النَّاسُ إن شكوا لكَ يا الله فما ذلكَ إلا من أوجِّ ضيقٍ وبلاء، وأمَّا أنا فلا أدري كيفَ أُقَدِّمُ شكواي بين يديكَ وهي لا تبلغُ مقام شكواهم ونوائبهِم؟!
الناسُ كحالي قد يقولون: “يا الله لمَ خلقتَ لي قلبًا حسَّاسًا؟!” أو “لمَ خلقتَ لي روحًا شاعريَّة”،
أما أنا فأقولُ يا اللهُ لمَ خلقتَ لي أنفًا شاعريًّا؟!
أنفًا يتحسَّسُ الهواءَ العابرَ من أيِّ المطارحِ أتى، وأيُّ المشاعِرِ عايشَ، وأيُّ حالٍ عاودهُ فما عادَ…
إنني أشكوكَ يا اللهُ هذا الأنفَ، أقضَّ مضجعي، وهيّجَ حنينًا لأيَّامٍ أُفتّشُها ولا أجِد، وأحزانًا لا أقفُ لها على سبب، وهكذا الحالُ كُلَّما أقبلتُ على النسيمِ من شرفةِ منزلي، تعترِكُ صورٌ كثيرةٌ لذكرياتٍ ومشاعرٍ جمَّة لا أستطيعُ تحديدها، ولا أعودُ إلا بتساؤلٍ دائِم:
هذا النسيم يحملُ ذكرى عشتُها، وقلبي يستذكِرُ حُلوها ومُرّها فأيُّها كانت؟
تعصرُني ذاكرةُ قلبي ولا أخرجُ بصورةٍ واضحةٍ إلا صورًا وجدانيةً أتحسَّسُها أيسرَ صدري عن عذوبة الذكريات وتقلّبها، فهل يا تُرى أشكي الأنفَ أم أشكي النَّسيم؟!
كيف لذاكرةِ النسيمِ ألّا تُخطئ التوقيت، كيف لهذه الذاكرة أن تأتي بذكرياتِ الربيع في وقتها، وذكريات الشتاء في وقتها؟
حتى ذكرياتُ السَّعي والأمل، وذكرياتُ الألم، واليأس، والخوف، والمحاولات.
أجزمُ أنَّ ذاكرتي ليستِ الجيّدة، بل ذاكرةُ النسيم، وليسَ أنفي الشاعريّ، بل النسيمُ ذاتهُ، وعلى قدرِ حنوِّ هبوبه على قدرِ الألمِ والحَيرةِ التي يتركُها، أمرٌّ مؤرقٌ أن تستنشقَ عبقَ ذكرى عادَ بها النسيمُ بعد دورتهِ الكاملةِ حول الأرض، ثم بعد هذا المجهودِ تنساها!
كنتُ أسأل النسيم في كلِّ مرةٍ أن يعودَ لي بذكرى أتذكرُها ولا تتركُ الشجنَ بقلبي دونَ معرفتها، نعم لقد فعل!
لقد عادَ مرةً بذكرى عرفتُها ولكنّها دمَغَت رُوحي كمدًا؛ كنتُ كلّما استنشقتُ هبوبهُ أعودُ لغرفتي متألمةً وبللُ العين في وجنتَي، غصةٌ تقفُ دون أن أتذوّقَ بقية الذكريات المحمولة، الهبوبُ تلك المرة كان مختلفًا حتى شعرتُ أنَّ هذا النسيمَ ليس نسيمَ يمَنِي، وفي اليومِ التالي أتى النسيمُ محمولًا بالصِبغةِ ذاتها، استنشقتهُ عن آخرهِ حتى زفرتهُ مع أوَّلِ دمعة، لقد كانَ مُختلفًا حقًا، لقد كان نسيمًا محمُولًا بالعويلِ، محمولًا بالاستغاثةِ، محمولًا بمسكٍ حزينٍ تشُوبهُ الدماءُ، محمولًا بزيتونٍ مُغتصبٍ، لقد كان نسيمُ غزَّة، نسيمُ مسْكِ شُهدائِها المُشرَّف بالدِّماءِ، نسيمُ عويلِ الثَّكالى، واستغاثةُ الأطفال، نسيمًا بسَّنِي بسًّا وذَرَانِي خوْرًا وعجزًا…
أُلقَيتُ محسورةً في مكاني؛ لطالما تهرّبتُ عامدةً الكتابةَ عن هذا الألمِ الناخرِ في سويداءِ القلب؛ ولكن كانت كُلُّ ذرّة هواء عبارة عن ذاكرةٍ تصويريّة استنشقها وتهجمُ عليّ بصورٍ كثيرةٍ مُمَزِقَةٍ؛ أرى هناكَ أشلاء أطفالٍ مُعلّقة، وإخوةً لم يعد لهم من العائلة اسم أبيهم، أرى أُمًّا تبكي ثمار عمرها التي قطفها اليهودُ بأشنع الطُرُق، أرى أجسادَ أحرارٍ متفحمةٍ وأخرى مدهُوسة بغدر، وأحياء مبتورُون لا يدري أحدهم بأيِّ لحظةٍ طارت قدماهُ؟!
أرى الأرضَ تبكي وتمقتُ نفسها كونها تشهدُ هذا كُلّهُ دون أن تستطيع بلعَ اليهود عن بكرةِ أبيهم، أرى نسيمَ غزة يئنُّ متخبطًا كالمجنونِ لا يدري أيُّ أنفاسِ المعاناةِ أحقُّ أن يحملها من مدينةٍ لأخرى ليستنقذَ المسلمين ولكن ما من جدوى، هذا النسيمُ أضعفُ جنديٍّ على وجهِ الأرض أبى إلّا أن ينقلَ المُعاناةَ، أبى إلا أن يُشاركَ أديمَ غزَّةَ مُصابها، وأن يجعلَ الجميعَ يستنشقُ الألم الغَزِيّ والنداء الفلسطيني، وأبيتُ إلّا الاستجابةَ بحرفي الهزيل، حرفي الذي لا يقوى أن يكتبَ عن هذهِ العزَّةِ السَّامقة، والألمِ المُجحِف الذي لا يطالهُ الخيالُ استيعابًا، لو كتبتُ فما عساي أقول، أيُّ حرفٍ سيصفُ حقَّ الوصف وأيُّ حرفٍ سينقلُ الحقيقةَ، ومن أين سيبدأُ الحرفُ وأين سينتهي والقصةُ قصَّةُ إنسانٍ يدفعُ ثمنَ وعدٍ آثم، قصّةُ إنسانٍ ظنَّ عضدهُ بدمهِ ثائِر، قصَّة إنسانٍ منهُ نُقِمَ إيمانًا وبأرضهِ ثابت!
ماذا عسى حرفي أن ينسُجَ أمام نسجِ دمائهم، وأي بلاغةٍ ستُكتبُ أمامَ بلاغةِ تضحيتهم، هل أَدرُجُ للمواساةِ على رزيّتنا العُظمى وأن الظَلْمَاء ستتقشّع بطلائعِ الأضواء؟!
وأيُّ طلائعٍ والأمّةُ في خِدرِها وخَدَرِها؟!
أيُّ طلائعٍ تكتفي بالكلامِ الممجوجِ، دونَ الفعلِ الملموس، أيُّ طلائعٍ تستوعِرُ الطريقَ لقتالِ عدوّها؟!
إن لم يُشهَرُ النصلُ آنًا وقد بلغَت نازلةُ الفلسطينيّين آخرها، والرِقابُ آخذةٌ ببعضها بأرقامٍ عيَّ العقلُ حصرَها، وإبادةٌ وحشيةٌ يُستغلَقُ استيعابها، فمتى يكونُ الإشهارُ ورؤيةُ لمعِ بروقهِ المنتصرة؟!
ومتى ستكونُ فديتنا دمًا ونحنُ لا نرى شيئًا يُراقُ في سبيلِ قضيّتنا إلا دماء الفلسطينيين وحدهم وكأنّها قضيتهم دوننا؟!
كيف نتركُ إخوتنا وأطفالنا متنفسًا لدفائنِ حقد الصهاينة واعتلالاهِم المُشوّه، تُرى كيفَ تركناهُم يلبسُونَ حُللًا حمراءَ واكتفينا بالدمعِ؟!
لكنَّ العزاءَ أن حُلَلُهم الحمرَاء نحنُ فقط من نراها، نحنُ المساكينَ أهلُ الدُّنيا، أمَّا هُم أهلُ الجنَّةِ فقد أُبدِلُوا بُحُلَلِ السُندسِ الأخضر:
تـردَّى ثيابَ المــوت حمرًا فما أتــى
لها الليلُ إلا وهي من سندس خضـر
ما عُذرُنا ونحنُ قومٌ لا آخرَ لنا، ما عُذرُنا ونحن مُخبرونَ باليهودِ وخِسّةِ نفوسهم وضعفها، ما عُذرُنا ونحنُ نعلم أنَّ الذِّلةَ طُبعَت عليهم فلا يقاتلونَ إلّا من وراء جُدر؟!
العزةُ للهِ ورسولهِ والمؤمنين فيا تُرى كيف انقلبَ الأمرُ، أما عاد المؤمنون مؤمنون حقًا؟!
تُرى كيف رُجِّحَتِ الكفّةُ حتى بَخُسَ الثمن، وضعُفَ الإقدامُ، وذُلّتِ النفوسُ، وتهاونتِ العزائمُ، وركنتِ الآمالُ للوعدِ الإلهي دونَ حراكٍ وعمل، إنَّ سُنّة اللهِ وإن اقتضت النصرَ للمستضعفين والعزَّةَ للمؤمنينَ إلّا أنّها مع ذلكَ اقتضَت بذلَ السببِ لتحقيقه، حتى وإن وُجِدَت ثُلَّةٌ صادقةٌ إلا أنَّ النصرَ قد يتأخر بسببِ عمومِ الفساد؛ فواللهِ ما غزَّةُ إلا جريرتُنا، وإن النصرَّ لمستبطأٌ بتخاذلنا، واللهُ وحدهُ يعلمُ كيفَ سيكونُ العقابُ من ذِلَّةٍ وهوانٍ ومُباعدة بيننا وبين مقدِسِنا، فاللهمَّ قد عظُمَتِ الجريرةُ وانقطعَتِ الحُجَّةُ، والرَّجاءُ بكَ لا سواكَ، فأرِنا بإخواننا خيرَ مُنقلبٍ، وبالصهاينةِ أرذلَ مُتردَّى وأمحقَ مكسبٍ، واللهُمَّ لا تجعلنا فتنةً للقومِ الظالمين، وإنَّكَ إن تذرهُم يُظلُّوا عبادكَ ولا يلدوا إلا فاجرًا كفّارا.
مقال جميل ورائع
تُری هل ستجدي نفعًا
كلماتُنا ودمعاتنا
وآهاتُنا
وقد جُفتْ صُحفنا
أخرست لُغتنا
وأقلامنا؟
مع كُل هذا الإنكسار، الأوان يا صديقتي لا يفوت والعُروبة لا تموت، سنظلُ نُحاول، إمَّا أن نصل وإما أن نصل،
لا خيارتٍ هنا للفشل، فاللَّهُ لا يُضيع عمل عاملٍ مهما كان ومتی وكيف.
#سوسن الأهدل.