علي، وأنه لو كان اطلع على المجموع لما قال مثل هذه العبارة.
وهذا مع توفر الدواعي لمعرفة المجموع، حيث يقول المدافعون عن نسبته لزيد إن الذي رواه عن أبي خالد هو إبراهيم بن الزبرقان (ت 183هـ)، وعنه نصر بن مزاحم (توفي أول القرن الثالث الهجري)، وعنه رواه كثيرون منهم سليمان بن إبراهيم بن عبيد المحاربي، وعنه كثيرون، وذلك في منتصف القرن الثالث الهجري. وهذا يجعل من المؤكد أن لو كان الكتاب منتشرا لرواه كذلك الإمام الهادي، ووجدناه يشير إليه في كتبه. إلا أن ذلك لم يحدث.
❃❃❃
ومما أستدل به على صحة قولي، وهي أن المسند لم يعرف إلا في قرون متأخرة، أن المؤيد أحمد بن الحسين الهاروني (ت: 411 هـ)، في موسوعته “شرح التجريد في فقه الزيدية”، ذكر في المقدمة أسانيده ومصادره التي اعتمد عليها (15)، فلم يذكر مسند زيد بن علي، وحين ذكر أسانيده أورد مجموعة من أسانيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها سند فيه أبو خالد عن زيد بن علي، وأسانيد أخرى ليست من طريق زيد. فلو كان المسند معروفا لأشار إليه. ومن استدل بهذا الإيراد على أن المؤيد يقصد المسند فقد أبعد النجعة، وإلا فعليه أن يدعي مثل هذه الدعوى على بقية الأسانيد التي أوردها.
كما أن أخاه (أبو طالب) يحيى بن الحسين الهاروني ( ت: ٤٢٤ هـ)، ألف كتابه: “الإفادة في تاريخ الأئمة السادة”، وترجم للأئمة الذين تقول الزيدية بإمامتهم، ومنهم زيد بن علي، فلم يتحدث في ترجمته عن أي كتاب له. مع أن المؤلف كان يحرص في إيراد الكتب المعروفة للإمام الذي يترجم له، كما فعل في ترجمة القاسم والهادي والحسن الأطروش، والمرتضى محمد بن يحيى، وأخوه الناصر أحمد. وهذا دليل آخر على أن الزيدية حتى القرن الخامس الهجري لم يكونوا يعرفون أي كتاب منسوب لزيد بن علي.
كما أن “أبو طالب” في كتابه “الدعامة في الإمامة”(16)، وهو يدافع عن زيد بن علي ضد الإمامية حين رفضوا القول بإمامته، فبين استحقاقه للإمامة بتميزه وفضله، ثم ذكر أوجه التميز، فمنها: اختصاصه بعلم الكلام، والفصاحة والبيان، واختصاصه بعلم القرآن (وله قراءة مفردة مروية عنه)، وشجاعته، (ويذكر مع المتكلمين إذا ذكروا، ويذكر مع الفقهاء والرواة إذا ذكروا، ويذكر مع الزهاد وأهل التقوى، ويذكر مع الشجعان وأهل المعرفة بالضبط والسياسة، وغيره من أهل البيت عليهم السلام في ذلك الزمان إنما يذكر بخصلة أو بخصلتين من هذه الخصال). فلم يشر مطلقا إلى وجود مصنفات له؛ مع قوة الداعي للحديث عن ذلك لو كان له أي مؤلف، ولا سيما أنه سيكون الأسبق في مصنفي المسلمين، وحين رويت له قراءة أشار إلى ذلك. فدل ذلك على أنه لم يكن أحد من أهل البيت حتى ذلك الوقت يعرف لزيد بن علي أي مصنفات.
❃❃❃
ومما يجدر إيراده هنا القول إن ثمة إشارة وردت في شرح التجريد للمؤيد، حيث ورد فيه لفظ: (كتاب أبي خالد)، وفي التحرير لأبي طالب ورد لفظ: (مجموع الفقه) نحو ثلاث مرات.
وهذا يحتمل أنه من إضافة بعض النساخ في فترات لاحقة؛ بدليل أن أبا طالب لم يشر لأي كتاب في ترجمته لزيد بن علي، كما ذكرت آنفا. وكذلك المؤيد لم يشر في مقدمة التجريد مع وجود الداعي لذلك؛ فلو كان معروفا له لأشار في المقدمة حين ذكر الأسانيد.
ثم وجدت المنصور عبد الله بن حمزة يذكر اسم الكتاب (مجموع الفقه) مرارا في كتابه (الشافي) (17) ويورد سنده إليه، فيرويه عن الرصاص عن القاضي جعفر، ثم يسند القاضي جعفر إسناده وكلهم من زيدية الديلم. وهذا دليل أن المجموع لم يكن معروفا عند زيدية اليمن، وأن الذي أدخله إنما هو القاضي جعفر وذلك في المنتصف الثاني من القرن السادس الهجري، ولذلك كانت أول إشارة إلى (مجموع الفقه) عند زيدية اليمن في كتاب القاضي جعفر (شرح نكت العبادات) (18).
وأما ظهوره في الديلم فمن المحتمل استنادا إلى الإشارات القليلة عند الهارونيين أن يكون ظهوره أواخر القرن الرابع الهجري، ولكن هذه احتمالات ضعيفة؛ لما ذكرته من احتمال أن تلك الإشارات من وضع النساخ؛ وفقا للمرجحات القوية التي أشرت إليها.
ويضاف إلى ما سبق أن أبا عبد الله العلوي (ت 445 هـ) حين ألف موسوعته (الجامع الكافي في فقه الزيدية) أورد مقولة مشكوكة عن زيد بن علي، فقال: (وقد روي عن زيد بن علي شيء لا أدري ما هو ولا أعلم أحداً من الفقهاء أخذ به) (19)، وهو ينسب المقولة إلى محمد بن منصور (ت 290 هـ)، فلو كان مجموع الفقه لزيد معروفا سواء لمحمد بن منصور أو لأبي عبد الله العلوي، لقالوا: وهذا كتاب زيد لا توجد فيه هذه المقولة.
فلعل ظهوره في الديلم يكون في المنتصف الثاني من القرن الخامس الهجري، بعد ما يقرب من أربعة قرون من وفاة زيد بن علي. والله أعلم.
❃❃❃
وحين ظهر في اليمن على يد القاضي جعفر، ربما لم يتقبل زيدية اليمن ظهوره ونسبته إلى زيد، كونهم لم يعرفوه عن طريق آبائهم، وبالرغم من ذكر المنصور عبد الله بن حمزة (ت 614 هـ)، فإن الذين أتوا بعده لم يهتموا بذكره أو الإشارة إليه، حتى إن حميد بن أحمد المحلي (ت 652 هـ)، في كتابه: “الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية” ترجم ترجمة مطولة لزيد بن علي دون أن يذكر أي مصنفات منسوبة إليه. مع ذكره لمصنفات غيره من أئمة الزيدية كالقاسم والهادي… إلخ. وهذا يدل على أحد أمرين: إما أنه لم يكن يعرفه، وإما أنه عرفه ولم يتقبل ذلك، ولكن تقبل أئمة الزيدية له كالمنصور وغيره يجعلهم يتحفظون على إبداء آرائهم في رفضه، لذلك فيكون عدم ذكره حلا معقولا.
ومن حيث الشروح فأقدم الشروح التي تتناول المجموع، هو “المنهاج الجلي شرح مجموع الإمام زيد بن علي” ألفه: محمد بن المطهر (ت: 728 هـ). وهذا يؤكد أنه منذ ظهور المجموع في اليمن في النصف الثاني من القرن السادس الهجري مع القاضي أبي جعفر، فإنهم لم يتقبلوا نسبته إلى زيد، ولذلك انتظروا أكثر من قرن حتى ظهر له أول شرح.
❃❃❃
ولذلك فحتى أكون أمينا في الاستشهاد بهذا التراث، فإنني أجعل العنوان (زيد بن علي، النسخة الشيعية الزيدية)؛ لأنه خلاف النسخة المعروفة عنه عند أهل السنة، ولا سبيل لنا للترجيح بينهما، إلا بإثبات الكتب على سبيل اليقين له، وهذا ما يتعذر كل التعذر اليوم. كما أن الصورة التي لدى الزيدية عن الإمام زيد مختلفة عن صورته لدى الشيعة الاثناعشرية، الذين لا يعدونه إماما، بل سيدا من سادات أهل البيت، يؤمن مثلهم بمعتقدات الاثناعشرية (20).
إذن فهذا البحث لن يكون ذا أثر كبير في معرفة جذور صورة الآخر عند الهادي؛ لأنه كما قلت – من المرجح أن الهادي لم يكن قد اطلع على شيء مما فيه. إلا أنه سيفيدنا في أمرين:
الأول: معرفة أفكار الهادوية المتأخرة، وكيف تأثرت بالإمام زيد (النسخة الشيعية).
الثاني: معرفة كيف أن الشيعة حاولوا تصحيح صورة زيد بن علي، لتكون صورة شيعية خالصة، وليكون أقرب ما يكون إلى أحد أئمة الهادوية في القرن الخامس الهجري، منه إلى زيد بن علي الذي قتل مطلع القرن الثاني الهجري. ومن ثم فهذه الأفكار تعكس تراثا متأخرا، أراد أن يجعل له الحجة استنادا إلى الإمام زيد بن علي نفسه، الذي يعد المرتكز الفاصل بين فرق الشيعة، حيث سُمّي متبعوه: الشيعة، وسُمّي رافضوه من الشيعة: الرافضة.
وفي كتاب (هداية الراغبين على مذهب العترة الطاهرين) (21) للهادي بن إبراهيم الوزير (ت 822 هـ)، بيان وجه آخر للسبب الذي يجعل الزيدية متمسكين أشد التمسك بنسبة الكتاب إلى زيد بن علي، فيقول: (وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه) وهو أول من صنف من العترة النبوية، وبوّب في الفقه أبواباً وتكلّم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة: أبوه وجده الحسين بن علي وأمير المؤمنين … فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة، اثنان معصومان والثالث قريب من العصمة؟ أم غيره من علماء الأمة؟). فهم يعدون علو السند مرجحا كافيا لصحة ما فيه، بل وترجيحه على ما سواه من الروايات في غيره من الكتب.
وبشكل عام؛ فإن تراث زيد بن علي هو أقرب لكونه فكرا لأتباعه، أرادوا منحه مكانة علمية مرجعية، ومن ثم نسبته لزيد بن علي تأتي في هذا السياق. ولكنه اليوم يقرأه الشيعة الزيدية على أنه فكر زيد نفسه. وهذا الذي يسوغ لنا دراسة صورة الآخر في هذا التراث؛ باعتباره أحد المراجع المؤسسة للفكر الشيعي الزيدي.
❃❃❃
والسؤال الآن: ما صورة الآخر لدى الإمام زيد بن علي؟ وما الفكرة المركزية التي تأسست عليها هذه الصورة؟
تكاد صورة الآخر تتأسس عند الإمام زيد على الإمامة أيضا، كما يشير إلى ذلك في رسالته لواصل بن عطاء عن الإمامة (22): (إن الإمامة أول خلاف وقع في الأمة بعد مضي النبي ووفاته). وفي مجموع رسائله أكثر من كتاب ورسالة خصها للإمامة والوصية والخروج. إلا أننا لا نستطيع الجزم بوجود فكرة مركزية في تراث الإمام زيد؛ لأنه لم يمثل بنية خطابية متكاملة، يمكن التأسيس عليها في تتبع جذور الفكرة وتشعباتها، كما لدى الإمام الهادي.
سوف أتناول مفهوم الإمامة عند الإمام زيد، ثم أبين صورة الآخر لديه، ويتحدد الآخر في تراثه بـ: الصحابة، وعلماء الأمة، وعامة الأمة.
الهوامش:
- انظر مثلا: الإمام زيد لأبي زهرة، 232 – وما بعدها. وانظر أيضا: زيد بن علي وآراؤه الاعتقادية، شريف الشيخ الخطيب، 76 – وما بعدها، والطعن في نسبة المسند ص86 – وما بعدها.
- ج6/ ص 2732.
- ج7/ ص60.
- ج7/ ص60.
- ص 61.
- المنزلة بين المنزلتين، ص11.
- مجموع رسائل الإمام الهادي، ص 205.
- مجموع رسائل الإمام محمد بن القاسم، ص 109.
- انظر على سبيل المثال: ص 33، 45، 193، 276.
- الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة في تبيين الزيدية ومذاهبهم، منشور ضمن: مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، ج2 – القسم الأول/384.
- الرسالة النافعة بالأدلة الواقعة في تبيين الزيدية ومذاهبهم، منشور ضمن: مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، ج2 – القسم الأول/390.
- انظر كتاب: الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، للحسين الجورقاني (ت 543 هـ)، ج2/186 – وما بعدها.
- انظر: الإمام زيد لأبي زهرة، 252-253.
- الأحكام في الحلال والحرام، 2/ 21.
- ج1/ ص48.
- ص160-161.
- ج1/ 144.
- ص 217.
- ج4/ 423.
- لمعرفة صورة زيد بن علي لدى أهل السنة يمكن الاطلاع على: الإمام زيد بن علي لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي. وكذلك: زيد بن علي وآراؤه الاعتقادية، شريف الشيخ الخطيب، 1982م، أصل البحث رسالة علمية في جامعة أم القرى، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. ولمعرفة صورة زيد بن علي لدى الاثنا عشرية يمكن الاطلاع على: كتاب (زيد بن علي- إمام زيدية اليمن – حقائق وشبهات، الشيخ حسين علي سرور العاملي، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 2016م).
- ص 181.
- مجموع كتب ورسائل الإمام زيد، 352- وما بعدها.