3 دقائق
ظافر القاسمي أديبٌ مؤرِّخ مثقَّف، وكاتبٌ بليغ مُبين، وحقوقيٌّ قانونيٌّ خبير، ونقيبُ المحامين في سورية (توفي 1404هـ/ 1984م). وهو ابن العلَّامة المُصلح الجليل الشيخ جمال الدين القاسمي صاحب (محاسن التأويل) وغيره من النفائس، الذي توفِّي وظافرٌ ابنُ سنة وثلاثة أشهر فقط، فكَفَلَهُ عمُّه الشيخ قاسم القاسمي وحَدِبَ عليه ورعاه، وآثرَ تركَ الزَّواج للتفرُّغ لشؤون أولاد أخيه الأيتام!
تخرَّج ظافر في الأدب وعلوم العربية والشريعة على عمِّه، وتلميذَي أبيه الشيخ حامد التقي، والشيخ محمد بهجة البَيطار.
وصف بيانَه الأستاذُ الكبير وجيه بيضون صاحبُ دار ابن زيدون بدمشق في كتابه (بين الصناديق: خمسون عامًا في رِحاب المطابع ومع أهل الفكر) قائلًا:
“ظافر القاسمي أحدُ قلائلَ ممَّن استجمَعُوا إليهم براعةَ الوصف مع أناقة اللفظ، وجمالَ الترسُّل مع جلال المعنى، وسدادَ المنطِق مع ألمعيَّة الذِّهن. هذا إلى سَلاسةٍ في الأسلوب والسَّرد، يتخلَّلُهما الصِّدقُ في الشُّعور وإشعاع الرُّوح”.
وبيَّن أستاذُنا عاصم بهجة البَيطار الطريقَ التي سلكَها ظافرٌ إلى البيان قائلًا:
“كان ظافر القاسمي يؤمن أن فصاحةَ المحامي، وبلاغةَ عبارته، وعُلوَّ أسلوبه، تُدني منه أسبابَ النجاح في قضاياه، ولذا كان يُكثر من القراءة في كتب الأدب الشهيرة، ويُخالط كبار البلغاء في تراثنا؛ فصحَّ كلامُه، وسَما بيانُه، ونمَت قدرتُه على الخوض في كلِّ مَيدان من ميادين الفكر والمعرفة… فعرَفَتهُ الإذاعاتُ وقنَواتُ التِّلفاز العربية مُحدِّثًا بارعًا، يأسِرُ المُستَمعين بسهولةِ وصوله إلى غرَضه، وجمال إشاراته، على عُمقٍ في الفكرة، وتنوُّعٍ في الأغراض”.
خلَّف الأستاذ ظافر كتبًا بالعربية والفرنسية، منها كتابان بديعان حَقيقان بالمطالعة، هما:
● (مكتب عَنبَر) صور وذكريات من حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية.
● (جمال الدين القاسمي وعصره).
[وهما متاحان للتحميل إلكترونيًّا في مواقع الكتب المجَّانية]
وزانَ كتابَه (مكتب عنبر) مقدِّمةٌ ضافية مُطربة خطَّها بيَراعته الصَّناع أديبُ الفقهاء الشيخُ علي الطنطاوي، وممَّا قاله في صدرها:
“ظافر القاسمي من نُقباء الصِّناعتَين: صناعة المُحاماة وصناعة البيان، ومن بُلغاء اللِّسانَين: لسان العرب ولسان الفرنسيين، وهو من الأعلام الذين يُستدَلُّ بهم ولا يُدَلُّ عليهم”.
وجعل ظافرٌ إهداءَ كتابه إلى رُوح أخيه مُسَلَّم القاسمي، الذي اختَرَمَتهُ المنيَّة ولا يزال غضَّ الإهاب في عامه الرابع والعشرين، بعد أسابيعَ معدوداتٍ من نيله شهادةَ الطبِّ بتفوُّق.
وقد أرفقتُ صورة الإهداء بمقالتي هذه.
وممَّا لفتَني في مقدِّمة ظافر لكتابه عن أبيه جمال الدين، ما أسماه (ترويض القريحة) قبل الهجوم على التأليف، وتلك لعَمرُ الله خُطَّةُ رشدٍ ما أحوجَ الكَتَبةَ إليها اليوم، قال:
“ما أذكرُ أنني تهيَّأتُ للكتابة في أيِّ موضوع إلا وأقبَلتُ على كتابٍ من كتب الأدب، ومن أقربها إلى نفسي (عيون الأخبار) لابن قتيبة، و(البيان والتبيين) للجاحظ، أُروِّضُ قريحتي، وأعيدُ إلى نفسي نشاطَها الأدبي، فما أشعرُ إلا وسُبلُ القول قد انفتحَت، وأساليبُه قد اتسعَت، والمعاني قد تدفَّقَت، وأرى محفوظاتي قد تنبَّهَت من الذَّاكرة، ومنها ما لم أستعِده منذ طفولتي أو شبابي.
رأيتُني، دون عمدٍ، أعودُ إلى كتب التراجم والسِّيَر، وكأني أستوحيها، فتعدَّدَت أمامي الطرائق، وتشعَّبت المَسالك، وانتشرَت أمامي صورٌ رائعة من عقول الرجال في أساليب التاريخ والتدوين، أشهَدُ أن مكتبتنا العربيةَ قد زَخَرَت بكنوزٍ غنية منها، ما أظنُّ أن مكتبةً أُخرى من لغات العالم قد حَفَلَت بقَدْر ما حَفَلَت به مكتبتُنا العربية”.
رحم الله ظافرًا القاسميَّ وأخاه مُسلَّمًا وأباهم جمالَ الدين، وسائرَ من ذكَرنا من رجالاتٍ كرام، وأخلفَ في الأمَّة من أمثالهم.
هذا، وقد جمع سيرةَ الأستاذ ظافر وسِيَرَ بقيَّة أفراد أُسرته الجِلَّة، شيخُنا محمد بن ناصر العَجْمي في كتابه الذي أجادَ فيه وأفاد (آل القاسمي ونبوغُهم في العلم والتَّحصيل) الصادر عن دار البشائر الإسلامية ببيروت.
فمَن رامَ معرفتَهم حقَّ المعرفة فعليه به.
ومن رامَ حُسنَ التعبير والبيان، فعليه بانتجاع تلك الرَّوضة الغنَّاء من روضات الجمال والإبداع، التي انتجَعها من قبلُ ظافر، وليَصقُل طَبعَه، وليُروِّض قريحتَه.