Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أشتات

من الربيع إلى الطوفان: إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة

فوجئ العالمُ بحدَثٍ أربكَ تفكيره، عمليَّة بطوليَّة محكَمة، تهاوت على مطارقها قواتُ العدو في غضونِ ساعاتٍ ثلاث، لم تفاجئ الكيان المحتل بأجهزته الأمنيَّة ومخابراته، بل كانت مفاجئة – أيضًا -للدول الغربيَّة الحليفة بأجهزتها الدبلوماسية، والأمنيَّة، والاستخباراتية؛ لفشلها الذريع في توقع مثل هذه العمليَّة الخاطفة، بعد اطمئنانهم لوأدِ القضية، وتصفيتها.

هذه الفجائية التي انطوت عليها عملية الطُّوفان، أحدثت زلزالًا على كافَّةِ الأصعدة، وبعثرت العديد من الأوراق، وأسهمت في تغييراتٍ مجتمعيةٍ هائلة، وكشفت عوار بعض الأفكار، والرؤى المتضخمة، وكان من أهم المفاهيم التي مسَّها الطُّوفان، مفاهيم التَّدين، ومركزيَّة الأمَّة، فقد جاء الطُّوفان ليختصر المسافة في تحجيمِ الفجوة التي اتسعت منذ ثورات الرَّبيعِ العربي، وهي عمليَّة شاقَّة يقفُ فيها الفكر وحيدًا، يناوشُ، ويصارع، في ظلِّ استلابٍ مر، وارتداد عنيف عن أغلبِ القيم التي صدحت بها الحناجر في ميادينِ الحريَّة!

لقد أبانَ طوفان السَّابع من أكتوبر عن حركةٍ دائبةٍ في البناءِ، والتَّطوير، وتمتين السَّواعد، ورسم خارطة الخلاص باللغةِ التي يفهمها العدو، وأثبتوا للعالم: أنَّ الحقَّ لا يسقطُ بالتَّقادم؛ ولو تخادمَ العالمُ لدفنه، ولو ظهرَ التَّطبيع وكأنه أمرٌ لا مفرَّ منه، وأثبتوا للأجيال الغارقة في وهم السَّلام المنعدِم: إنَّ زوال الكيان فكرة قابلة للتَّحقُّق، متى ما التحمت الأيدي، واجتمعَ النَّاس على قضيتهم المركزيَّة.

الربيع إلى الطوفان إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة9 من الربيع إلى الطوفان: إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة

- من الربيع إلى الطوفان

منذُ ارتداداتِ الرَّبيع العربي، ساد خطابٌ انعزاليٌّ، متشكِّكٌ، حائر، أثمرَ حالة من التَّدين المَرْضِيّ عنه، لأنَّ أثره عائد على صاحبه، ملامحه تتمحور حول الذَّات، وخلاصها، والنَّأي عن المجموع، والإزراء بالخطابِ الأممي، والاقتراب من مفاهيم الإنسانيَّة، والسَّلام، والتَّعايش، والعيش المشترك كيفما اتفق،

وهو تدينٌ تبريري، وظيفته تبرير القضايا المصيرية بأيِّ شكلٍ من الأشكال؛ لتبقى كما هي، من دون فتح مجالٍ للتَّغيير، أي: تدينٌ ناعم يخدمُ فكرة التَّطبيع مع الحياة كما يشكلها الواقع، والرُّكون إليها، وقد وجدت الأنظمة المستبدَّة في حركاتِ الخلاص الفردي، والتَّدين التَّبريري النَّاعم، بديلًا مناسبًا عن الإسلامِ السِّياسي، فتدين الخلاص الفردي يحقِّقُ أشواق الشُّعوب في إشباع حاجة التَّدين الموجودة في النُّفوس، وهو كذلك بديلٌ آمن تجاه الاستبداد يمكن تسخيره ليكون ذراعًا روحية للمستبد؛ لإحكام سيطرته على الشُّعوب ومقدراتها، وأحلامها، لأنهم يدركونَ أنَّ الدِّينَ يشكلُ حضورًا مركزيًّا في حياةِ الإنسان والمجتمع العربي، فالالتفافُ عليه، مكسَبٌ مهم، ولذا؛ يُعدُّ تنامي بعض التَّحولات مؤشرًا على اتساعِ تبدُّلات جوهريَّة في الوعي سواء داخل الجماعات أو الأفراد.

وقد وقع هذا التغير الجلي في أنماطِ التَّدين، مع اضمحلالِ بريقِ الصَّحوة، ومحاولة نسيان اغتيال الحلم إبَّان ثورات الرَّبيع، فلجأوا أو أُلجئوا لمُداراةِ الخيبة بالمضيِّ نحو الخلاص الفردي، والركون إلىٰ البُعْدِ الرُّوحي، العاطفي، هروبًا من استحقاقاتِ الواقع. بل وصلَ الأمر ببعضهم أن تجاوزَ مفاهيم البُعْد الإسلامي، وأغرقَ في الطَّرحِ الإنسانيِّ أو الإنسانوي، وصنعوا خلطة غريبة تتوافقُ مع الواقعِ الجديد الذي تخلَّقَ من رحِمِ الرَّبيع العربيِّ المطارد. وفي ظلِّ هذا الواقع الضَّبابي، تلاشت مفاهيمُ الأمَّة، والحقوق، والرُّوح الجامعة، ومعاني الكرامة، وأبجديات التَّحرر، ونُسيت أو كادت أن تُنسىٰ القضية المركزيَّة الكبرىٰ، وهرعَ الجميع إلىٰ التَّطبيع لتدفن القضية بآخرِ نقطةِ حبرِ من توقيعِ النِّسيان!

الربيع إلى الطوفان إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة من الربيع إلى الطوفان: إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة

- ماذا صنع الطوفان؟

بعد واقعةِ الطُّوفان، أفاقَ الجميعُ علىٰ صدمةٍ أعادته إلى قلبِ المعركة، وسحبته من مربعِ الفردانيَّة – الذي أُغرِقَ فيه – إلىٰ دائرةِ الأمَّة، وإعادة الوهج للقضيَّةِ الأم، وأثرت بصورةٍ مباشرة علىٰ طريقةِ التفكير، ووضعت الجيل الصَّاعد في وجهِ الحقيقة التي غفلَ عنها. ومن محامدِ الطُّوفان؛ انكشاف الزَّيف الإنسانوي الذي صدَّره الغرب لسنواتٍ طوال، علىٰ حساب التَّدين الجمْعي المشتغلِ بقضايا أمَّته، وفجأة، اكتشفَ الجميعُ اِنحياز الغرب، وعنصريته، وهشاشة البنىٰ الأخلاقيَّة له، وقد ظلَّ المفكرونَ، والأحرار، يحذِّرونَ من هذا الانحياز المكشوف؛ لكنَّ أحدًا لم يستمع، حتىٰ أتت معركة غزَّة، اِختصرت المسافة، وتعرَّت شجرةُ الإنسانيَّة، فأدركَ النَّاسُ ما غفلوا عنه منذُ عقود، وحضرت المفاهيم التي أُريدَ لها النسيان، فقد كانَ الطوفان طوفانًا لتغييرِ كلِّ شيء، وقد نجحَ في عودةِ الضَّمير الجمْعي المغيَّب للتمركز حولَ قضيتهم الأولىٰ، وثابَ النَّاس إلىٰ هُويتهم التي بدأت في الذوبان، وكفىٰ بها مكرمة.

لقد حرِصَ الغرب على الظهور بمظهرِ الحارسِ للفضيلة، والقيمِ الإنسانية، المبشِّر بحقوقِ الإنسان، فصاغ خطابًا معياريًّا، مضمونه الدَّعوة إلى إعلاءِ كرامةِ الإنسان، والحفاظ على حقوقه، وأنشأَ منظماتٍ عالميَّة للهدفِ ذاتهِ، إلا أنه سقطَ في أولِ اختبار أمام مصالحه الذَّاتية، لقد فشلَ في تقديم أنموذج إنساني يستوعبُ كل البشر، ونجحَ في التَّضليل المؤقَّت على السُّذج، وظهرَ جليًّا أنَّ كل هذه الشَّعارات، والمنظمات، مجرد أدوات أفرزها المنتصر عشية الحرب العالمية الثَّانية، لمواصلة نهب العالم، وتعزيز مكانةِ القوي، وأنَّ شعار العالمية ليسَ أكثر من عولمة مهيمنة تسعى لتطويع بقية البشر للرغباتِ الغربية وَفْقَ تصورها للحياة، وهذا لا يعني وجود أفراد تحركهم إنسانيتهم، ولكنهم حالات استثنائية وسطَ سياقٍ إمبرياليٍّ مهيمن، يعبد عجل الذَّهب، ويسفكُ دماء البشر لأجل تسمينه. وهذه المفاهيم قبل الطُّوفان لم يكن ليقتنع بها المتلقي بسهولةٍ كما اقتنعَ بها اليوم وهو يشاهدُ الإبادة التي تتعرَّض لها غزَّة بدعمٍ غربي منقطع النَّظير!

وقد كان الرَّاحل عبد الوهاب المسيري (ت: 2008) سبَّاقًا لإحلال هذه الأفكار في وعي القارئِ العربيِّ، فقد أبان أنَّ الاستيطان الصُّهيوني استئصالي، وهو امتدادٌ لروحِ الإبادة المتجذرة في الحضارةِ الغربيَّة، التي تستبطن الإبادة لكلِّ ما يعوق تمددها، فإبادة “الشُّعوب الأخرى ليست مسألة انحراف «في الفكر والحضارة الغربية؟»، وإنما نمط عام متكرِّر: ملايين البشر في الأمريكيتين وأستراليا والجزائر وفيتنام وفلسطين”(1). بل إنَّ ما تعمله الصهيونية في فلسطين هو عين ما فعله الأمريكان في القارة إبَّان نزوحهم إليها، ومن هنا ندرك سرَّ التفهم الأمريكي وحماسها لما تفعله إسرائيل!

وقد رأى النَّاس فجوة القوة الهائلة بينَ حركات المقاومة الفلسطينية وبين إسرائيل والحلف الصهيوني العالميِّ من ورائها، وكيف عجزَ الكيان كسر إرادة المقاومة، ففتَّشَوا عن السِّر وراء ذلكَ الثَّبات، فلم يجدوا إلا الإيمان، الذي منحَ المقاومة قوة روحيَّة هائلة، وغمَرَ غزَّة بسكينة ورضى رغم هول الدَّمار.

ولعلَّ من ارتدادات الطوفان المتوقعة أنه سيتمكَّن من جرفِ كل أنماطِ التَّدين غير المثمرة، والأفكار السَّائلة التي تصنعُ عربيًّا هجينًا، بلا ملامح، ومن ثمَّ إعادة الوهج لمشروع “التَّدين الحي المؤثِّر” إلى الواجهة، بوصفه تدينًا مُنتجًا للإنسان السَّوي، والمجتمع الحيّ، وأمَّة الشُّهود الحضاري.

ولعلَّ ما يعضدُّ هذا التَّصور، خبر إشهار “مركز تكوين”، للفكْر – في الوقتِ الذي تستمرُّ فيه محرقة غزَّة، – وهو مركزٌ يُعنى بنقدِ الموروثِ الإسلامي، كما يزعمون، لكنَّ الذي أثار اِنتباهي ليسَت الوجوه التي تصدَّرت المشهد، ولا مضمونه المعهود، ولا من يقفُ خلفه، وإنما توقيتُ إشهاره، ثمَّ قطعَ حَيْرتي، ما سمعته من أحدِ روَّاد المركز، وهو “إسلام بحيري”، وهو يفصِحُ ضِمْنًا عن المغزى من إنشاءِ المركز، والهدف من وراءِ إشهاره في هذا التَّوقيت الغَريب، الذي تبادُ فيه قطعة من جسدِ الأمَّة، دون حَرَاك، يقول البحيري: “بعد الاِنتهاء من حرب غزَّة سنعاني من موجةِ إرهابٍ مرْعبة، لأنَّ الإحساس بأنَّ الإسلام عُمِلَ فيه كلّ هذا، والدول نكَصَت على عهدها، ولم تقم بدورها، فالحل، عودة حقبة السَّبعينيات، عقابًا للتَّخلي عن القضيةِ من قبل بعض الدول العربية، وعقابًا للدول الغربية التي تقفُ خلف إسرائيل”. هذا مجمل قوله، وهو في غايةِ الصَّراحة في بيانِ أحد الأسباب التي دُفِعُوا من أجلها للإعلان عن “مركزِ تكوين”، وهو مجابهة موجة التَّدين القادم بسببِ الطُّوفان، التي لمسوا أثرها، وتوقعوا تضخمها، ومحاولة الالتفاف والسَّيطرة على استفاقةِ الشُّعوب التي عانت من التَّغييب، وأحسَّت بالخذلان من تركِ غزَّة وحدها بلا نصير، في حين وقفَ الغربُ – بلا أدنى خجل- خلفَ الكيان صفًّا واحدًا، في مفارقةٍ بائسة تحكي صورة من الاستلاب الذي تمرُّ به دولنا العربيَّة والإسلاميَّة!

والمتابع لما حدث منذ السَّابع من أكتوبر يدرك أنَّ الطوفان أحيا ما اندثرَ في النُّفوس من معاني التَّحرر، ونهضَ برابطة الأخوة التي أضعفتها صوارف السِّنين، وأعادَ القضيَّة إلىٰ الواجهة، وأبانَ عن النِّفاق العالمي، الصَّامت عن الإبادةِ الإنسانية المروعة، وصفعَ التَّطبيع علىٰ قفاه، وكشفَ المستور، عن المواقف، والرِّجال، والأفكار، وأظهرَ لأحرارِ العالم: إنَّ إسرائيل دولة قبيحة، بشعة، تحيا على الموت، والدِّماء!

الربيع إلى الطوفان إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة3 من الربيع إلى الطوفان: إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة

- طوفان الأقصى ومركزية الأمة

في الأعوامِ الأخيرة – ما بعد ثورات الرَّبيع العربي– خَفَتَ الكلام عن قضيةِ فلسطين، وحقهم المسلوب، وقضيتهم العادلة، تناساها النَّاس، وانشغلوا بمصائبهم، وحيواتهم، وقضاياهم الدَّاخلية، ثمَّ وجدنا أنفسنا وقد سارعَ القوم ركضًا نحو التَّطبيع، وإنهاء ملف القضيَّة، ليُمنح الضَّحيَّة بعض الفتات للرُّضوخِ لواقعٍ حتميٍّ تشكَّل على ظلالِ صفقةِ القرن، ولو تمَّ أمر التَّطبيع – حينها – لما سمعتَ صوتًا هائجًا يدينُ الاتفاق المر، لقد غُيِّبَت الأمَّة، وأُدخِلت في عواصف لا تنتهي، ثمَّ رأى المواطن العربيُّ أنه يعيشُ حالة اغترابٍ في قلبِ موطنه، فانصرفَ الهمّ إليه، وتلاشت عنده كل القضايا التي كانت تشكلُ خيطًا ناظمًا يجمعه مع كل أبناءِ العروبة، ومع ارتفاعِ صوت الخلاص الفردي، والانزواء القُطْري، وتلاشي صوت القضيَّة الأم؛ ظهر على السَّطح ظاهرة سحب البساط من القضيَّة المركزية الأولى لتتوزع على قضايانا الدَّاخلية، الملِحَّة، فهي – في نظرهم –  لا تقلُّ عنها قدْرًا، وبذا، اِنكفأ النَّاسُ على قضاياهم، لتتحول فلسطين وقضيتها إلى قضيةٍ عابرة، لا تأخذ حَيزًا – يليقُ بها – من تفكير المواطن العربي المغلوب على أمره، وأرضه، ولقمة عيشه. ومن عَرَفَ هذا الواقع الذي كان يسير بوتيرةٍ متسارعة؛ يدركُ أهميَّة السَّابع من أكتوبر وما أحدثه في تغيير الرؤى وقلب الموازين وإعادة الأمور إلى نصابها.

إذن، جاء طوفان الأقصى في ظلِّ واقعٍ محبِط، بائس، ضبابي، فأيقظَ المسلمين، وأحيا مفاهيم التَّدين الحي، وأعاد مركزيَّة الأمَّة، فعندما أدركت النُّخب السِّياسية، وأحرار الأمَّة أنَّ المعركة الحالية ليست وطنية ولا إقليمية، بل عالمية، حيث يقف النِّظام الدَّولي بقيادةِ الغرب، خلفَ الأنظمة الإقليمية التَّابعة له، وفي القلب منها إسرائيل؛ أدركوا أنهم يواجهونَ حِلفًا عالميًّا لا يصدُّه إلا صوتٌ واحدٌ يصدر عن الأمَّة التي تقفُ خلفَ قضيتها، ولا سبيل إلا بتقويةِ هذا الصَّوت الجامِع، ليواجه قوى الشَّر. وقد أدركَ المنبهرون بالغربِ أنَّ الغرب الحاكم كتلة عنصرية ترفضُ الآخر، ولا تقبل به مهما فعل، ولذلك رأينا الشَّباب المسلم في أمريكا الذي كاد أن ينسلخَ من جلده، ليجد نفسه – فجأة – في دائرةِ الاتهام والكراهية لا لشيء إلا لانتمائه الجيني إلى الأمَّة الإسلامية، ومن ثمَّ بدأ البحث عن هذه الأمَّة التي يعيره الغرب بها، ويدينه بالانتماءِ إليها، ويرفضُ انضمامه إلى المنظومةِ الغربيَّة مهما انسلخ، وذابَ في هُويتها؛ لأنها هُويَّة خاصَّة، وليست ناديًا متاح العضويَّة لكلِّ عابر.

ولأول مرةٍ يتعرَّض المسلمونَ لاختبارٍ وجودي، حيث يرونَ على الهواءِ مباشرة جزءا عزيزًا منهم يُبادُ بطريقةٍ وحشية ممنهجة، ولا يستطيعونَ فعل شيء، فخابَ ظنهم في أنظمتهم، وفي منظوماتِ الغرب الفكريَّة، والسِّياسية، وإن كان ردُّ الفعل الجمْعي لم يكن على مستوى ما حصلَ ويحصل في غزَّة من إبادة، بسببِ الأثر النَّاجم عن الثَّوراتِ المضادة التي سحقَت كل الأحلام، والتَّطلعات المشروعة، وتمكنت من زرعِ الخوف في قلبِ الشَّارع، ووضعت مستقبله على المحك، ولا تنقطعُ عن تذكيره المستمر بنماذج بائسة سيصل إليها لو فكَّرَ أن يرفعَ رأسه في يومٍ ما. ولعلَّ الطوفان يكون مفتتحًا لهجرةٍ جماعيَّة نحو الجذور الإسلاميَّة، الأصيلة، بعد فشلِ كل المنظومات التي قدَّمت نفسها بديلاً للدِّين في لحظةِ فراغٍ عاشتها الأمَّة. مع تعزيز وحضور لمفاهيم التَّضامن والولاء الدِّيني، وإعلاء الهويَّة الإسلاميَّة الجامِعة، والتَّفاعل الاجتماعي والسِّياسي بالقدرِ المتاح.

ويبدو أنَّ الحملات الإعلاميَّة الشَّعبية للرد على الدعاية الصهيونية، والمقاطعة، ومناهضة التَّطبيع، وتحولها إلى خطٍّ نضالي مقاوم، فيه إحساس عارم بالدَّور الذي يقومُ به المواطن العربي المغلوب نصرةً للقضيَّة، وتأييده للمقاومة، بل، لقد تحولت “المقاطعة” إلى بعد قيمي، ومسئولية أخلاقية، تحملُ أبعادًا تتجاوز مفهوم الرِّبح والخسارة، إلى معاني الإحساس بالفعلِ المقاوِم، والإضرار بالعدو، والدخول إلى معتركِ التَّغيير بالمستطاع، ومحاولة النَّبذ لكلِّ ما يرتبطُ بهذا الكيان الغاصب، لإحكامِ عزلته، والوقوف في وجه التَّطبيع معه، وإحياء دور الشُّعوب نحو قضيتهم المركزيَّة.

وإنَّ ما يحسن التَّأكيد عليه: أنَّ من آثار الطوفان، ليسَ فقط عودة مركزيَّة القضية الفلسطينية عربيًّا، وإقليميًّا، بل وعالميًّا، ودونكَ الحَراك الإنساني العالمي الشَّريف، المندِّد بالمجازر، والمنافح عن حقِّ الإنسان الفلسطيني المضطهد، فقد أظهر الطوفان أنَّ القضية الفلسطينية قضية غير قابلة للتَّصفية، وأنه لا استقرار ولا سلام في الشَّرقِ الأوسط وربما في العالم دونَ حلٍّ عادلٍ للقضيَّةِ الفلسطينية العادلة.

وقد مثَّلت غزَّة محرقةً للنِّظام الدَّولي الجديد، فقد تبخَّرت فيها المؤسَّسات الدولية، والقانون الدولي، وبدا العالم عريانًا إلا من القوة، وخرجَ الإنسان وحشًا بادي العورة، مكشِّر الأنياب لا يفصله شيء عن وحش الغاب، فانكشف النِّظام الدولي عن غابةٍ كالحة السَّواد، يلفها التَّوحش من كلِّ مكان، وليس لسكان هذه الغابة المخيفة من المسلمين، إلا الاعتصام بدينهم، وإحياء رابطتهم الأممية، لأنَّ وجودهم على المحك.

مفخرة يجرِّر بها الزمان ذيوله1 من الربيع إلى الطوفان: إعادة إحياء مفاهيم التدين ومركزية الأمة

- الطوفان وعملية الترميز

منذ سنواتٍ ونحنُ نشاهدُ محاولاتٍ مرعبة في ترميزِ التَّافهين على المستوى المحلي، والإقليمي، والعالمي. ويتمُّ ترميزهم، كقادة أو مؤثرين، لأنهم يمتلكون مالًا كثيرًا، أو شهرةً واسعة، أو نكتةً سخيفة، أو جسدًا رائعًا، وهذا التَّرميز لا ينحصرُ في متابعتهم فحسب، إنَّما يمتدُّ إلى محاولةِ تقليدهم، والرغبة في الوصول إلى ما وصلوا إليه، وتسويق أقوالهم وكأنَّها مُلْهمة، وجعلهم في محلِّ الإنسانِ النَّاجي من محارقِ الفشل، والنَّاجح في عَالمٍ معقَّد. وفي ظلِّ هذا الوضعِ الآسِن، ظهَرَ الفارسُ المُلثَّمُ “أبو عبيدة”، وحازَ شُهرةً ساحقةً في الإعلامِ العربيِّ، والعالمي، لأنه لسانُ الطُّوفان الذي يطفئ بريقَ الزَّيْف الصُّهيوني، ويرى الدكتور مصطفى السَّواحلي في سياقِ حديثه عن حضورِ الملثم في وعي المتلقي: “أنَّ النَّاس شِيبًا وشُبَّانًا يَنتظرونَ بياناتِهِ على أحرَّ من الجمرِ، ولا يكادُ يُساعِفُهم الصَّبرُ، واثقينَ أنَّه ينطقُ بالحقِّ الصُّراحِ؛ لأنَّ المقاومةَ تقولُ ما تفعلُه سواعدُ أبطالِها، وقد عَهِدَ الناسُ أنَّ الكذبَ والتَّدليسَ ليس من مُفرداتِ قاموسِها”(2)، ومن ملامحِ ترميزه، أنهم عَمدوا إلى تقليده، وتقمص خطاباته، وحركاته، وظهرت صورته في عواصمِ العالم، وعلى أبوابِ المساجد، وفي الأسواق، والجامعات، أي حَلَّ في العالميْنِ الواقعي والافتراضي! واستطاعَ أن يُقدِّم نموذجًا خلاقًا للأجيالِ العربيَّة النَّاشئة، في الوقتِ الذي توهَّم الغرب أنَّ هيمنته المعرفية بكافة أدواتها؛ قد نجحت في استلابِ الوجود العربي، وأنتجت جيلًا رخوًا، غارق في تصوراتها الكونية عن الحياة، ومنساق معها، بما يُطمئنها أنها أمام جيلٍ لا يمثِّل أي تهديدٍ مستقبليٍّ مضاد لحضارتها المنحلَّة.

ختامًا:

لن يكونَ طوفان السَّابع من أكتوبر حَدَثًا عابرًا، بل هو حدثٌ نوعيٌّ مفصلي، سيبقى أثره لسنواتٍ قادمة، وسيظهر أثره في التَّغيرات الكبرى التي تعيشها بلادنا العربيَّة، وسيرى أثرهُ الإنسان الحر في طريقة تفكيره، ورؤاه، ونظرته للواقع، ويكفي أن يكون حلقة مباركة من سلسلةٍ متطاولة من التَّدافع الحتمي دفاعًا عن الحقِّ، والمبدأ، ولعلَّ أهل التاريخ يشيرونَ إليه كواحدٍ من أهمِّ الأحداث التي عاشتها الِمنطَقة، والعالم، لقد كسرَ الطوفان الصَّمت، ووقفَ في وجه التَّغول الإمبريالي، وأماط اللثام عن زيفِ الرِّواية الصهيونية، التي خدعت العالم، ويكفي الطوفان محْمَدة أنه أعاد إلى الأمَّة روحها الجامعة، ومنحها من النُّضج في قضايا مفصلية ما كانت أن تصل إليه في سنينَ طوالًا.

وعلى الرغمِ من الوجعِ الذي نعيشه إلا أننا ندركُ أنها قيمة التَّحرر، وضريبة الكرامة، والانفكاك من قبضةِ الوهم، والخوف، وقدر لا مفرَّ منه، فقد دفنوا الرَّبيع، فأتاهم الطوفان؛ ليبعثَ القضية من مرقدها مرةً أخرى بعد سنواتٍ من التَّآمر، لإنهاء الملف، والمضي قدمًا في سبيلِ العار بحثًا عن السَّلام المزعوم.

الهوامش:

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. بارك الله بك دكتور خالد
    تحليل وإبراز للأدوار المختلفة لكل من أعداء الأمة وأدوار أبطال هذه الأمة
    وربنا يعز هذه التضحيات ويعقبها فرج قريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى