توطئة:
ما زلت في إطار تناول أطروحات عصام القيسي في كتابه “استعادة الإسلام”، ووعدت بأن أقدِّم عدَّة حلقات تتناول قضايا الكتاب المركزيَّة؛ وسأسعى ما أمكن إلى عدم مناقشة أمور تفصيلية عديدة يمكن الاستطراد فيها ومسكها على المؤلِّف، لكنَّها بنظري تعدُّ ملاحظات ثانوية بالنسبة لما أودُّ التركيز عليه. وهذه السِّلسلة خلافًا لما قد يتصوَّرها البعض مِن كونها ستكون جامعة مانعة لكلِّ ما يرى ضرورة الردِّ عليه ونقده، فأنا لا ألتزم بهذا ولا أحجِّر واسعًا، فهناك عقول وشخصيَّات يمكنها أن تطرح آراءها ونقدها حول الكتاب بما يتناسب وتخصُّصاتها واهتماماتها، ومِن غير المنطقي أن نلزم الآخرين بأسلوبنا أو طريقتنا التي نختارها سواء في التَّأصيل للقضايا أو النَّقد لها.
ومجدَّدًا أؤكِّد أنَّ علينا أن نتعاطى مع أطروحات القيسي بمنتهى الدِّقَّة والعمق، خاصَّة أنَّه يعرض أفكارًا خطرة ودعوى كبيرة، فإمَّا أن يُسعفنا بالأدلة والبراهين الواضحة والقاطعة والموثَّقة القابلة للفحص والتَّحقيق، مِن منطلق احترام عقولنا ومعارفنا وثقافتنا كأنداد له في الإنسانية المسئولة عن خياراتها ووعيها، أو لا فسوف نردُّ عليه هذه الأفكار والآراء يراجعها ويسعى لإعادة تمكُّنه مِن طرحها بشكل مقنع.
إنَّ القضايا الكبرى والمهمَّة في حياة الأفراد والمجتمعات لا ينبغي التسليم لها لآحاد مِن الناس، لأنَّ هكذا قضايا عادة لا يمكن أن تخفى على عموم الناس، فإن وقع ذلك كان على أولئك الآحاد أن يأتوا بأدلة وحجج وبراهين وآيات تؤكِّد وتظهر حقيقة حجم هذه القضايا الكبرى. وقد قال تعالى في شأن قضية الرسالة للبشر: ((ثُمَّ أَرسَلنَا رُسُلَنَا تترَا))، المؤمنون: 44. كي يصدِّق كلُّ فريق مِنهم السابقين له، ويخبر عن اللاحقين به، فيتشكَّل في وعي البشرية الجمعي اليقين بهذه الدعوى التي تتظافر المعجزات والآيات والآثار في إثباتها، وبيان مآلات مَن أنكرها وجحدها. ثمَّ إنَّه ما مِن نبي بعثه الله تعالى بالرسالة إلَّا زوَّده بعدد مِن المعجزات المادِّية والمعنوية ممَّا يعجز عنها قومه وأهل عصره، بل وربَّما البشرية جمعاء، لأنَّه يحمل دعوى “الاتِّصال بالله تعالى” وهو في السماء، وتلقِّي الوحي مِنه في شئون الناس بما يتعلَّق في سعادتهم الدنيوية والدينية؛ لذلك قال تعالى: ((وَلَقَد آتَينَا مُوسَىٰ تِسعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسأَل بَنِي إِسرَائِيلَ إِذ جَاءَهُم فَقَالَ لَهُ فِرعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسحُورًا))، الإسراء: 101. وهكذا جاء عيسى -عليه السلام- بآيات عديدة، وجاء محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- بآيات عديدة.
لهذا ولأنَّ مسائل الدين الكبرى مهمَّة سعى علماء العقيدة والفقه والحديث بإقامة الأدلة المتظافرة عليها، مِن آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم. حتَّى القرآن الكريم أصبح حقيقة كبرى لا يمكن إنكارها لأنَّه نقل إلينا بتواتر واسع جيلًا بعد جيل بما لا يفتح الشكَّ في أنَّ هذا التواتر مِن جمع كبير مِن الناس دون اختلاف بينهم فيه هو دلالة على أنَّه حقٌّ لا يمكن إنكاره. وكذلك الشأن في الأحاديث النبوية عمل علماء الحديث على جمع أسانيدها للتأكُّد مِن قوَّة ثبوتها، ومِن ثمَّ اليقين بما فيها، فضربوا في عرض البلاد وطولها لتلقِّي الأحاديث وجمعها ونقلها وتفنيدها بشكل دقيق لتمييز صحيحها مِن ضعيفها، والثابت مِنها مِن الموضوع، والمتواتر مِن الآحاد. وفي القرآن الكريم: ((إِذ أَرسَلْنَا إِلَيهِمُ اثنَينِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيكُم مُّرسَلُونَ))، يس: 14. قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: “قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث”. وهذا التشديد حتَّى في الفقه خصوصًا في القضايا الخطرة، ففي مسألة اتِّهام الناس في أعراضهم كلِّفوا في إثبات التهمة بأربعة شهداء خلافًا لقضايا أخرى أقلُّ خطورة.
إذن فكلَّما كبرت القضايا وخطرت احتاجت إلى تكثيف أدلتها وشواهدها وبراهينها وطرقها.
وعليه، فليعذرنا القيسي إن طالبناه بأدلة وحجج وبراهين على قدر الدعوى التي طرحها، والقضايا التي تناولها، وأن ندقِّق معه فيما يطرحه بأشدَّ ممَّا دقَّق الناس مع أنبيائهم رغم ورود المعجزات والآيات الكبرى، فهو لا يملك المعجزات التي تخضع لها رقابنا فليس بيننا وبينه إلَّا الأدلة العلمية والبراهين المنطقية. ولنا في القرآن الكريم أسوة وهو يهتمُّ بكلِّ الإشكالات التي طرحت على الأنبياء والرسل يردُّها ويفنِّدها ويطالب الحجج عليها، ابتداء مِن المشركين وأهل الكتاب والمستبدِّين المتألِّهين وانتهاء بالدهرية. ولولا جدل القرآن معهم، واسئلته إيَّاهم، وكشفه لمغالطاتهم وأخطائهم، لعجزنا عن مواجهة الشبه التي سادت على شعوب ومجتمعات بأكملها.
إنَّ عصام لا يتناول في كتابه مسألة متعلِّقة بحكم فرعي في الطهارة والوضوء، أو في مسألة الأغاني والأناشيد، أو مسائل النكاح والطلاق، بل هو يطرح “الإسلام” الذي بلغنا كلَّه كقضية تحتاج إلى نقد ومصارحة ومكاشفة لكونه إسلامًا محرَّفًا منذ قرابة (1100) عام تقريبًا؛ بمعنى أنَّ هذا الانحراف عميق وضخم وانطلى على كافَّة رجال الأمَّة مِن علماء وفقهاء ومفسِّرين ومصلحين وغيرهم، بما في ذلك هذه الحركات والجماعات الإسلامية التي تنهل مِن تراث هذه المدَّة الزمنية ثقافتها وفكرها ومناهجها!
ولا بأس أن نطيل النفس وأن نتعمَّق وأن نستشكل ونستوضح ونعترض ونقدِّم ما لدينا في الفضاء العام، كما فعل القيسي، فقد عرض بضاعته على الناس جميعًا مشيرًا إلى أنَّهم أصحاب وعي وعقل وإدراك وتمييز، ويمكنهم معرفة الإسلام دون “فقهاء” وبالتأكيد هو لا يقصد التقييد على هذا الصنف، وإلَّا فهو ينتشلهم مِن تقليد “الفقهاء” إلى تقليد آخرين!
"فصل (1) الانحراف بالإسلام".. الدعوى والأدلَّة:
الفكرة الأساسية التي يدلي بها هذا الفصل ويسعى للبرهنة عليها كما جاء في الكتاب، “هي أنَّ الإسلام الذي يعرفه المسلمون اليوم مختلف -بصورة تكاد تكون نوعية- عن الإسلام الذي عرفه أبناء القرن الهجري الأوَّل على الأقل؛ وأنَّ صورة الإسلام التي نعرفها اليوم قد تشكَّلت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، بعد شيوع مذاهب الفقه التقليدية، وأنَّ الاختلافات بين النموذجين بدأت طفيفة لطيفة ثمَّ تراكمت ببطء -لأسباب تاريخية- حتَّى شكَّلت في نهاية المطاف اختلافًا نوعيًّا غيَّر مِن كيمياء الإسلام إلى حدٍّ لا يستهان به”، ص20.
وفي نظر القيسي فإنَّ “ما جرى للإسلام لم يكن تحريفًا متعمَّدًا، إذا ما استثنينا الحالة الشيعية، بل انحرافًا قدريًّا عفويًّا في جملته، نتج عن تراكم أخطاء وأوهام جزئية -مقصودة وغير مقصودة- لم تجد في طريقها جهازًا نقديًّا مكافئًا يعمل على كشفها وإيقاف نموِّها في مهدها، فانتهت إلى طفرة نوعيَّة مِن حيث لا يشعر المسلمون!”، ص21.
ويشير القيسي لوجود مظهرين أساسيَّين كبيرين لهذا الانحراف.. “انبثقت عنهما انحرافات فروعية لا تحصى”. “الأوَّل على مستوى النصِّ المرجعي للإسلام، تمثَّل في إدراج تصرُّفات النبيِّ الشخصيَّة واجتهاداته الزمنية -على فرض ثبوتها- ضمن دائرة الدين الذي كلِّف بإبلاغه للناس. حدث ذلك نتيجة عدم إدراك فقهاء عصور الانحراف لتعدُّد مقامات النبيِّ، أو نتيجة ضعف إدراكهم لهذه الحقيقة! ربَّما لضمور ملكة الفلسفة والتحليل التي تمكِّنهم مِن التمييز بين عناصر الثبات وعناصر التحوُّل في مركب الرسالة النبوية؛ وهو ما أدَّى إلى خلط مقام الرسالة والبلاغ بمقامات النبي الزمنية!”، ص21.
وأمَّا “المظهر الثاني للانحراف فكان على مستوى الفقه. تمثَّل في التحوُّل مِن نموذج الفقه الذي كان سائدًا في عصر النبي وصحابته، إلى نموذج فقهي مختلف تشكَّل بخطوات متدرِّجة مِن البساطة إلى التركيب، وأصبح سائدًا منذ نهاية القرن الثاني الهجري -تقريبًا- إلى يومنا هذا”، ص22. ويصف القيسي الفقه الأوَّل الذي ساد عصر النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه بـ”فقه المكلَّف”، والفقه الآخر بـ”فقه المجتهد”. وهذان النموذجان بحسب الكاتب ليسا مفهومين بسيطين بل نظريَّتين متكاملتين، لكلِّ منهما سماتها الخاصَّة ونظامها الخاص.
وهنا يبرز سؤال منطقي وطبيعي في ذهن القارئ لكلام القيسي حول ما طرحه، وقد بادر عصام بإيراد هذا السؤال استباقًا بقوله: “إنَّه سينشأ في ذهن القارئ غير الخبير”! و “يتسبَّب في تعطيل عقله الناقد عن العمل”! رغم أنَّ الأسئلة تشي بظاهرة نقديَّة بالأساس، خصوصًا إذا كان السؤال منطقيًّا -كما ذكر (ص22). وهذا السؤال هو بحسب صياغة الكاتب: “لنفرض أن ما ذهبت إليه صحيح، فكيف خفي هذا الأمر الخطير على أهل العلم في القرون الماضية، وهم بذلك المقام في العلم والألمعية؟”.
فكيف أجاب المؤلِّف؟
يرى القيسي أنَّه “ليس مِن الممتنع عقلًا أن تتسرَّب بعض الأوهام والأكاذيب إلى دائرة المسلَّمات والحقائق لدى أمَّة مِن الأمم، ثمَّ تتعاظم هذه الأوهام وتكبر مثل كرة الثلج كلَّما تدحرجت في الزمن. وهذا تاريخ الملل والنحل الدينية بين أيدينا يخبرنا عن أمور لا يكاد يصدِّقها العقل. حيث يمكن أن تختفي عن الأنظار حقائق كبيرة مِن ذلك النوع الذي يقع تحت مرأى ومسمع الكافَّة، وتحلُّ محلَّها حقائق بديلة”، ص23. وهذا الكلام صحيح، فالعقل لا يمنع مِنه، كما أنَّه جرى في الأديان والملل السابقة؛ ولكن هل كلُّ ما لا يمتنع عقلًا يقع؟! وهل ما صحَّ على الأديان والملل الأخرى يصحُّ على الإسلام؟!
بداية، حقيقة أنَّ الأديان والملل يلحقها انحراف حقيقة صحيحة، وقد جرى شيء مِن ذلك في تاريخ المسلمين، ومنذ القرن الأوَّل بدأت نتوءات الانحراف تظهر، في ظلِّ الصراع الذي حصل بين الصحابة -رضي الله عنهم جميعًا، إذ بدأت تتشكَّل بذرة الشيعة وبذرة الخوارج؛ ثمَّ شيئًا فشيئًا تشكَّلت فرق أخرى عقدية وسلوكية انحرفت بمفاهيم الإسلام وتصوُّراته. وقد جاءت أحاديث النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- تؤكِّد أنَّ الانحرافات ستكون في الأمَّة حتَّى يعود الإسلام “غريبًا” بين أهله، كما كان مطلع دعوته. وهي أحاديث يريد القيسي أن نطَّرحها بكل قيمتها الموضوعية! -مع الأسف.
غير أنَّ ما يميِّز رسالة الإسلام أنَّها محفوظة مِن أن تطمس، أو تغيَّب معالمها الكبرى، كمصادر الدين المرجعيَّة وأصول الدين الكلِّية ومنهجيَّة تلقِّيه والعمل به. فقد تكفَّل الله تعالى بأن تبقى هذه الرسالة “ظاهرة” للناس لتكون حجَّة الله تعالى على خلقه قائمة، وإَّلا اقتضى خفاؤها وانطماسها بعث الأنبياء مجدَّدًا. قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ الـمُشرِكُونَ))، الصف: 9. وقال تعالى: ((مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُم وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمًا))، الأحزاب: 40. وقال تعالى: ((إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ))، الحجر: 9. والحفظ الذي عناه الله تعالى يشمل ما يلي:
1- حفظ نصوصه المرجعيَّة: سواء في صدور حملته، أو مِن خلال هداية الأمَّة لابتكار الوسائل المختلفة لحفظه حسب إمكانات كلِّ عصر وأدواته.
2- حفظ اللسان العربي الذي نزل به: فإنَّه لا قيمة لحفظ نصوص الوحي إذا ما زال اللسان العربي عن الأرض، فها هي نسخ الكتب السابقة مدوَّنة بلغات قديمة لا يعيها أتباع الديانة اليوم! وها هم الأعاجم يحفظون القرآن الكريم والسنَّة النبوية عن ظهر قلب دون أن يعوا معناها أو يفهموا دلالاتها! إذن فمِن لوازم حفظ الوحي حفظ ما لا يكون حفظه إلَّا به ومِن ذلك بقاء أمَّة اللسان العربي.
3- حفظ حركة تنزُّل هذا الذكر وسياقات وظروف تنزيله: وهو ما اجتهد فيه علماء الأمَّة منذ القرن الأوَّل، حيث حفظوا لنا محلَّ نزول الآيات وأوقاتها وسياقات نزولها وأسباب نزولها، بل وكلُّ تفاصيل الحياة التي نزل فيها الوحي. ذلك أنَّ هذه النصوص جاءت لمعالجة الواقع الإنساني في نموذج تطبيقي لتفيد الأجيال بالخبرة والمناسبة وأوجه التنزيل الصحيحة لهذه النصوص.
4- حفظ منهجية فهمه وشرحه وتأويلها والاستنباط مِنه جيلًا بعد جيل، إذ أنَّ غياب هذه المنهجيَّة أو انحرافها كلِّيًّا أو جزئيًّا -كما يدَّعي القيسي- كفيل بإفقاد النصوص لقيمتها مهما حاول المتأخِّرين بعثها مِن جديد. وهذه المنهجيَّة دونت عبر التاريخ الإسلامي، خصوصًا في القرون الأولى مِن الحضارة الإسلامية.
والكافر الأصلي إذا أراد أن يدخل في الإسلام اليوم، إذا قرأ القرآن الكريم والسنَّة النبوية، وبعض كتب علماء الإسلام في الفقه والعقيدة، يمكنه أن يعرف قضايا الإسلام الكبرى كما عرفها الصحابة -رضي الله عنهم، مِن أركان الإيمان الستَّة، وأركان الإسلام الخمسة، وقيم الإسلام ومبادئه الكلِّية، وغير ذلك. وسوف يدرك ضرورة الالتزام بحقائق الإسلام وعباداته وشرائعه الظاهرة المجمع عليها. فهل يُقال بعد ذلك إنَّ الإسلام اليوم يختلف نوعيًّا عن إسلام الصحابة؟! وأنَّ إسلام الصحابة توارى خلف كرة الثلج المتدحرجة منذ (1100) عام؟!
إنَّ استصحاب تاريخ الملل والأديان وإسقاطها كلِّيَّة على الدين الإسلامي جريمة لا تغتفر، لأنَّ الإسلام متميِّز عنها. وتعميم الانحرافات التي نشأت على الأمَّة لجعلها بالقدر الذي طغى على الإسلام الحقِّ، ومعالمه الكبرى، وطمسها عن وعي الأمَّة وضميرها اليوم حكم جائر لا يُقبل، فالشواهد في غير محلِّها، والتعميم غير صائب.
لقد ذهب عصام في إجابته على السؤال المنطقي للقول: “طوال التاريخ الإسلامي كان هناك علماء ومفكِّرون مِن أهل السنَّة والجماعة يصرِّحون بتخطئة جمهور العلماء المتقدِّمين، أو تخطئتهم جميعًا، في مسألة ما مِن مسائل الفكر أو الفقه. فإذا جاز في نظر هؤلاء أن يخطئ(1) الجمهور أو يخطئ(2) الكافَّة، في هذه المسائل التي يصنَّف بعضها في باب العقيدة، فما المانع مِن أن يخطئوا(3) في غيرها؟! وبأيِّ حجَّة مِن العقل أو النقل تمنح الأجيال الإسلامية السابقة العصمة مِن الخطأ؟! هل بحجَّة إجماع العلماء؟، ومتَّى اتِّفق العلماء أنفسهم على أنَّ الإجماع حجَّة، وقد ثقبوه مِن كلِّ جانب حتَّى صيَّروه منخلا”، ص26- 27.
وليس في هذا حجَّة على ما ذهب إليه، أي أنَّها ليست في محلِّ الدعوى أو النزاع، وإنَّما هو يدفع بهذه القضية على مَن يعترض عليه في الدعوى بكونه وجد “علماء ومفكِّرون مِن أهل السنة والجماعة يصرِّحون بتخطئة جمهور العلماء المتقدِّمين، أو تخطئتهم جميعًا، في مسألة ما مِن مسائل الفكر أو الفقه”؛ وكأنَّه يقول لي سلف في تخطئة الأجيال السابقة كما أنَّ لمـَن سبقني مِن هؤلاء العلماء والمفكِّرين حقٌّ في ذلك! ولم يجد الكاتب ما يستدلُّ به غير كلام لأبي الأعلى المودودي ورد في بعض مؤلَّفاته (ص27- 28).
وكنت أرجو أن يذكر القيسي أمثلة لعلماء أو مفكِّرين صرَّحوا بتخطئة جمهور العلماء المتقدِّمين، أو تخطئتهم جميعًا، هكذا بإطلاق، وبما يُفهم أنَّهم لم يستثنوا في أيِّ مسألة ويشيروا إلى وجود مَن قامت به الحجَّة وظهر به الحقَّ! ولو ذهب ينقِّب بحسب قيده (مِن أهل السنة والجماعة) في جيولوجيا الأئَّمة والعلماء في طبقات التاريخ الإسلامي لن يجد! وإن وجد فسيجد أنَّ هناك مَن ردَّ على هذه الدعوى العريضة قطعًا وبيَّن عوارها وخطَّأها، لا لشيء سوى لأنَّ الحكم بأنَّ الأمَّة في جيل مِن الأجيال أطبقت على خطأ وانحراف بحيث لم تنقل لنا الحقَّ الذي بلغها إلينا، حتَّى انقطع عنَّا، يعني تضليل الأمَّة واتِّهامها في أمانتها ودينها. والكلام هنا عن قضايا كبرى وحقائق في الدين لا عن أمور فرعيَّة لا يضرُّ تغييبها عنَّا في شيء.
والإشكال الحاصل عند القيسي هو أنَّه ربَّما خاض غمار بحر الردود بين العلماء دون تمكُّن مِن مصطلحاتهم وما تحمله مِن معاني ودلالات، بحيث خرج بهذه النتيجة المشوِّهة للأمَّة ورجالها!
ثمَّ وعلى فرض وقوع هذا الأمر جدلًا، فإنَّ الكلام عن مسألة فرعية في العقيدة أو الفقه ليس كالكلام عن معالم الدين الكبرى، بل عن معنى الدين بذاته ومصادره المرجعيَّة! فهل وجد القيسي مَن سبقه (مِن أهل السنة والجماعة) مَن ادَّعى بدعواه الكبيرة هذه؟! هل يوجد عالم أو فقيه يعتدُّ به قال بأنَّ الانحراف بالأمَّة بلغ حدًّا تخفى معه معالم الدين الكبرى وتختلط بمصادرها المرجعية مصادر أخرى حرَّفت الإسلام عن حقيقته، وخطَّأ علماء الإسلام خلال القرون السابقة له؟! (والكلام بالطبع عن أهل السنة والجماعة لأنَّه يوجِّه كلامه إلى هذه الدائرة في كتابه، إذ هو غير معنيٍّ بالشيعة كما قال، وغير معني بالخوارج الذين لم يكونوا يأخذوا بالسنَّة(4) ، وغير معني بالذين جعلوا العقل أساسًا في قبول السنَّة أو ردِّها، فهؤلاء جميعا خارج محلِّ القضية التي يريد القيسي طرحها).
ثمَّ وعلى فرض وجود عالم يعتدُّ به قال بهذا القول، هل سيكون قوله الحقَّ الذي لا مراء فيه وقول غيره باطل؟! أم أنَّ دعوى بهذا الحجم تقتضي جدالًا واسعًا وحوارًا شاملًا ونقاشًا عميقًا؟! خصوصًا أنَّ في دعوى كهذه هدم لجهود عظيمة وجبَّارة سارت عليها الأمَّة جيلًا بعد جيل.
إنَّ الشواهد التي ذكرها القيسي في هذا الإطار ساقها دون بيان محلِّ الحجَّة فيها سوى التبرير لما يريد القيام به وادِّعاءه، وإلَّا فإنَّ تلك الأمثلة التي سيقت للعلماء والفقهاء والمفكرين لم تدَّع خفاء الإسلام وانحرافه خلال (11) قرنًا بشكل يغيِّب حقائقه!
إذن ليست هناك أدلَّة تثبت دعوى انحراف الإسلام إلى حدِّ تحوِّله نوعيًّا سوى (عدم الامتناع العقلي) و(انحراف الملل والأديان السابقة بشكل تامٍّ غيَّب حقائق كبرى فيها) و(وجود مَن خطَّأ جمهور العلماء أو بعضهم قديمًا وحديثًا في أمور فرعية)!
علمًا بأنَّه كان ينبغي على القيسي في المقابل أن يكمل المنهج العلمي في إثبات قضية ما، وهو نقض ما يضادَّها مِن قول، وأن يفترض وجود معترض يقول: إنَّه برغم كلِّ انحرافات الفرق والطوائف، في التصوًّرات والشرائع والسلوكيَّات، إلَّا أنَّ الإسلام ظلَّ حاضرًا ينافح عنه خيار الأمَّة مِن علمائها وفقهائها ومفكِّريها، جيلًا بعد جيل، بحيث حافظ على نقاء مصادره المرجعيَّة، وصورته التطبيقية، ومنهجيَّة تلقِّيه وفهمه وإعماله وتجديده. وهو قول يتسلَّح بالعديد مِن نصوص القرآن الكريم ابتداءً، وبالأمثلة العملية جيلًا بعد جيل، وبزخم كبير مِن الميراث العلمي الذي استوعب كلَّ الجدليَّات والنظريات والأقوال والآراء وكان أمينًا في نقلها ونقدها والبناء عليها. بل ويتسلَّح بهذا القدر الكبير مِن معالم الدين التي لا تزال نابضة في فكر الأمَّة ووعيها وسلوكها، كالإيمان بالله واليوم الآخر، والصلاة والصيام والحجِّ والجهاد والدعوة والإصلاح والإحسان للناس.. الخ.
الانحراف والمقاومة:
إنَّ الانحراف الذي يشير إليه القيسي ليستدلَّ به على دعواه ليس اكتشافًا حديثًا حصريًّا له، بل هو العامل الرئيس لكلِّ جهود الصحابة -رضي الله عنهم، ومَن جاء بعدهم، التي انطلقت لحفظ القرآن الكريم نصًّا ومعنى وفقهًا، منذ جمعه زمن أبي بكر -رضي الله عنه، ومرورًا بكتابته على لغة واحدة زمن عثمان بن عفَّان -رضي الله عنه، إلى تنقيطه وتشكيله، ووصولًا إلى نسخته المعاصرة اليوم التي تختصر كثيرًا مِن جهود حفظه جيلًا بعد جيل، حتَّى في سكتاته!
وهو العامل الرئيس الذي دفع التابعين ومَن جاء بعدهم لحفظ السنَّة النبويَّة وقد ظهر الخوارج الذين قالوا مقولتهم الشهيرة: يكفينا كتاب الله، منكرين لسنَّة الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم. ثمَّ ظهر الوضَّاعون للأحاديث الذين دسُّوا على الرسول الكثير مِن الأحاديث؛ ثمَّ ظهر المتكلِّمون الذين جعلوا السنَّة ظنِّية، وهكذا. فقام فريق مِن الأمَّة نتيجة حساسيَّة نقديَّة عالية، ووعي تامٍّ، بحمل راية الحفاظ على السنَّة جيلًا بعد جيل، حتَّى تشكَّل علم واسع وكبير، بذلت فيه الجهود والأوقات، وبلغ مِن الدقَّة والمتانة بحيث أنَّه جرى إحصاء الرجال، ونقدهم وتقييمهم، ووضع معايير صارمة لقبول الأحاديث سندًا ومتنًا. بل إنَّ علم مصطلح الحديث هو علم نقد بالأساس، فكيف يدَّعي عصام بأنَّ الأمَّة كانت فاقدة لحساسيَّة النقد؟!
وهو العامل الرئيس الذي دفع الفقهاء لمواجهة حركة الانحرافات التي نشأت منذ القرن الأوَّل، في فهم نصوص الوحي، بحيث كادت أن تتشعَّب طرق الفقه بين غلو وجفاء، وظاهرية وباطنية، وفقه مأخوذ عن أهل الكتاب وآخر مأخوذ عن أهل الأهواء، وفقه خادم للسلاطين وآخر خادم للجماهير. هذه الحساسية النقدية لهذه الانحرافات، والتي باتت تنشأ في ظلِّ الصراعات ودخول شعوب أخرى كانت لها ثقافاتها ومناهجها الفكرية والفلسفية في المجتمع المسلم، هي ما دفع الشافعي وغيره مِن العلماء للحديث عن أسس الفهم وأصول الفقه وقواعد الاستدلال والاستنباط.
وهو العامل الرئيس الذي دفع بالعلماء للردِّ على الأقوال والتصوُّرات التي بدأت تدخل على الإسلام بفعل الدسائس الخبيثة، أو بفعل الانفتاح على موروث الأمم الأخرى بكلِّ ما فيها مِن فلسفات ونظريات وعقائد، فدخلوا في نقد هذه الأقوال والتصورات ومجادلة أهلها، وبيان أوجه الإشكال فيها، حتَّى صارت كتب العقيدة زاخرة بكلِّ ما ابتدع مِن أقوال وآراء مسنودة لأهلها، ومعادة لأصولها، بنصِّها ومرجعها. حتَّى يمكن القول بأنَّ ما دوَّنه المسلمون في كتب العقيدة يمثِّل خزانة علمية ضخمة غير مسبوقة لهذا الجانب مِن النشاط الإنساني البشري.
هذه الجوانب المعرفية التي ألَّف فيها علماء الإسلام إنَّما كانت نتاج الحساسية النقديَّة التي يرى القيسي بأنَّها كانت مفقودة في الأمَّة خلال (11) قرنًا! وليت شعري لو كانت الحساسية النقدية عند الأمَّة نائمة أو ميَّتة هل كان لها أن تزخر بهذا الموروث الكبير الذي يعجز جيلنا عن الإحاطة به، هذا مع كون كثير ممَّا ألَّفه علماء الإسلام دمَّرته الحروب وقضى عليه المغول والصليبيُّون في حروبهم ضدَّ المسلمين؟!
يقول القيسي وهو يتكِّئ على دعوى غياب الحساسية النقدية لدى الأمَّة لإثبات هذا الانحراف الضخم الذي عبر خلال (11) قرنًا دون أن يلتفت إليه أحد: “العبرة في حماية الحقيقة التاريخية والدينية ليست بوجود العلماء والنابهين في الأمَّة، بل بمستوى الحس النقدي لدى تلك الأجيال، وتوفُّر المنهج النقدي القادر على كشف مثل هذا المستوى مِن الاختراقات والاختلالات الدقيقة في مهدها”، ويضيف: “ولا شكَّ أنَّ الخبرة النقدية للنخبة الإسلامية المثقَّفة في القرون الأولى لم تكن بالمستوى الذي يؤهِّلها لرصد التحوُّلات الدقيقة والبطيئة في العقل الإسلامي، أو إدراك الحقائق ذات المستوى الفلسفي الكلِّي، وهي الأخطر”، ص29.
فكيف تكون دعوى باطلة بالأساس دليلًا على دعوى بحاجة إلى إثبات؟! كان يفترض أن تكون الحجَّة والدليل محلَّ اتِّفاق وثبوت لا أن تكون محلَّ اتِّهام وإنكار. فالدليل ينبغي أن يرقى في الوثوقية والصحَّة بمستوى المدلول عليه أو يقاربه. ولا يستدلُّ بظنِّي على ظنِّي لأنَّ هذا يضعف الاستدلال ويُنقِص مِن قدر الكاتب وهو ينقِّب في الجيولوجيا دون تمييز بين حجر كريم وألماس نادر.
يبدو أنَّ عصام لم يقرأ الحساسية النقدية في الردِّ على أصحاب الملل الأخرى، والفلاسفة وأهل الكلام، والفرق الضالة كالشيعة والخوارج وغيرهم، بحيث أصبحت خزينة الأمَّة مشبعة بردود لا حصر لها. واستمرَّ ذلك بالأمَّة مع جهود الغزو الفكري والثقافي والذي بدأه المستشرقون ثمَّ تتابعت حملاته في صيغ حداثية وعلمانية ونسوية وغيرها، فزخرت المكتبة الإسلامية بردود على الأفكار والمذاهب المعاصرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية.
فإذا لم تكن هذه الحساسية موجودة في الأمَّة وما دوَّنته فمِن أين عرف القيسي “إسلام الصحابة” بعد (11) قرنًا؟ هل تلقَّاه مِن الوحي؟! أم بتفكُّره في القرآن دون أيِّ زاد معرفي وثقافي؟! ومِن أين استشعر القيسي أنَّ الإسلام منذ (11) قرنًا طغت عليه انحرافات نوعيَّة.. هل كان معاصرًا بذاته شخصيًّا لهذه الانحرافات أم قرأ حولها ما سطره جهابذة الإسلام جيلًا بعد جيل؟!
إنَّ قليلًا مِن التواضع يكفي للاعتراف بأنَّنا اليوم -أمَّة وجيلًا دعويًّا وحركيًّا- لسنا إلَّا ببركة البيت المعمور الذي شيَّده علماء الإسلام حتَّى وصل “التراث” الإسلامي، بدءًا مِن القرآن الكريم والسنّة النبوية، غضًّا طريًّا، نتناوله ونحن مطمئنيِّن إلى هذه الجهود التي امتدَّت بناء حتَّى ناطحت السحاب وطغت على كلِّ حوادث الدهر التي أرادت طمس الإسلام سلما وحربًا. وللحديث بقيَّة.
الهوامش:
- كما هي في الكتاب، وأظُّنه يقصد “يخطَّأ”.
- انظر الهامش السابق.
- كما هي في الكتاب، وأظنُّه يقصد يخطَّؤوا”.
- لا أدري ما هو موقف القيسي مِن موقف الخوارج وهم يتَّفقون معه في هذا الأصل الذي يرى أنَّ القرآن الكريم هو المرجع الأوحد للدين عقائد وعبادات وأخلاق وتشريعات؟! هل يعبِّرون عن نظرة تجديديَّة منذ ظهورهم في القرن الأوَّل؟! وهل كانوا مِن الأمَّة التي شملها الانحراف أم مِن الذين تمسَّكوا بالإسلام الذي كان في زمن النبي وأصحابه، والذي يريدنا عصام أن يستعيده لنا؟!