استبدت بي الحيرة وأنا أقرأ هذا السِّفْر الموشَّح بحروفٍ جاحظية، هل هذا صاحب كتاب (سطوة البيان)؟ ثمَّ قلت في نفسي لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعَ الأدب، بل صرت راعيًا للحروف بجدارة، تسوقها حيث شئت. لقد استوى قلمك على عوده، ودخلت نادي الأدباء من أوسع أبوابه، وآن لكَ أن تكتب لرسالة سامية ومعانٍ قيمة تنبض بالحياة، وأن يكون الأدب وسيلة لا غاية.
لقد صار كاتبنا بعد صدور هذا السِّفْر شيئًا آخر، قلمًا ينبعث كالعنقاء من تهامة، وحين يُشمّر التهامي عن مئزره، فلا يسبقه أحد. وبحق، فإن كتابه هذا يمثل ميلاده الأدبي الرسمي وما قبله آلام مخاض.
وداع البداية:
اِبتدأ الأديب “خالد بريه” كتابه (رمْلة كنتُ جنين ركامها) بالوداع، لأنه كتبه في لحظة فراقٍ قسري، فراق والده، الذي حُرِمَ من لحظة تشييعه. وهي صورة متسقة مع فراقِ المدينة التي تحتضر وأجبرته الظروف على الابتعاد عن سرير وجعها، عسى أن تنال منه رعاية وينال منها زفرة تحيي الرُّوح. ألا ما أقسى لحظات الوداع “عن بُعد”، أن تودع حبيبًا من وراء البحار فيلّوِّح بيده ولا تستطيع لمسها أو تقبيلها. لقد كان والده هو المدينة التي احتوته، وكانت المدينة هي الثقب الذي تنفس منه قلمه ليبوح بزفرات فراق والده، وكانت السطور قصيدة عزاء لوالده الذي طوته رملة المدينة، وللمدينة التي ابتلعتها رمال الكهنوت.
أنين المدينة:
ما الذي يدفع كاتبًا يعيشُ على سواحل البحر الأسود، ويمخر عباب غابات الأناضول، ويستظلُّ بقباب مساجد إسطنبول، أَن يَحِنَّ إِلَى الحُدَيْدَةِ؟!
وما مثله إلا كمثل النَّبي الذي هاجر من وادٍ غير ذي زرع، فأقسم بلوعة (والله إنكِ لأحب البلاد إليّ). إنها الروح التي تشكلت ذراتها من جسيمات المكان، والروح تحنُّ إلى تكوينها الأول.
أستمع إلى أنين شكواه في ثنايا السطور، يشكو التهميش للمدينة ولأدبائها وفنانيها، ويؤكد أن هناك تغييبًا متعمَّدًا. وهي مشكلة يمانية عامَّة، نسمعها في كل بقعة خارج المركز الذي تركزت فيه السلطة والنفوذ، والمركز هنا شلل وعصائب وليست جغرافيًّا، فإنَّ النُّظُم الطائفية لا تنتمي لجغرافيتها، بقدر ما تنتمي لعصائبها الضيقة.
وهي ظاهرة ومؤشر على تشظي الوجدان اليمني، بفعل الغلبة التي تُقصي ولا تُقرب، تُمزّق ولا تُوحّد.
عزاؤنا أنَّ المدن التي تُنقش ذاكرتها بالقلم لا تموت ولا تذويها رياح النسيان، وقد انبرى للحديدة وفيٌّ من أبنائها، يذود عنها غبار الزَّمن، ويخلد ذكراها في الزُبر.
وقديمًا قالوا الحضارة هي القلم، وما لم يدونه القلم فلا وجود له، وكأنَّ القلم ينفخُ في الأشياء روح الحياة.
وقد أحسن خالد حين خلَّدَ ذكرى مدينته، إذ نقلها من ساحل البحر إلى أعماق الذاكرة.
صور تقاوم النسيان
لقد استقبلت المدينة السَّاحلية السهلية السفن القادمة من وراءِ البحار بما تحمله من بضائع وشخوص جاءوا بعاداتهم وثقافاتهم المختلفة، لكنها صبغتهم بسمتها التهامي بعد مزج رفيق حتى إنك لتجد الهندي والتركي والمصري والأفريقي وقد انصهروا في بوتقةٍ واحدة فصاروا التَّهامي.
وقد حكى لنا عادة تبخير الماء في “باب مشرف” وفيها فرادة تستحقُّ التوثيق، فقد حدثتنا “د. هبة رءوف عزت” عن صديقتها اليمنية التي كانت تبخر الثياب بعد غسلها وقبل تجفيفها. وقد تراءى لي منظر البخور يصَّاعد من طريق البخور القديمة. ألا ما أعتى العادات الجميلة، وما أشد صلابتها ومقاومتها لكثبان القرون.
وأعود إلى أديبنا حيث يوحي لك وهو يصدّر الأحكام المطلقة عن (أفضل مخلوطة تباعُ في اليمن) و(أجمل ساحل) بأنه استطاع أن يتجاوز معضلة “أرسطو” في الاستقراء التَّام، فطاف كل السَّواحل، وتذوق جميع الخلطات، ثمَّ جاءنا بالخبر اليقين أنَّ ما ثمة خلطة في الدنيا مثل التي يسبكها الطاهي في “باب مشرف”. وأنا على يقين من استحالة ذلك منطقيًّا، ووقوعه أدبيًّا ووجدانيًّا، فإن صاحبنا رأى بعين المجنون “قيس” ولم يرَ بعيني،
آه ما أتعس مقاييسي المنطقية حين تتقحم عالم الأدب بأدواتها الصارمة.
ومما نبهنا إليه الأديب المفارقة التهامية، حيث السَّهل الغني يتكوم على أردافه شعب فقير، وكم تمنيت لو استعار خطبة البليغ التهامي الذي خاطب الرئيس السَّابق قائلًا:
“وا رئيس،
الكهرباء عندنا، والنور عندكم،
الميناء عندنا والقمح عندكم،
المزرعة عندنا والمحصول عندكم!”
وقد رمقت عقدة الاعتراف والمقارنة بين ثنايا السطور، وقد ضفرت به متلبسًا بها وهو يقارن بقايا الفن المعماري في (حارة السُّور) بصنعاء القديمة، ألم أقل لك إن العلاقة بين مدننا تكامل وتنوع، وليست مركزًا وأطرافًا؟ هل تشحذ الحديدة بعراقتها اعترافًا من صنعاء أم تتميز بطرازها الخاص، ليكون نمنمة فريدة في لوحة الوطن الكبير؟
ومما أخذته على صديقي غياب الروافد الوطنية عن عين كاتبنا، فقد ظل البؤبؤ محملقًا في الجوهر التهامي للمدينة، ولم يرمق ما هنالك من روافد تعزية وصنعانية وجبلية رَصَّعْت لوحة المدينة بألوان متنوعة.
ابن البحر
كنا ننحدر إلى الحديدة من سفوح “جُبلان” الخضراء، فما أن نقترب منها حتى تخفق قلوبنا لرؤية البحر، حيث كان هو المقصد الأول للزيارة، ولكن عيني حَفَّتْ وهي تعبر أوراق صاحبي ولم أرَ شاطئًا ولا ذكرًا للبحر، حتى كدت أرتمي من التعب، وقلتُ في نفسي: حَجَزه الإلف عن حديث البحر، فطفق يصف لنا تهامة، ويهمل بحرها، وكأنها قيعان لا يرقد البحر عند قدميها!
حتى استيقظ عِرق الصَّيَّاد آخر الأمر، فتذكر مورده الأول، وأعاد اكتشاف سحر البحر بقوله:( كُلُّما تَغَلْغَلْنَا فِي كُنْهِهِ وَاسْتَغْرَقْنَا فِي أَسْرَارِهِ، عَجَزْنَا فِي الإِبَانَةِ عَمَّا نجِدُ مِنْ مَعَانِيهِ الْمُتَدَفِّقَةِ، وَظِلَالِهِ الْمُحَشَّدَةِ فِي الرُّوحِ، وَمَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْهُ يفضِي بِنَا إِلَى سَعَةِ الْجَهْلِ بِهِ).
أرق قلوبًا
توج النبي ﷺ وفد تهامة الذي هاجر بقيادة أبي موسى الأشعري، بتاج لا يزال حتى اليوم يتلألأ على جبينها:( أَرَقُّ قُلوبًا، وأَلْيَنُ أَفْئدةً).
فتهامة رقيقة لينة، في تضاريسها، وفي طباع أهلها الرقيقة، وفي لسانها. وإنك لتلفي هذه السماحة في الخارطةِ العلميَّة والدَّعويَّة التي عَرَضَها الكاتب، وكأنه ينتمي إليها كلها، بل عدَّ جميع الروافد تصبُّ في نهرٍ واحد، لسقي شجرة المعرفة العتيقة في تهامة، فلم تعكره أنفاس التعصب التي تؤزُّهَا المدارس الضيقة.
روائي قادم
حين وقف سيد قطب على “قنديل أم هاشم” صرخَ بأعلى صوته: يحيى حقي، أين كنت؟!
فهو أول مكتشف للموهبةِ الحقيَّة.
وأما أنا فقد رأيتُ بأم عيني روائيًّا يتخلَّقُ من ثنايا السَّرد الأدبي، والتوصيف البديع، والتَّخيل الخلّاق، لقد أمسكت به متلبسًا بروح دوستويفسكية، وهو يبوح بانفعالاته النَّفسية مع “المعطف”، وينسجُ منه حكاية متعددة الأبعاد.
وحين يرثي مدينته يرسمُ لوحة سريالية لمدينته قائلًا: (دَخَلَتِ المَدِينَةُ فِي كُهُوفٍ مُظْلِمَةٍ، أَعَادَتْهَا لِلْوَرَاءِ سِنِينَ طِوَالًا. فَلَمْ يَعُدْ وَجْهُ المَدِينَةِ الحَزِينُ حَزِينًا فَحَسْب، بَلْ بَاتَ مُنْطَفِئًا، مُكْفَهِرًّا، يَشْكُو الحِرْمَانَ، وَيَصْرُخُ مِنَ العَنَاكِبِ. لَقَدْ طَمَرُوا المَدِينَةَ بِظَلَامِهِمْ، فَلَمْ تَعُدْ كَمَا كَانَتْ، أَضْحَتْ مَدِينَةً كَأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنَ العَاصِفَةِ وَبَدَتْ خَرِبَةً، الخَرَابُ يَتَوَزَّعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَمَشَاهِدُ البُؤْسِ تَلُفُّ تَارِيخَ المَدِينَةِ وَحَاضِرَهَا المَقْذُوفَ فِي الفَرَاغِ.).
وحين تحدَّثَ عن ابتلاع البحر لرفيقه الصَّياد، انسلت دموع قلمه راسمة لحظات التأرجح بين الأمل وخيبة الرجاء:(لِأَوَّلِ مَرَّةٍ أَدْرَكْتُ أَنَّ لِلدُّمُوعِ رائِحَةً هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الفَحْمِ المَحْرُوقِ مِنْها إِلَى سَبْخاتِ المِلْحِ. ثَمَّةَ إِحْساسٌ بِالفَقْدِ، يُنازِعُهُ أَمَلٌ ضَئِيلٌ يُبْرِقُ بِحَياءٍ عَنْ اِحْتِمالِ النَّجاةِ، رجل البَحْرُ سَيَنْتَصِرُ عَلَى قُوَى الشَّرِّ وَالطَّبِيعَةِ، الصَّيَّادُ يُمْكِنُ هَزيمَتُهُ، لَكِنْ لا يُمْكِنُ قَهْرُه، سَيَخْرُجُونَ أَحْياءً، الجَمِيعُ يَتَمْتَمُ، سَيَخْرُجُونَ أَحْياءً، أَحْياءً، وَكُلَّما قَدِمَ شَبَحُ اللَّيْلِ، تَتَوارَى كَلِمَةُ أَحْياءً، لَمْ يَتَغَيَّرْ جَوُّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، ظَلَّتِ الشُّهُبُ تَعْبُرُ السَّماءَ بِالسُّرْعَةِ المَجْنُونَةِ ذاتِها، ثُمَّ تَضْمَحِلُّ فِي الآفاقِ البَعِيدَةِ فِي شَكْلِ عُرْسٍ مِنَ الأَلْوانِ النّارِيَّةِ تَخْتَرِقُ قَلْبِي المُتْعَبَ، وَقَفَ الجَمِيعُ عَلَى قَدَمٍ واحِدَةٍ لِسَماعِ خَبَرِ الفَصْلِ الأَخِيرِ: لَقَدْ عَثَرُوا عَلَيْهِما فِي شاطِئِ البَحْرِ، لَقَدْ فَعَلَ البَحْرُ فِعْلَتَهُ مَرَّةً أُخْرَى، كَيْفَ يَغْدِرُ بِمَنْ أَحَبَّهُ؟ وَكَيْفَ يُمَزِّقُ وشيجةَ الحُبِّ المَعْقُودَةَ بَيْنَهُما؟).
إن صاحبنا يحيك خيوط السرد بأسلوب روائي معاصر، عبر بلاغة جاحظية، تنتصر للمفردات العتيقة، واللغة الأصيلة.
أديبنا الخالد
عرفت سبيل الأدباء فالزم.