تكاثرت الدعوات المنادية بإصلاح الدين الإسلامي وتجديده وإحداث ثورة إصلاحية على غرار ثورة البروتستانت في أوروبا، وظلت أعناق التائهين مشرئبة إلى مارتن لوثر إسلامي!
ورغم أن حركة التجديد والإصلاح لم تنقطع في مسيرة المسلمين في القديم والحديث، تنفيذاً لوعد الله ومقتضى ختم الرسالة، قال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 181). وقال صلى الله عليه وسلم: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ” (صحيح البخاري). وقال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها” (سنن أبي داوود).
فحركة التجديد الإسلامي لم تتوقف منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مقتضى ختم الرسالة أن تبقى حجة الله قائمة على البشرية، ناصعة جلية. غير أن مبعث هذه الدعوات المشبوهة هو تبديد الدين في النفوس، والالتفاف على عقول الجيل الجديد من خلال حيلة في ظاهرها تجديد الدين، وفي باطنها تسويق المضامين العلمانية الغربية تحت رداء التجديد المزعوم. وقد عمدت القوى الكارهة للإسلام إلى إنشاء مراكز تجمع الموتورين من بقايا اليسار والعلمانية، لتقديم خطاب ديني تجديدي، ينزع إلى إحداث ثورة إصلاح ديني، وإخراج مارتن لوثر إسلامي، ينتشل الإسلام من وهدة التخلف والجمود كما يزعمون.
وقد أبدع الكاتب الأستاذ إحسان باحارثة، إذ التقط الخيط وتتبع ثورة الإصلاح الديني المسيحي الأوروبي، وعرض أهم مضامينها الفكرية، وهي مضامين شاذة في أغلبها، ينفر عنها الطبع السليم. تمحورت هذه المضامين حول نقل القداسة من البابا إلى الحاكم السياسي، وفتحت الباب مشرعاً أمام الفكر اليهودي ليغزو الساحة المسيحية، فصارت الصهيونية المسيحية إحدى الثمار المُرّة التي حصدها الغرب من حقل الإصلاح الديني. لقد كان مارتن لوثر كارهاً لليهود ومعادياً للسامية بحسب مصطلحهم الأخير، ولكنه كسر الحواجز أمام الفكر اليهودي من حيث لم يحتسب، حيث أتاح للمسيحي العادي قراءة العهد القديم، فامتزج التحريف التوراتي بالإنجيلي، وأنتج هذا الخليط السام من الصهيونية الصليبية، فصاروا يصفون الحضارة الغربية بأنها الحضارة اليهودية المسيحية، ولو قام مارتن من مرقده لمات كمداً على المآل الذي ساقهم إليه إصلاحه بدون وعي منه.
كما عرض المؤلف أفكار الإصلاحيين تجاه المرأة، فعلى الرغم من بعض الدعوات لتعليم النساء والسماح بالطلاق في حالات معينة، فإن الإصلاحيين بشكل عام عززوا الأدوار التقليدية للمرأة كخادم للرجل، ولم يشجعوا على مشاركتها الفعالة في الحياة العامة أو الكنيسة.
أما موقف الإصلاحيين البروتستانت من الآخر فقد كان غاية في الإقصاء والتكفير والعنف مع الآخر. وقد حشى زعماء حركة البروتستانت خطابهم بالتكفير والإلغاء لكل من عارضهم، ومن أبرز الأمثلة على هذا التعصب موقف المصلح الفرنسي جون كالفن (1509-1564) من الطبيب الإسباني “ميغيل سرفتيوس”، الذي انتقد عقيدة الثالوث. فاستدعاه كالفن إلى جنيف لمناقشته ثمَّ غدرَ به، وقتله وأحرقه بعد محاكمته، وكان لا يزال حيًّا عند حرقه فوق كومة من كتبه!
وقد وقف الكاتب على آثار الإصلاح الديني في أوروبا، وكيف تسبب الإصلاح الديني في تأجيج الحروب الدينية التي استمرت لمائة عام، وكان أسوأها حرب الثلاثين عاماً، التي راح ضحيتها 30% من سكان ألمانيا وحدها، فضلاً عن بقية الدول المتصارعة، وهي الحرب التي أسست للدولة القومية العنصرية الحديثة. وكذلك الآثار التي خلفتها في التفكير الأوروبي، حيث ساهمت أفكار الإصلاح الديني في إنتاج الرأسمالية المتوحشة، وقد رصد ذلك عالم الاجتماع “ماكس فيبر” في كتابه: (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)، حيث اعتبر الرأسمالية إحدى تجليات الإصلاح الديني، في رصد ذكي لدور التفكير العقدي في تكوين النظم الاقتصادية الحديثة.
أما في الضفة الأخرى فقد أسفرت حركة الإصلاح الديني اليهودي “الهسكالاه” عن تحديث الفكر اليهودي وتكيفه مع الأفكار الأوروبية الحديثة. فشجعت هذه الحركة على التعليم العلماني، وكانت ثمرة الإصلاح اليهودي علمنة المجتمع اليهودي في أوروبا بغية الاندماج في المجتمع.
وقد فطن الكاتب إلى ضرورة المقارنة بين الإصلاح الديني في أوروبا والتجديد الإسلامي الذي سعى لإزالة غواشي الأيام عن النبع النقي للوحي، وتجديد العمل بالمصدر الأصلي للدين من قرآن وسنة. وهذا هو جوهر التجديد الذي ظهر في كل قرون الإسلام، وكان لعصرنا منه النصيب الأوفر، حيث تقاسم تركة التجديد صالحو المسلمين زرافات ووحداناً، وقدموا نماذج متقدمة من الاستمساك بالكتاب قولا وعملاً، وتطويع منتجات العصر الحديث لخدمة الرسالة الخالدة، وقاوموا الذين أرادوا تطويع الوحي ليجاري أهواء العصر الحديث.
وستبقى محاولات التملص من الوحي الإلهي، وتسويق الأهواء البشرية ما بقيت الحياة، ودور المصلحين مدافعة هذه المحاولات الباهتة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.. والله الموفق أولاً وأخيراً.