المدونة

لا يزال العبور مستمرا

في الثامنة والنِّصف، صباح السَّابع من أكتوبر 2023م، عُدت للبيت وفتحت الهاتف، وإلى تويتر توجَّهت؛ لأرى خبرًا لم يُحرك مشاعري مثله، وحتى اليوم، وحتى الموت.

صباح العبور المقدس الذي غيّر -ويغير- وجه العالم والحضارة البشرية. صور العائدين بالأسرى، مشاهد اختراق السِّياج، أصوات التَّكبير، ومقطع أبو إسلام؛ كلها عالقة في دماغي، ولا زلت أعود لها بين الحين والآخر.

هذا المقال خواطر وأفكار توارد على ذهني منذ بداية الطوفان، وحتى الشَّهر العاشر منه. لعلَّ فيها شيئًا من الإفادة لكَ يا صديقي.

أنت نِتاج بيئتك

مع بداية العدوان على غزَّة، وتوحش آلة القتل الصهيونية في إبادة الكل دون تفريق بين المجاهد والأعزل، الشيوخ والأطفال، المرضى، وكل من تطاله يد الاحتلال؛ راهنتْ المقاومة على حاضنتها الشَّعبية بشكل كبير. فلم يُظهر أي غزاوي أنه ضد المقاومة بأي شكل، إلا بعض الأصوات النَّشاز الخارجة عن السياق، والتي لا تستحق الحديث عنها؛ ليس لأننا نريد أن نرى هذا الجانب من الصورة فقط، الجانب الأسطوري الصامد والذي قد يخدر مشاعر البعض، ولكنها الحقيقة المُشاهدة بالصوت والصورة.

فبعد كل ليلة دامية من القصف يشرق الصباح على هتاف الناس بأنهم في ظهر المقاومة. يخرج الناجي الوحيد من تحت الأنقاض ليقول: “فدا الأقصى، فدا المقاومة، فدا الضيف”. هذه البيئة المحيطة الواثقة بمقاومتها، وبالله قبلها، تنتج لنا نماذج الصمود والتحدي لهذا المحتل الغاشم.

من الناحية الأخرى فغزة منطقة مغلقة ومحاصرة كما هو معلوم، وتقريبًا أغلب الناس فيها على معرفة ببعضهم، وبينهم رابطة. ولكنها ليست أي رابطة نعرفها نحن أبناء الدُّنيا، -فأهل غزة بالنسبة لي هم من أهل الآخرة-. فالرابط الذي يجمع كثيرًا من أهل غزة هو المسجد، حلقات التحفيظ، دروس العلم، المبيتات، والقوافل الدعوية. رابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب؛ درس تعلمته في بداية دراستي للسيرة النبوية، ورأيته في أهل غزة تطبيقًا.

علاقة الغزاوي بالقرآن علاقة حميمية فيها الكثير من المشاعر، والأنوار الإلهية، تراها في أعينهم، في ضياء وجوههم، في ثنايا كلماتهم، وبين سطور مقالاتهم.

بين حافظ، ومدرّس، ومن لا يزال يحفظ، والذي يسعى للسند المتصل لرسول الله ﷺ، هذه البيئة التي ينشأ فيها الطفل والشاب هناك. تحيطهم أنوار القرآن، يستظلون بآياته، يتدارسون سوره، ويفهمون موضوعاته، ويطبقونه في أحوالهم.

فما تنتظر يا صديقي من هذه البيئة؟ كيف سيكون منتج هذا المجتمع؟ بقعة مباركة فعلًا، البركة في كل زاوية، وكل نسمة هواء حتى، ماذا تعتقد أن يفعل شخص يتربى على الأنفال، ويردد التوبة، ويحفظ البقرة وآل عمران، وبين جنبيه محمد والفتح، ويعرف عدوه اليهودي من خلال خالقه، ولديه دليل النصر والتمكين وأسبابهما؟ .. الإجابة نراها.

انتصرت غزة؟ لا يزال العبور مستمرا

ديمومة العمل

ظهرت فكرة الأنفاق في غزة في بداية الألفية. مراحل تطوير سلاح الكتائب بدأت منذ التسعينات بأول عبوة فجرها المهندس يحيى عياش، مرورًا بالبرغوثي، والغول، وباسم عيسى، وغيرهم. ولست هنا بصدد تتبع تطور سلاح الكتائب؛ فقد كُتبت فيها العديد من المقالات الجيدة.

يا صديقي، لو احتسبنا فقط الأمر من انسحاب الاحتلال من غزة؛ فهذه عشرون عامًا من العمل المتواصل، العمل المضني الشاق، بدون أي دعم أو تمويل. سواعد شباب الجامعات حفرت الأنفاق، أيدي مهندسي القطاع صنعت السلاح، أساتذة الجامعات علموا الطلاب، أهل العلم حفظوا الجيل وعلموه، الأسرة فعّلت دورها في حفظ أبنائها، الكل يعمل من أجل هدف واحد، الجميع يستيقظ في الصباح، ويعرف ماذا سيفعله لتحقيق هذا الهدف، كل شخص هدفه الأكبر وغايته الدائمة زوال الاحتلال، وهذا لا يعني أن ليس لديهم أحلام وأهداف أخرى، بلى وهم أفضل وأكثر صدقًا منا في ذلك.

غزة، فعلت وتفعل ذلك منذ سنوات، وكما قال القائد الشهيد إسماعيل هنية: “نحن نراكم القوة هنا…”.

واختزال جهد أهل غزة في العمل والبذل في تطوير السلاح، والكتائب فقط، فيه شيء من الظلم لأهل غزة جمعاء، غزة صنعت وتصنع المقاتل منذ ولادته؛ المقاتل الذي لا يُقهر بعون الله.

وفرة النماذج

في كثير من الأوقات، عند جلوسي مع أحد أو مجموعة من الأصدقاء أصبحنا في حديثنا عن المعاني الإيمانية، والمفاهيم القرآنية، وبعض التصورات الإسلامية نستشهد بمقاطع وقصص لأهل غزة، وكثيرًا ما قلت إن غزة وفرت لنا النماذج. فعندما تضرب مثلًا لأحدهم من سيرة النبي ﷺ، أو حياة الصحابة والتابعين لتأكيد معنى معين تجده يختلق الأعذار، ويأتي بالحجج بأن الزمان يختلف، والصحابة هم تربية الرسول وغيرها من المخارج التي يستخدمها كثير منا. ولكن هذه الحرب دحضت كل ذلك، ورأينا -ولا نزال نرى- قصصًا سمعناها في بطون كتب التاريخ عن رجال ينغمسون في العدو للشهادة.

في المقاطع التي تصورها الكتائب وتنشرها حزمة عظيمة من نماذج الفداء والتضحية. وأزعم أنه لو جمع باحث هذه المقاطع وتتبع فيها المعاني الإيمانية لوجدها كثيرة عظيمة، واستخرج منها شيئًا نافعًا. وهذه النماذج لا تقتصر بفئة معينة، ولكنها تشمل كل فئات المجتمع تقريبًا.

ارتقاء قادة الكتائب الأوائل قبل جندهم، يؤكد أن القائد والجندي في ذات الخندق، ونفس المحنة، وآخرهم القائد الشهيد أبو العبد. وهذا هو الأصل وليس ما نراه في دولنا الإسلامية والعربية.

طفل عمره حوالي إحدى عشرة سنة يلقن أخاه الأصغر الشهادة، هذا المشهد دار العالم أجمع، خرجا من قصف للتو وبهما الجراح، والخوف، مع ذلك يعرف الطفل ما الواجب تلك اللحظة. التربية على العقيدة الإسلامية تنتج مثل هؤلاء الرجال.

ومع تدمير الجامعات في غزة، واستهداف العديد من ألمع الأدمغة في القطاع، من أساتذة الجامعات، وأطباء، وقادة، وأئمة، وعلماء، لا يزال أهل غزة يطلبون العلم، ويواصلون ما حاولت الحرب قطعه. ومنهم أنس القانوع من جباليا الذي أنهى رسالة الدكتوراة أثناء الحرب، وقام بالمناقشة في الرابعة فجرًا من جامعة ماليزيا.

وذاك الذي صنع أداة لتحلية المياه، والآخر صنع شيئًا للطهو، والطفل الذي وجد طريقة لإضاءة الخيمة عن طريق الرياح، والعدّ لا ينتهي. والعديد من شباب البرامج العلمية الإلكترونية، وطلاب العلم كالبناء المنهجي وغيره، الذين رأيت إصرارهم على متابعة الدروس والمحاضرات في كثير من الرسائل التي يتناقلها أبناء البرامج فيما بينهم لشحذ الهمم.

هذه النماذج وغيرها الكثير التي لا يمكن حصرها وتتبعها في مقال بسيط كهذا، تؤكد العزيمة الصلبة، والإرادة الصخرية لدى أبناء القطاع. فعلى قلة الموارد، وشحة الإمكانيات؛ إلا أنهم يصنعون المعجزات كل يوم، ويقيمون الحجة الداحضة الدامغة، على كل فرد مسلم يعيش في هذا الحقبة الزمنية اللعينة، الذي يملك أضعاف ما يملكه أهل غزة من موارد، وقدرات. وأقول لو عمل كل شخص، وجماعة إسلامية، بربع ربع ما اشتغل به أهل غزة لكنا في خير كثير. ولا يزال المتاح متاحًا كما قال المهندس أيمن عبد الرحيم فعلينا استنفاد الجهد في المتاح، لأنه لن يكون متاحًا، كما حصل مع كثير من المساحات التي كانت متاحة قبل سنوات واليوم فقدناها.

غزة

إعادة المركزة

ما الدنيا؟ وكيف نظرتنا لها؟ من هو العالِم؟ ما هو النفاق؟

وغيرها من الأسئلة التي كشفتها غزة لكل مسلم بأوضح وأصعب إجابة، بالدماء، والأشلاء والشهداء عرفنا الكثير من حقائق هذه الدنيا التي انغمس فيها كثير من أهل الإسلام وفقدنا البوصلة، وأضعنا المركزيات التي يجب أن نستند إليها، ونرى من خلالها الحياة، ونفسر بنظاراتها الأحداث.

ما فعلته غزة هو إعادة تلك المركزيات لموضعها، بعد أن تم تحييد بعضها، وتشويه بعضها الآخر، سواء من أهل النفاق من بني جلدتنا أو من العدو الغربي الواضح.

كشفت الأحداث لنا أن أهل النفاق لهم لحى، ومنابر يخطبون عليها في الناس، ذكرتنا بعبد الله بن أبي الذي كان يقوم بعد الصلاة ويمدح النبي، وفي الخارج يعقد الدسائس، وينشر الفتنة.

أعادت الحرب لعقولنا مفهوم الجهاد الذي نُزع من الأمة. رسخت فينا أن أهل الكفر ملة واحدة، وصف واحد عند مواجهة الإسلام.

في الأحداث، ومع كل يوم نرى الأنفال وكأنها تتنزل، التوبة نقرأها بين سطور الأخبار، وبيانات الندب، وفي وجوه الحكام، كثير من الآيات فهمنا معانيها، وكأننا الفاروق عندما سمع ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عِمرَان : 144].

أعادت غزة قراءتنا للآيات، وموضوعات السور، وجددت علاقتنا بالقرآن. هذه الحرب، كشفت، فضخت، وعرّت الإنسانية وقيمها. أعادت ترتيب المفاهيم، ضبطت التصورات ومهما كتبنا وتحدثنا فلن نجمع، أو نتتبع ثمار هذه الحرب، والقادم أكثر مما ذهب ومما يتوقع الناس.

وفي النهاية من لا يزال يعيش في أوهام ما قبل الحرب، فهو شخص ميؤوس من حالته، من يرى الأمة بهذه الجراح ولم يصحُ من تفاهته، وضياع وقته، ودنو أهدافه وهمته، فهو أعمى.

غزة، وأهلها أدوا ما عليهم، وهم طليعة الغيث القادم لهذه الأمة، فالواجب أن يعمل كل شخص بما يتاح لديه للإصلاح، والعمل، والبذل، والغرس لهذا الدين. عسى أن يرحمنا الله، ويعفو عن خذلاننا، وعدم نصرتنا لهم. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى