بعد مَقتل السلطان الطاهري الأول الظافر عامر بن طاهر بن معوضة على أبواب مدينة صنعاء 14 ذو القعدة 870هـ / 27 يونيو 1466م، وتقديم رأسه قُربانًا للإمام الهادوي المُؤيد محمد بن الناصر، تحالف أخوه المُجاهد علي – بعد أنْ انفرد بالحكم – مع الإمام الحمزي المُتوكل المُطهَّر بن محمد، وساعده في السيطرة على ذمار 875هـ، وتفرغ لإخماد عدد من التمردات في المناطق الغربية، والوسطى، وكان عهده أقل استقرارًا من عهد سلفه، ولم يُسجل له المُؤرخون أي توغلات في المناطق الشمالية.
هجوم شامل
بعد وفاة المُتوكل المُطهَّر بن محمد صفر 879هـ / يونيو 1474م، ظهر في المناطق الشمالية عددٌ من الأئمة الضعاف، كعبد الله بن المُطهَّر، الذي خلف الإمام الحمزي المتوفى، وقيل أنَّ قيامه كان على وجه الاحتساب، استقر في ذمار مَسنُودًا كأبيه من قبل الطاهريين، ليطرده الأخيرون – بعد 14 عامًا – منها؛ وذلك بعد أنْ استعر بينهم الخلاف، توجه إلى صنعاء مُلتجئًا، عفا حاكمها المُؤيد محمد عنه، وبقي فيها حتى قام الطاهريون – كما سيأتي – بأسره.
ومن خولان الشام أعلن عز الدين بن الحسن نفسه إمامًا شوال 880هـ / فبراير 1476م، تلقب بـ (الهادي)، كجده علي المُؤيدي مُؤسس الدولة المُؤيدية في صعدة، بايعه أغلب فقهاء مذهبه، ودخلت تحت طاعته بلاد السودة، وكحلان، والشرفين، ولم تجبه باقي المناطق، ودارت بينه وبين الحمزات حروب وخطوب.
ومن ثلا أعلن محمد بن يوسف بن صلاح الدين نفسه إمامًا، مُتلقبًا بـ (الناصر)، رجح الحمزات رغم ضعفه الخطبة له في صعدة لـ 12 عامًا، وذلك نكاية بالهادي عز الدين، ضعف بعد ذلك أمره، وفي ثلا – أيضًا – كانت وفاته 29 شعبان 893هـ / 7 أغسطس 1488م. كما أعلن إدريس بن عبد الله من بلاد الظاهر نفسه إمامًا، وهو حمزي النسب، تلقب بـ (المهدي)، ومات قبلهم، وكان أضعفهم جميعًا.
وبالعودة إلى أخبار الدولة الطاهرية، فبعد وفاة السلطان المُجاهد علي آل الأمر لابن أخيه عبد الوهاب بن داؤود بن طاهر ربيع الأول 883هـ / يونيو 1478م، وكان عهد الأخير كسلفه حافل بالصراعات الأسرية، والعشائرية، سيطر على ذمار لبعض الوقت 889هـ، وتوفي بعد مرور خمس سنوات في جبن، وذلك صباح يوم الخميس 19 جمادى الأولى 894هـ / 19 أبريل 1489م.
وبالعودة إلى أخبار الدولة الطاهرية، فبعد وفاة السلطان المُجاهد علي آل الأمر لابن أخيه عبد الوهاب بن داؤود بن طاهر ربيع الأول 883هـ / يونيو 1478م، وكان عهد الأخير كسلفه حافل بالصراعات الأسرية، والعشائرية، سيطر على ذمار لبعض الوقت 889هـ، وتوفي بعد مرور خمس سنوات في جبن، وذلك صباح يوم الخميس 19 جمادى الأولى 894هـ / 19 أبريل 1489م.
يــالـها مــــن فــــرصـة عــرضت
ما بـهــــــا للنــاظـــريـن خــــفـــا
هـــــذه الأقــــطــــار شــــاغـــرة
وحـمـــــاها انـهّــــــد وانــقصــفا
فـاشرعوا في عـــــــود أرضــكم
واستـــعيـــــدوا ذلك الطـــرفـــا
بـــــــل إذا يـمـمتــــــم عــــــدنًا
وزبيـــــدًا موطن الظــــــرفـــــا
وطــويــــتــــم نــــشـــر ملكهم
مثــل طي الكــاتـب الصحفــــا
إن تـــراخيـتـــم بـهـــا زمــــــنًا
قـــدر شـــهـر فـــــارقبوا التلفا
تحقق حَدس الشاعر الزحيف، وجاء دولة الإمامة الزّيدِيّة التلف من حيث ما تَوقع؛ خاصة بعد أنْ تَولى زمام الدولة الطاهرية السلطان الأشهر الظافر عامر بن عبد الوهاب، بِوصية من والده السلطان المتوفى، وتحول مسار تلك الدولة من الدفاع والهجوم الضيق، إلى الهجوم الشامل والمتوثب.
كان السلطان عامر قوي العزيمة، شديد البأس، لا يكل ولا يمل عن مقارعة خصومة، من داخل أسرته أو من خارجها، استعاد في نهاية العام التالي السيطرة على ذمار ذي الحجة 895هـ / أكتوبر 1490م، وقام بهدم أسوراها، والتنكيل بأنصار الإمامة فيها، وجعل عليها من يثق به، ثم بدأ بعد ذلك بتوجيه غاراته شمالًا، وطرق أبواب مدينة صنعاء.
وفي أواخر عام 900هـ / 1495م أعلن محمد بن علي الوشلي السراجي من منطقة القابل في وادي ظهر نفسه إمامًا، تلقب بـ (المنصور)، ونعته المُؤرخ ابن الديبع بـ (برئيس أهل البدعة، ومُؤسس الفتنة)، سيطر هذا الإمام بسرعة على عدد من المناطق والحصون، وحاول بعد أربعة أعوام استعادة ذمار من أيدي الطاهريين ربيع الأول 904هـ / نوفمبر 1498م، إلا أنَّه مني بهزيمة نكراء، نجا من تلك المعركة بصعوبة، ووقع كثير من أصحابه بين قتيل، وجريح، وأسير، ليسيطر السلطان عامر في الشهر التالي على حصن هداد في بلاد الحدا، وما جاوره من مناطق وحصون.
توجه السلطان عامر بعد ثلاثة أعوام بجيش كبير صوب صنعاء 29 رجب 907هـ / 6 فبراير 1502م ، وحاصرها لأكثر من خمسة أشهر (كان هذا الحصار الأول)، وقذفها بالمنجنيق؛ فما كان من صاحبها المُؤيد محمد إلا أن استنجد بالقبائل، واستنجد أيضًا بالإمام محمد الوشلي مُعترفًا بإمامته؛ وبالفعل جاءه المدد، وأجبر الطاهريين بداية العام التالي على التراجع إلى ذمار 7 محرم 908هـ/ 12 يوليو 1502م.
وعن ذلك الحصار قال الإمام محمد الوشلي قصيدة طويلة، نقتطف منها:
أمثــلي مــن يطيـــــــب لـه الـمــــنام
ويـــهـــنــــاه الشــــراب أو الطــعــام
وصــنــــعــاء الـمـديـنـــة في بـــــلاءٍ
أحـــــاط بســــورها القــــوم الطـغام
ذوو الجبــــــر الـــذين لـهـــم مقـــال
تــــلازمـه الشـنـــــاعـــة والـمــــــلام
فـإن رئـيـــســـــهم رجـــل غشـــــوم
على صــنــــعـــاء يــبـــنـــيه الـمـقام
وذلك عـــامــــر لا طــــــال عـــمــــر
لـه الطــــاغي وعــاجـــــله انتـــــقام
وإنـي ســـــوف أحشــــد من عداهم
وألـــزم مـــــن أتـــــاه الاحــــتــــلام
ولا أبـــــقي ســوى الـمعـــذور شرعًا
صغـــيـــرًا أو كَــــبـــيــــرًا لا يــــلام
نجح السلطان عامر ومعه آلاف المقاتلين (قدرهم أحد المُؤرخين الإماميين مُبالغًا بـ 170,000مُقاتل!) بدخول مدينة صنعاء 7 شوال 910هـ / 12 مارس 1505م، وذلك بعد أنْ حاصرها – هذه المرة – لأقل من ستة أشهر، وبعد نشوب عدد من المعارك، أجبرت سكانها على طلب الأمان، ونجح في آخرها – أي المعارك – في أسر الإمام محمد الوشلي، ليموت الأخير نهاية ذات العام في سجنه، عن 65 عامًا، وقيل أنَّه – أي السلطان الطاهري – دس له السم؛ ليتخلص من طموحاته الإمامية وإلى الأبد.
بقي السلطان عامر في صنعاء ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، واستخلف عليها قبل مُغادرته الفقيه محمد النظاري، وأرسل حاكمها السابق المنتصر بالله أحمد إلى تعز، ومعه عبد الله بن الإمام المُطهَّر، وقد بقي الأول فيها مُجللًا مُكرما مع أهله وحشمه وبعض معاونيه إلى أنْ توفى 912هـ.
بعد عامين من قضاء السلطان عامر على دولة الإمامة الزّيدِيّة في صنعاء، وتجاوز سيطرته تلك المدينة المسورة وما بعدها من مناطق، حتى مشارف صعدة، وجدها يحيى شرف الدين فرصة سانحة لتصدر المشهد، أعلن في 11 جمادى الأولى 912هـ / 28 سبتمبر 1506م نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المُتوكل)، وهو حفيد المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الهادوي، وسبط المتوكل المُطهَّر بن محمد الحمزي، وأحد تلاميذ المنصور محمد الوشلي، ورغم أنَّ أخواله من الحمزات، لم يتوقف الصراع بينه وبين الأخيرين طوال فترة حكمه.
كانت العشر السنوات الأولى من إمامة يحيى شرف الدين ذات حضور باهت، أرسل في أولها بخطاب دعوته إلى عدد من الأعيان، فأجابه البعض، وخذله كثيرون، كما حاول أنْ يتمدد إلى بعض المناطق الغربية على حساب دولة آل المُؤيدي في صعدة، حيث توجه بداية عام 914هـ / 1508م بــ 560 مُقاتل إلى بلاد الشرف، نكل بمعارضيه، واستفتح حصون بلاد الطرف، وسيطر بعد إحدى المعارك على مدينة القاعدة المجاورة، القابعة على ضفاف إحدى الأودية.
وإكمالًا للمشهد أترككم مع ما قاله كاتب سيرته: «فاستفتح المدينة – يقصد القاعدة – عنوة، وغنم الجند ما فيها، وأمر بإحراقها يومين متواليين، ثم انتقل إلى جهات المحابشة، ثم بني هَلاَّن وجهاتها..»، ودخلت في طاعته في ذات العام – كما أفاد ذات المُؤرخ – منطقة كحلان، وجبل الأهنوم، فيما ظلت منطقة حضور الشيخ – من أعمال كوكبان، ومسقط رأسه – تحت سيطرة الطاهريين، وقد انكمشت في الأعوام التالية دولته، ولم تتجاوز ظفير حجة مُنطلق دعوته.
وقد أرجع هو نفسه – في رسالة له – سبب تلك الانكماشة إلى افتقاره إلى العدة والرجال، وعدم وجود المُعينين والأنصار، وأضاف مُتهكمًا: «وميل من الناس إلى الأطماع الحقيرة، وانخداع من الخلق بزخارف الباطل الفاضحة المُبيرة، حتى تمكن منهم هذا الظالم الغشوم – يقصد السلطان عامر بن عبد الوهاب – وأوقعهم من الخزي والوبال والهوى في أقصى التخوم».
ووصل به الأمر بأنْ بعث – في ذات العام – برسالة وعظية طويلة للسلطان عامر، طعمها بالكثير من الآيات القرآنية، والاستدلالات التي تشير إلى أفضلية سلالته، وأحقيتهم بالحكم والولاية، ودعاه في آخرها إلى أمرين، أما أنْ يدخل في طاعته؛ كي يفوز بخير الدنيا والدين، وإما أنْ يعينه بشيء من المال والبلاد، تقربًا إلى رب العباد!
الحرب الصليبية الثانية
(الإنجيل – المجد – الذهب)، ثلاثة بواعث مُحفزة قادت الرحالة البرتغالي فاسكو دي جاما لاكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 904هـ / 1498م؛ وذلك بعد مرور ست سنوات على سقوط مملكة غرناطة العربية في الأندلس، لتتحول مملكة البرتغال بفعل ذلك إلى إمبراطورية عظمي، وبالأخص بعد أنْ أنشأت مراكز تجارية مُسلحة بدءًا من عاصمتها لشبونة، مُرورًا بسواحل أفريقيا الغربية، والجنوبية، والشرقية، وصُولًا إلى شواطئ الهند، والخليج العربي.
دشنت البرتغال حربها البحرية تلك، وهي من عُرفت بالحرب الصليبية الثانية، وحظيت بِمُباركة البابا نفسه، وأقسم ملكها مانويل الأول بأنَّه سيقوم بنبش قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ رُفاته رهينة حتى يتخلى المسلمون عن الأماكن المُقدسة في فلسطين، وقام قادتها البحريون – لأجل ذلك – بأربع محاولات فاشلة للسيطرة على مياه البحر الأحمر؛ وهو الأمر الذي اهتزت له مشاعر المسلمين، وجعل العرب منهم يتقبلون – كما سيأتي – التواجد التركي (العثماني) في مناطقهم.
في رحلته الثانية إلى الهند 908هـ / 1502م، وتنفيذًا لأوامر حكومته، أرسل فاسكو دي جاما حملة مُكونة من خمس سفن حربية للإقامة الدائمة عند مدخل البحر الأحمر، ولم يدون المُؤرخون تفاصيل أي اعتداءات قامت بها تلك الحملة، سواء على الموانئ المجاورة، أو على السفن العابرة، والراجح أنَّها – أي الحملة – كانت استكشافية.
باحتكارهم لتجارة الشرق، أدخل البرتغاليون دولة المماليك بمصر والشام – والمنطقة بشكل عام – في دوامة من الإنهاك الاقتصادي؛ وهو الأمر الذي دفع السلطان قنصوة الغوري للتحرك، فأرسل في البدء أسطولًا تجاريا إلى ساحل مالابار الهندي 910هـ / 1504م، وقد تعرضَ ذلك الأسطول – أثناء عودته – لهجمات الأسطول البرتغالي، وصُودرت معظم شحناته من التوابل، والسلع الهندية.
جهز السلطان الغوري – بعد ذلك – حملة بحرية عسكرية بقيادة الأمير حسين الكردي، وحظي هذه المرة بمساندة السلطان العثماني بايزيد الثاني، وقد اهتمت تلك الحملة – قبل توجهها إلى الهند – بتحصين ميناء جدة، وفي شواطئ الهند ألحقت – بادئ الأمر – بالأسطول البرتغالي هزيمة كبيرة، ولم يمض من الوقت الكثير حتى أعاد البرتغاليون تحت قيادة نائب الملك البرتغالي في الهند فرانسسكوا دالميدا الكرة شوال 914هـ / 3 فبراير 1509م، وحققوا عليها انتصارًا ساحقًا، كان له ما بعده.
استفحل – بعد ذلك – الخطر البرتغالي في مياه المحيط الهندي، وخليج عدن، وأحكموا سيطرتهم على مدخل البحر الأحمر، وبالأخص بعد تعيين ألفونسو دلبوكيرك نائبًا لملكهم في الهند، وسجل المؤرخون قيامهم – في العام التالي (915هـ) – بالاستيلاء على بعض السفن اليمنية الخاصة بالسلطان الطاهري عامر بن عبد الوهاب؛ وهو الأمر الذي جعل الأخير يفتح خط تواصل مع السطان الغوري، ويتبادل معه الهدايا والمراسلات.
يُعد ألفونسو دلبوكيرك – الذي حمل لقب (قيصر الشرق) – من أشهر الملاحين البرتغاليين، وأكثرهم تعصبًا، وأشدهم وحشية، وقد تَفرَّدت وثيقتان برتغاليتان بذكر تفاصيل خطة جهنمية كان هو عَرَّابهَا، كشفت – أي الخطة – بمضمونها الصادم عن وجود تنسيق برتغالي صفوي (إيراني) لاحتلال القدس، ومَكة المكرمة، ولأجل تنفيذها أرسل دلبوكيرك مبعوثًا خاصًا للشاه إسماعيل الأول بن حيدر (مؤسس الدولة الصفوية في إيران) ذي الحجة 915هـ / مارس 1510م، مع رسالة شَارحة كتبها بعد احتلاله لمدينة غوا الهندية، وممارسته – كعادته – جرائم حرب شنيعة في حق سكانها المسلمين، والتقائه بسفير الشاه فيها.
حوت الوثيقة البرتغالية الأولى تلك الرسالة، وفيها خَاطب دلبوكيرك الشاه الصفوي قائلًا: «وإذا أراد الله لهذا التَحالف والتعاون أنْ يتما، فلتنقض بكل قواتك على القاهرة وبلاد السلطان الكبير – يقصد السلطان المملوكي الغوري – التي لها حدود مُشتركة معك، وسيأتي سيدي الملك البرتغالي إلى القدس، ويستولي على كل الأراضي في هذه الأنحاء».
وعزز دلبوكيرك رسالته تلك بتعليمات شاملة لمبعوثه الخاص روي جوميز، نقلت الوثيقة البرتغالية الثانية نصها، ومنها اقتطفنا: «وستقول له – أي للشاه – إنَّه عندما يهب ويهاجم الكعبة ليتملكها، فسوف أدخل البحر الأحمر وأتجه بأسطولي إلى ميناء جدة، وسأفعل الشيء نفسه..»، وأضاف: «واذكر له أنَّ الملك – يقصد ملك البرتغال – ضد السلطان وضد الترك بحرًا وبرًا».
بالتزامن مع قيام دلبوكيرك بِمحاولاته الأولى والفاشلة – بفعل الرياح – للسيطرة على مَوانئ عدن، والمخا، والحديدة، وجدة، أرسل الشاه إسماعيل – بداية عام 919هـ / 1513م – بمبعوث خاص من قبله إلى مدينة غوا الهندية، التي أصبحت مَقرًا رئيسيًا للبرتغاليين في المنطقة، وحمله رِسالة عبر فيها عن رَغبته بأنْ يتم إرسال سفير برتغالي إلى بلاطه، وأفاد الابن غير الشرعي لدلبوكيرك في مُذكراته أنَّ والده التقى ذلك المبعوث فور عودته إلى مدينة كوتشين 17 شوال 919هـ / 15 ديسمبر 1513م، وأرسل معه ميجويل فيريرا سفيرًا، وحَمَّلَ الأخير التعليمات ذاتها التي حملها روي جوميز من قبل.
وتَأكيدًا لما سبق، جَاء في كتاب (تاريخ الدولة الصفوية) أنَّ المبعوث الفارسي توجه إلى الهند بالتزامن مع استعدادات سيده الشاه لمهاجمة البحرين، والقطيف، وأنَّه – أي المبعوث – وَقَّعَ مع البرتغاليين على اتفاقية تفاهم من ثلاثة بنود، وقد دعا البند الأول من تلك الاتفاقية إلى قيام قوة برتغالية بمساندة الشاه إسماعيل في حملته تلك، إلا أنَّ الرياح أتت بما لم تشتهِ سفنهم.
بعد عشر سنوات من تأسيسها، تجاوزت الدولة الصفوية هضبة إيران، وبدأت تُهدد حدود دولة آل عثمان؛ وهو الأمر الذي جعل السلطان سليم الأول يوقف زحوفاته صوب الغرب، ويعقد معاهدات سلام مع روسيا، والمجر، والبندقية، ويقود – بعد عامين من توليه الحكم – قوات جرارة للقضاء على الخطر القادم من الشرق 20 جمادى الأول 920هـ / 13 يوليو 1514م، ويخوض مع الشاه إسماعيل معركة تشالديران، وهي معركة شبه فاصلة، أخرت التمدد الصفوي لأكثر من 20 عامًا.
الشاه إسماعيل، القائد الذي لم يُهزم في مَعركة قط، تركت هزيمته – تلك – في نفسه أثرًا كبيرًا، وبالأخص بعد أنْ اهتزت قَداسته بنظر أتباعه، وقد كانت بعد مرور عشر سنوات وفاته، وهو لم يتجاوز مرحلة الشباب بعد، والمُفارقة اللافتة أنَّ صديقه نائب ملك البرتغال في الهند دلبوكيرك مات – هو الآخر – كمدًا 11 ذي القعدة 921هـ / 16 ديسمبر 1515م؛ وذلك بعد أنْ وصله قرار عزله، وتعيين لوبوا سوارز بدلًا عنه، ونفس الأمر طال السلطان قنصوة الغوري، بعد هزيمته في معركة مرج دابق الآتي ذكرها.
سبق للسلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب أنْ قام بتجهيز حملة بحرية مُتواضعة للتصدي للبرتغاليين، إلا أنَّها فشلت، وحين تعاظم خطرهم؛ تحاشى التصادم معهم، ثم ما لبث أنْ استنجد بالسلطان قنصوة الغوري، وأذن للمماليك بإقامة قواعد بحرية على السواحل اليمنية، واعدًا إياهم بتقديم الدعم والمساندة، ليتخلى بعد سماعه لمشورة وزيره عمر الجبرتي (قتله المماليك فيما بعد) عن وعده، ورفض أثناء مكوثهم في جزيرة كمران مدَّهم بالطعام والمؤنة؛ فما كان منهم إلا أنْ أعلنوا – بعد أربعة أشهر من ذلك المكوث، وتحت قيادة الأمير حسين الكردي – الحرب عليه، وكانت مدينة زبيد أول المدن اليمنية سقوطًا 19 جمادى الأولى 922هـ / 19 يونيو 1516م، فيما استعصت عليهم مدينة عدن.
لم يلتزم المماليك – أثناء الصراع العثماني الصفوي – بالحياد فقط؛ بل أيدوا حاكم مرعش والبستان أثناء قيامه بمهاجمة القوات العثمانية الزاحفة صوب إيران، وتحدث بعض المُؤرخين عن وجود تحالف سري بينهم وبين الصفويين؛ وهو الأمر الذي جعل السلطان سليم الأول يُسارع بالقضاء على دولتهم، التي كانت حينها – وبفعل الغزو البرتغالي – في قمة التخبط، وغاية الضعف، وقد تم له ذلك بعد انتصاره عليهم في معركة مرج دابق الشهيرة 25 رجب 922هـ / 24 أغسطس 1516م.
بعد دخول القوات العثمانية مدينة القاهرة المصرية بشهر وبضعة أيام، تحقق للقوات المملوكية تحت قيادة بارسباي (تولى القيادة بعد توجه الأمير حسين الكردي إلى جدة) دخول مدينة تعز اليمنية 6 صفر 923هـ / 27 فبراير 1517م، ثم مدينة صنعاء 23 ربيع آخر 923هـ / 14 مايو 1517م. وتفرَّد المُؤرخ بامخرمة بِذكر حادثة مفادها أنَّ الممامليك تواصلوا – قبل توغلهم ذاك – مع السلطان عامر، الذي توجه لحربهم، وعَرضوا عليه الصلح والانسحاب من سواحل اليمن الغربية مُقابل الكثير من الأموال، إلا أنَّه وبعد أنْ استمع لمشورة بعض خواصه، رد رسلهم خائبين.
وهكذا أنهى المماليك حقبة الدولة الطاهرية في اليمن، بالتزامن مع إنهاء العثمانيين لحقبة دولتهم في مصر والشام؛ فما كان من قادتهم – هنا – إلا أنْ أعلنوا ولاءهم للسلطان العثماني سليم الأول، وجعلوا الخطبة في صنعاء وتعز وزبيد باسمه. والحق يُقال: أنَّه لولا استخدام المماليك للمدافع، والبنادق (الغدارات)، ولولا مُساندة الإمام الزيدي يحيى شرف الدين لهم؛ ما انتصروا في حربهم تلك، وما تقدموا في المناطق اليمنية قيد أنملة.
الزلابيا
سبق للإمام المُتوكل يحيى شرف الدين أنْ طلب النصرة من المماليك، وأغراهم بخيرات وأملاك الطاهريين، وبعث برسالة لقائد حملتهم الأخيرة الأمير حسين الكردي، وذلك أثناء تواجده في جزيرة كمران، وصفه فيها بـ «مفرج كرب العترة الطاهرة الزكية، الناقم بثأر الحرمين من الفرقة الغوية الظالمة العامرية، المتحلى من أجل ذلك بكل زين، المتبري إن شاء الله من كل شين، الوافي بحق سيد الشهداء المختار الحسين».
وهي رسالة استعطافية طويلة، شنع فيها على عامر بن عبدالوهاب، مُذكرًا بقيام ذات السلطان بعد دخوله صنعاء بنفي عدد من العلويين إلى تعز، وزبيد، وجبلة، وقال عن ذلك: «وتتبع – يقصد السلطان الطاهري – بمعظم خبثه وجوره ومكره أعيان بيت النبي، ولم يتبق في سلطانه لأهل البيت باقية، ولا أجيب لهم لحاجة نافعة واعية، حتى بددهم هذا الظالم إلى البلاد، وفرق منهم بين الآباء والأولاد، ومات الأكثر منهم في تخوم اليمن مطرودين، مبددين، مشردين، يتمنى الولد أنْ يحضر موت أبيه، والوالد أن يُشاهد أحوال بنيه، وفعله بآل المصطفى ما قد حرمه الله في ملك اليمين؛ بل في سبي الكفار الخارجين من الدين، وأعانه في ذلك رجل منا أهل البيت – يقصد إمام صعدة الناصر الحسن المؤيدي – ادعى ما ليس بحق له..».
وأضاف مُحرضًا: «لأنها – أي الرسالة – التنبيه بما فتح الله على أيديكم من الفتوح الهنية، والحث على استدراك هذه البقية من عترة نبيكم الطاهرة الزكية، وبذل المعاونة على استخلاص ساير البلاد من يد الطاغي وأعوانه، وأنصاره، وقد بقي لنا بلاد مجاورة لبلاده العليا، ونحن نفتقر فيها إلى الإعانة منكم بما أمكن من الرجال والعدة».
بقتلهم للسلطان عامر بن عبدالوهاب على تخوم مدينة صنعاء 22 ربيع الآخر 923هـ / 13 مايو 1517م، أنهى المماليك حقبة الدولة الطاهرية، وذلك بعد 63 عامًا من الصراعات والإنجازات المهولة، وقد أشاد المُؤرخ ابن الديبع بذلك السلطان، وقال أنَّه كان على جانب عظيم من الدين والتقوى، وأنَّه نشأ في طاعة الله، ولم يعلم له صبوة، وأضاف: «كان مُلازمًا للتلاوة والأذكار، كثير الصدقات، له مآثر عظيمة من مساجد، ومدارس، وخيرات»، ويعتقد ذات المُؤرخ أنَّ نكبته على يد المماليك كانت عقاب رباني بسبب تعرضه أواخر حُكمه للأوقاف، وإضافة نصف حاصلاتها إلى ميزانية الديوان؛ والحق يُقال: أنَّه – أي السلطان عامر – لجأ لذلك التصرف بفعل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بدولته بسبب التطورات السابق نقل تفاصيلها.
ثمة حكاية شعبية مُتداولة، مفادها أنَّ المُنجمين أخبروا السلطان عامر أنَّ نهايته ستكون على يد الزلابيا، والأخيرة نوع من أنواع الخبز المقلي بالسمن، وعليه فقد حَرَّم على نفسه أكلها نهائيًا! وعندما وصل إلى سفوح جبل نقم مُطاردًا، سأل الشخص الذي كان يتعقبه عن اسمه، فقال له: (ابن الزلابيا)، فانهار من فوره، وسقط دون مُقاومة، فقتله ذلك الرجل بأيسر ما يكون.
وقد بكاه اليمنيون، ورثاه عدد من الشعراء، وذكر المُؤرخ النهروالي أنَّه سمع بعد تلك الحادثة بعشرين عامًا بيمنيين ينعونه بمراثي، جعلوا لها طرائق يُغنون بها؛ وهذا وإنْ دل، فإنما يدل على أنَّه كان قائدًا عظيمًا، أحب الناس، فأحبوه.
بعد مقتل سلطانهم الرابع والأخير، اتخذ بقايا الطاهريين من عدن قاعدة لهم، وتجاوزت سيطرتهم تلك المدينة إلى بعض المناطق الوسطى، والجنوبية، وهي سيطرة مُتذبذبة استمرت قرابة الـ 22 عامًا، وبالتحديد حتى مقدم سليمان باشا الخادم بحملته الكبيرة، الآتي نقل تفاصيلها.
استغل البرتغاليون الأحداث الأخيرة؛ وتوجهوا بحملتهم الثانية للسيطرة على مياه البحر الأحمر 17 محرم 923هـ / 8 فبراير 1517م، تحت قيادة نائب ملكهم الثالث في الهند لوبوا سوارز، وما أنْ وصلوا – في الشهر التالي – إلى شواطئ عدن، حتى عمل حاكم تلك المدينة مرجان الظافري على مُهادنتهم، وليت الحاكم البائس اليائس اكتفى بذلك؛ بل انصاع لأوامرهم، وعرض عليهم مفاتيح المدينة، وأمدهم بأربعة من أكفأ مُرشديه البحريين؛ وكان – بحق – أبا رِغال عصره.
يتبع ..