سقوط الثورة الدستورية والقبض عليّ:
وجاءت ليلة السبت 3 جمادى الأول سنة ١٣٦٧ هـ (۱۳) مارس (١٩٤٨م) تلك الليلة المشئومة التي سقطت فيها صنعاء وقبض على الإمام عبد الله الوزير ومن معه من الأحرار، وأعلن ذلك سيف الإسلام القاسم بن يحيى حميد الدين من إذاعة صنعاء آمرا جميع الجيش والمواطنين بالقبض على من سماهم الدستوريين المجرمين قتلة الإمام يحيى. وسمعنا الإذاعة أنا والأخ الأستاذ أحمد المعلمي وسقط في أيدينا. ولقد كان في وسعنا أن نفر في الساعة الأولى من سماعنا للخبر لأن الراديو الذي استمعنا إليه هو الراديو الوحيد في المدينة ولكنا قلنا إن الفرار يعتبر خيان،ة وإذا سقطت صنعاء فقد يكون في إمكاننا أن نصمد في إب وتعز ولو إلى حين. لقد عز علينا ألا يتجاوز عمر الثورة سبعة وعشرين يوما، ثم إلى أين تذهب.. إلى التشرد والضياع وقد لا ننجح ونقع في أيدي الحاقدين الهمج. وقررنا أن نبقى وليكن حظنا حظ إخواننا الذين قبض عليهم في صنعاء ومنهم الإمام عبد الله الوزير ورئيس الوزراء الأمير علي عبد الله الوزير وسيف الحق إبراهيم رئيس مجلس الشورى. وكان هؤلاء معهم الكبسي والمطاع والعنسي والحورش وجمال جميل وغيرهم من رجالات اليمن وقادة الثورة قد وقعوا في قبضة أحمد، وعاد إلى أفكارنا المثل الشعبي( قتله بين سبعة عرس).
وقررنا البقاء، وجاء مساء الأحد 4 جمادى الأول سنة ١٣٦٧هـ (١٤) مارس (١٩٤٨م) وكان مدير البرق (الحنبصي) قد تلقى الأخبار من صنعاء ونقلها إلى السيد يحيى عبد القادر الذي تحول بقدرة قادر إلى نصير لولي العهد. وأسر إلينا مدير البرق أن السيد يحيى بعث الرسائل إلى ولي العهد في نفس اليوم الذي بعث فيه البرقية بالبيعة للوزير. وتبين أنه كان يلعب على الحبلين ويتصل بالجهتين ولهذا فلم يجد حرجا في إصدار الأوامر إلى العكفة والجيش الموجود في إب للقبض على الأحرار وتعقب من يفر منهم. أما أنا والأخ المعلمي فلم يحتج الجنود إلى أوامر بالقبض علينا فقد اندفعوا من تلقاء أنفسهم، وكان معظمهم وعلى رأسهم عبد لسيف الإسلام الحسن يقسمون الأيمان أنهم لا يرضون بشيء دون أنفسنا ويتسابقون ويتباهون في الحصول على شرف قتلنا والشرب من دمائنا، وأيسنا من الحياة واستسلمنا لقدرنا ولاسيما بعد أن رأينا طلقات الرصاص تخترق نوافذ المكان الذي كنا فيه في مبنى الحكومة. ولكنه قيض الله السيد محمد بن محمد المنصور والسيد علي بن عبدالله حميد الدين فبذلا جهودا كبيرة للحيلولة بين الجند وبين قتلنا. وقالا لهم: ليُعتقلا ويرى فيهما الإمام رأيه، وأنتم إذا اندفعتم من تلقاء أنفسكم فسوف يعاقبكم الإمام على تصرفكم بدون أمره، وتراجعوا إزاء هذا التهديد، ورضوا بأن يقتصروا على الحبس والقيد، وأخذ السيدان وجوههم على أن لا يمسونا بسوء، ومع ذلك فقد كانت ظهورنا وأكتافنا هدفا لطبانات البنادق حتى وصلنا السجن، وسارعوا إلى قيدنا بقيدين كبيرين يعجزاننا التحرك بهما إلا بمشقة، ورموا بنا في زاوية من الحبس يضعون فيها الرماد وبقايا التمباك وكان ذلك في الساعة السادسة بالتوقيت الغروبي من مساء الأحد 4 جماد الأولى الموافق ١٤ مارس ١٩٤٨م. وقد ارتمينا فوق كومة من الرماد فكان فراشا وثيرا. ومع ما قاسيناه من أتعاب وتوتر أعصاب فقد أسلمنا أنفسنا للنوم، وكان نوما عميقا لا يوقظنا منه إلا طرقات مطارق السجانين وهم يقيدون من يقبضون عليه من الأحرار الذين نشطوا في الستة والعشرين يوما التي هي عمر الثورة، وكان فيهم محمد بن أحمد المفتي ومحمد لطف الصباحي والأستاذ عقيل عثمان.
وبعد أيام جاءوا بالقاضي محمد الأكوع محمولاً، فقد حاول الفرار فوقع من على السطح فانكسرت رجله، ومع ما في رجله من الكسر فإنهم لم يعفوه من القيد ليصوروا أبشع ما يتصوره المرء من الوحشية والهمجية. وكان الجنود قد أودعوا مجموعة كبيرة من أعيان إب في سجن الجلالية، وكان كثير منهم لا ناقة له في الموضوع ولا جمل ولكن الجنود والعكفة ساقوا كل من يريدون نهبه من التجار ونحوهم إلى السجن، وكان فيهم عبده الصباحي ومحمد علي الصباحي ويحيى العاضي وعلي حسن صالح وأحمد الشويطر ومحسن سلام وغيرهم ممن لا شأن له بالثورة.
وقد سلب الجنود كل ما معنا وبقي بعضها في مكان السيد يحيى الذي كنا ننزله معا وفيها الجنبية والمسدس، وقد سلم الجنبية إلى الإمام أحمد الذي أعادها إليّ بعد خروجي من السجن، وأنا أسجل هنا الحقيقة وأقسم بالله أني لا أحقد على أي ممن أساءوا إلي في تلك النكبة التي شملت وعمت وأوشكت أن تقضي على الأماني والآمال للشعب اليمني، وإنما أسرد هنا ما حدث وليسامح الله الجميع.
الرحلة إلى سجن تعز:
بعد أن وصل الإمام عبد الله الوزير ومن معه من علية القوم وأحرار اليمن إلى حجة أودعوا السجون، وجاء إليها أيضًا الأستاذ أحمد محمد نعمان ومن معه وفيهم القاضي محمد الربيع والقاضي إبراهيم الحضراني وكانا قد انتدبا من تعز بالسفر إلى يريم لمحاولة جمع جيش من القضاء للعمل على إنقاذ من في ذمار فصادف وصولهما إلى عراس على رأس فشل الثورة وانتصار أحمد فقبض عليهما القبائل وأدخلا ذمار معتقلين لا منقذين وانضما إلى ركب الأستاذ نعمان، وكانوا قد وضعوا الأغلال على أعناق المقبوض عليهم ووضعوا المغالق وما أدراك ما المغالق على أيديهم. ولا يمكن أن يتصور ما يجده (الممغلق) من تعب المغالق إلا من جربها.
أقول إنه بعد أن أودع الإمام أحمد كل أعدائه في سجن نافع والقاهرة بحجة وفي سائر سجون اليمن غادر حجة إلى تعز وتجاوزها إلى القاعدة، ومن هناك طلب وصولنا من إب إلى القاعدة. وجاء محمد الكول من مقدمي الحرس يلزمنا بالتأهب للسفر إلى الإمام وأن علينا أن نمشي على أقدامنا مقيدين إلى القاعدة، وقلنا له أن هذا متعذر أو متعسر وأنه لا يمكن أن نصل القاعدة إلا بعد أيام. وبعد اللتيا واللتي وافق الجنود الفطنون في الأذى على فك القيود واستبدالها بالسرات أي الأغلال على الأعناق بحيث يُقرن كل خمسة أو ستة في قرن واحد يجر بعضهم بعضا، وقد أعفوا القاضي محمد الأكوع عن السرة بل وجاءوا بحمار ليركب عليه لأنه مصاب بكسر في رجله، ورآنا ونحن نمشي على أقدامنا يجرجر بعضنا بعضا وهو راكب على الحمار فقال: أرأيتم كيف صدق المثل القائل (رب ضارة نافعة).
خرجنا من إب بعد الظهر ونحن ثلاثة وثلاثون شخصا هم كل من رأوا إيصالهم إلى الإمام. أما الباقون فقد تركوهم في حبس إب لأنهم أقل خطرا وبعضهم لا شأن له بالثورة، وكذلك كان أكثر من في الركب معنا ممن لا شأن لهم بالأمر ولكن العكفة يريدون أن يقدموا لمولاهم وجبة دسمة، وقد حسبوا ذلك يتوفر بكثرة عدد المكبلين بالأغلال، وخرجنا من إب متجهين إلى القاعدة والناس على جانبي الطريق يدعون لنا بحسن المخرج والنساء يبكين ويندين بأصوات مرتفعة.. بينما الخارجون من صنعاء وعلى رأسهم الإمام الوزير وكثيرون من رجالات اليمن قد خرجوا بين لعنات المواطنين ورميهم بالتراب والقاذورات. وبهذا يمكنك أن تقارن بين المشاعر هنا وهناك، وأين تكمن الروح الحضارية والإنسانية ورقة الأفئدة والإيمان اليماني.
واصلنا سيرنا مشيا على الأقدام، والأغلال تثقل كواهلنا حتى وصلنا السياني في الثالثة بعد الغروب أي التاسعة، ولم يجدوا لنا منزلا ينزلونا فيه فساقونا إلى جامع البلدة، وقد أخذ منا التعب كل مأخذ، فارتمينا على الحصير وكأننا على فراش وثير ولن أنسى أنني وأنا في شبه غيبوبة من شدة التعب أنني لم أشعر إلا وشخص يغمز رجلي وركبتيّ ليخفف مما أجده دون أن أطلب منه ذلك أو حتى يستأذن مني وانتبهت وأردت أن أمنعه ولكنه أصر على أن يؤدي هذه المهمة التي كنت أحوج ما أكون إليها . وسألته عن اسمه فقال فلان خشافة من بعدان ويؤسفني ألا يكون اسمه الآن حاضرا في ذهني لأسجله، وقد شكرته بعد ذلك وأردت أن أعطيه قلما كان معي فرفض وقلت له إنه سيؤخذ مني فخذه أنت فأصر على الرفض.
وفي الصباح جاء الناس لأداء صلاة الصبح وفوجئوا بنا هناك وكانت معالم الحزن والتأثر بادية على وجوههم. أما الحاج عبده، وهو مقهوي ينزل المسافرون في بيته، فقد انفجر باكيا بصوت مسموع حين رآنا في تلك الحالة والأغلال على أعناقنا تربط بعضنا ببعض، فزجره أحد الجنود. وقمنا للصلاة وكان المشكل الذي لا حل له هو عند ذهابنا إلى دورة المياه فقد تعذر علينا قضاء الحاجة إلا بصورة جماعية وكان ذلك صعبا وغير مألوف وكذلك كان عند الوضوء. لم يأتونا بطعام الصبوح (الفطور)، كما أننا لم نتناول طعام العشاء وتناول الجنود فطورهم دون أن يفكروا أننا مثلهم بشر نحتاج إلى الطعام. وكنا قد التقينا في محل الوضوء بأناس من حجور، وهم من غلاة المتشيعين المتعصبين جاءوا كجيش لتصفية من بقي في العدين متمرداً، كالشيخ علي بن محسن والشيخ أحمد بن حسن فلما رأونا والأغلال على أعناقنا عرفوا أنا من (الدستوريين)، وهذا هو الاسم الذي أطلق على الوزير ومن عمل معه، وما رأونا حتى هبوا يريدون الاعتداء علينا فمنعهم الجنود الذين معنا فأوسعونا سبا وشتما لأنا قتلنا (أمّام) أي الإمام. وقلنا لهم: نحن في إب على بعد ست مراحل من صنعاء فكيف قتلنا أمّام؟ فقالوا: أنتم السحرة الذين سحروا الوزير حتى قتل أمّام، فقلنا لهم: لسنا بسحرة ألا ترون أنا قمنا إلى الصلاة قبلكم ونحن على هذه الحالة فقالوا: أنتم يهود دستوريين فقلنا: أما دستوريين فنعم وسأل أحدهم من هذا الذي يتكلم فقال أحد الجنود المرافقين لنا: هذا القاضي عبد الرحمن الإرياني ووالده كان رئيس الاستئناف وشيخ الإسلام فقال: لا إله إلا الله يخرج من العود عودين فعود كرسي المصحف وعود مندف يهودي، وما ينفع الجد الأول، وأراد أحدنا أن يشرح له أن الثورة قد جاءت لمصلحته ومصلحة أمثاله من المضللين ولكن الجنود زجروه بشدة.
وبعد أن أخذ الجنود قسطهم من الطعام والراحة ساقونا مشيا على الأقدام نحو القاعدة حيث الإمام أحمد، وفي مشارفها التقانا آلاف من الناس وفيهم الكثير من العكفة الذين أخذوا يطلقون الرصاص وينشدون الأهازيج التي تسب الوزير وأعوانه والدستور وقومه وكان الإمام أحمد ينزل في دائرة البرق، وقد صفونا أمام ذلك الدار والأغلال في أعناقنا، وأطل الإمام من النافذة وجاء القاضي أحمد الحضراني ليأخذ لنا صورا، وتركونا في الشمس حوالي ساعتين وقد جفت حلوقنا من العطش بعد المشي الطويل والتعرض للشمس الحارة وطلبنا الماء فمنع منا واستغثنا فلم نفث. وسمع طفل من أطفال إب الذين جاءوا مع الركب فذهب وجاء بكوز فيه ماء وفي غفلة من الجنود مد به اليّ فشربت ولم يدعني الجندي استكمل حاجتي من الماء ومد يده ليأخذه مني ولكني تمسكت به وأردت إعطاءه لمن بجانبي من الإخوة ولكن الجندي الجلف رام أخذه بشدة فرميت به إلى الأرض والإمام ينظر من النافذة فتعطف وتكرم وأذن بأن نعطى شيئًا من الماء وأن نحمل على سيارة شحن كانت واقفة في الشمس إلى سجن العرضي في تعز.
وصعدنا إلى السيارة بمشقة كبيرة ولم أستطع الصعود فحملت على أيدي الجنود ورموا بي في السيارة وكانت كقطعة من النار لتعرضها للشمس طويلا. وحشرونا في السيارة ومعنا عدد من الجنود كانوا يهزجون على طول الطريق قائلين (لعنة الله على الدستور وأصحابه، وعلى زمرة الداعي وأحزابه)، والداعي هو الإمام عبد الله الوزير فقد تلقب أولا بالداعي ثم تلقب بالهادي. ومررنا من تعز ولم نر في الناس إلا واجمًا أو مشفقا حتى وصلنا إلى باب دار الضيافة حيث يوجد عناصر من القبائل الشمالية فهبوا يهتفون بكلمات نابية ويبصقون علينا. وأذكر أن الأستاذ عقيل عثمان رحمه الله، وهو أحد المعتقلين، كان في حالة شديدة من العطش فكان يفتح فاه ليبصق إليه الباصقون، ويفعلون فيتلمض ليبل لسانه.
واستلمنا هناك النقيب علي بن علي الجائفي أحد رئيسي الحرس الملكي. وقد أمر منذ وصولنا بتكبيلنا بالقيود ضما إلى الأغلال التي علينا، فقلنا له: إن هذا غير معقول ولا معهود أن يبقى السجناء وهم داخل السجن مقيدون وعليهم الاغلال فقال إنه يعرف ذلك ولكنه يحتاج إلى أمر من الإمام بحل الأغلال عنا ولما ألححت عليه قال مؤنبا: نعم يا قاضي عبد الرحمن صدقتم الدستوريين والأحزاب ونسيتم حاشد وبكيل وهم الذين يقيمون الدول ويسقطونها في اليمن على مدى التاريخ أو أنكم لم تقرأوه. فقلت له إننا من أجل حاشد وبكيل قمنا بالمحاولة، فقال ولكنكم لم تأخذوا رأيهم وتتفقوا معهم من قبل الحركة. فقلت له ذلك شأن الإمام الوزير ولا شأن لنا في ذلك، ولكني أريد أن أقول لك أن الذين اتفق معهم الوزير من حاشد ومن بكيل قد دخلوا صنعاء لينهبوا مع الناهبين، فقال ومن هم هؤلاء الذين اتفقوا مع الوزير، وأحسست بأنه قد سبق لساني بما لا ينبغي أن أقوله فقلت له لا بد أن يكون هناك من اتفق مع الوزير ولا يمكن أن يقوم بالحركة دون أن يكون قد اتفق مع بعض القبائل، والوزير كما تعرف له وجاهته عند القبائل وكثيرون هم الذين يعتقدون أحقيته بالإمامة. فقال ولكنه استعجل بقتل الإمام فرفضه حتى أصحابه فقلنا للنقيب ليس الآن وقت العتاب ولكنه وقت المروءة والشهامة والقبيلة وشيمتك لا ترضى بأن نحمل القيود في أرجلنا والسرات في أعناقنا، فخجل الرجل واعتذر بأن الأمر ليس في يده ولكنه سيبرق للإمام يستأذن منه بفك الأغلال، وحاولنا إقناعه بأن ما نطلبه هو الشيء الطبيعي وأنه الرسمي علينا وله صلاحيته ولكنه أسرع فأبرق للإمام برقية جاء ردها في المساء بالأمر بفك الأغلال وبقاء القيود.
وكنا قد لقينا جهدًا جهيدا في محاولة الوضوء للصلاة وقضاء الحاجة إذ كان الكنيف ضيفًا لا يتسع لأكثر من واحد وهذا الواحد بدوره لا يستطيع الجلوس لقضاء الحاجة فصبرنا على ما نعانيه وامتنعنا عن الطعام والشراب. وما صدقنا أن الأغلال حلت عن أعناقنا حتى ذهبنا إرسالاً إلى دورة المياه، وتذكرنا قول أحد الزهاد للخليفة الرشيد وقد رآه يزهو بملكه المترامي الأطراف فقد قال له لو أنه منع عنك الطعام والشراب بماذا كنت ستشتريه. فقال بشطر من ملكي، فقال لو حبس خروجه عنك كم كنت ستدفع ليسهل خروجه، فقال سأدفع ملكي كله لو طلب مني. فقال الزاهد فما أحقره من ملك ثمنه أكلة وبولة.
التهديد بالإعدام:
وبعد أن استرحنا من الأغلال هدأ بالنا بعض الشيء، ولكن جاء الإمام أحمد من القاعدة وجاءتنا أخبار إعدام الإمام الوزير وبعض بني الوزير والسيد زيد الموشكي فأزعجنا ذلك أيما ازعاج وقلنا إن الذي يقدم على قتل هؤلاء لا يتورع عن قتلنا، ولم يطل بنا الانتظار فقد جاءت ليلة الجمعة وفيها أيقظنا الرسم أنا والأخ المعلمي من النوم وأمرونا بأن نحرر مالنا من وصية فقد أمر الإمام بإعدامنا بعد صلاة الجمعة وأسرعنا إلى كتابة الوصية وكلنا مستسلم وراض بقدره وغير متهيب ولا حزين، ولكن الإخوة الذين كانوا معنا وهم زهاء ثلاثين واحدا في مكان واحد قد أفزعهم الأمر ولم يذوقوا طعم النوم، أما نحن فقد عدنا إلى النوم وكأن شيئًا لم يكن، لقد غمر برد الرضى قلوبنا، وفي اليوم التالي جاء الرسم يقولون إذا كنتم تريدون الاغتسال فقد جهزنا لكم الماء لتستعدوا للإعدام وقمنا فاغتسلنا وتوضأنا وصلينا ركعتين وانتظرنا النداء بأسمائنا. وكانت العادة أن الإعدامات تتم بعد الخروج من صلاة الجمعة، ولكنه مضى الوقت المحدد ولم يناد أحد بأسمائنا فقلنا في أنفسنا لعل الإمام قد ثاب إليه رشده واستشعر حرمة دم المسلم. ولكن الرسم أنذرونا أن الأمر تأجل إلى الجمعة المقبلة، لقد أرادوا أن نظل نعيش التوقع والقلق.
وفي الجمعة التالية طلبوا منا الاستعداد واستعدينا، وفي دورة المياه تمكنت من تحرير رسالة إلى إخوتي أوصيهم بأولادي خيرا وأواسيهم بأني لست وحيدا في هذا السبيل بل قد سبقني قوافل الشهداء ابتداء بالإمام الشهيد الحسين بن علي عليه السلام. وقلت: أنا على ثقة أن الله تعالى سينزلنا منازل الشهداء ويعد للإمام أحمد دركات القتلة. وقد بعثت الرسالة مع الولد عبد الله بن عقيل الإرياني الذي استشهد في المحابشة في ثورة ١٩٦٢م، وكان يتردد إلينا من لدن الأخ القاضي عبد الله بن محمد الإرياني ليوافينا ببعض المأكولات، وكان الجنود يسمحون له بالاتصال بنا لأنه طفل صغير ولينالوا نصيبهم مما يحمله. وقد استطعنا أن نسرب معه تلك الوصية التي وصلت إلى أخوي عبدالله رحمه الله ومحمد حفظه الله فأزعجتهما أيما إزعاج، وحمل الأخ عبد الله نفسه ومعه الولد محمد يحيى بن علي الإرياني ووصلا إلى تعز المراجعة الإمام واسترحامه. وقد قابلاه واستأذنا بزيارتي فأذن الإمام لهما بذلك، وجاءا بالأمر إلى رئيس الرسم النقيب علي الجائفي فماطلهما أيامًا حتى اضطرا أن يدفعا له مبلغا من النقود ليسمح بالزيارة وليرفق في معاملتنا.
نهب بيوت الأسرة في إريان:
وجاء الأخ عبدالله والولد محمد واستدعيت إليهما، وقد هالني منظرهما ولاسيما الأخ عبد الله رحمه الله، فكان الهم قد رسم على وجهه أخاديد لا عهد لي بها. وحضر الجلسة النقيب الجائفي حتى لا نتجاوز في الحديث السؤال عن الحال والأولاد، وقد أخبراني فيما أخبراني عنه أن جيشا بقيادة الشيخ العمري قد وصل إلى إريان ونهب كل ما وقعت يده عليه في حصن ريمان وفي بعض بيوت هجرة اريان وقبض على الأعيان وساقهم إلى يريم حيث أطلق سراحهم عاملها السيد علي أبو طالب، فعادوا إلى البلاد ليجمعوا شمل الأطفال والنساء الذين تفرقوا فرارا من معرة الجيش وليبحثوا عما بقي من الأثاث. وكانت أيدي الناهبين قد امتدت إلى المكتبة التي خلفها الوالد رحمه الله وفيها من الكتب القيمة ما لا يوجد في غيرها، وقد استطاعوا استرداد بعضها شراء بالمال. وجاء من يدعو الجائفي فتركنا منفردين واغتنمنا فرصة الانفراد فأخبراني بما تم في حجة من الإعدامات فقلت لهم إنه قد بلغنا فأخبرونا بمزيد من الإعدامات ذهب ضحيتها السيد حسين الكبسي ومحي الدين العنسي وأحمد حسن الحورش وأحمد البراق والشيخان محمد بن حسن وعبد الله بن حسن أبو راس والنقيب حسن بن صالح الشايف ومحمد صالح المسمري وعبد الوهاب نعمان وعبد الله بن محمد الوزير ومحمد بن محمد الوزير ومحمد بن علي الوزير وغيرهم. وجاء الجائفي ليقول لنا كفاية يا قاضي، فافترقنا وكانت الأخبار قد ملأت قلبي هما وحزنا، فإعدام من أعدم بهذه الصورة الجماعية وبدون محاكمة وكأنما هم فريق من الغنم، والأخبار عن النهب وما تبعه من أضرار نالت أسرتي وغيرها من أهالي المحل بسببي قد أثقلني حزنًا، ولكنه ليس أمامنا إلا التسليم. وقد هوّن عليّ بعض الشيء أن أخي عبدالله وهو يخبرني بما حصل قد أحس ألم وقع الأخبار علي فطوى الموضوع وقال لي: لا تهتم أبدا فالمال يأتي ويذهب وكل ما يهمنا هو سلامتك وقد وعدنا الإمام بذلك. وعدت إلى الإخوان وأخبرتهم بأسماء الذين أعدموا مؤخرا وهالهم الأمر وفزعوا له، وقالوا إذا فلن يبقي على أحد، فقلت لهم اطمئنوا فإن الذين يعنونه هم الذين يخشى منافستهم وعملهم ضده.
وبعد أيام جاء أخي محمد وكان قبل الثورة حاكما في ناحية المخادر فأحسن الإمام استقباله وعينه حاكما في الشعر، وقال له لا تتكلموا من أجل الوجيه، يعنيني فلابد من طلوعنا صنعاء ونطلبه إلى هنالك ونعيده إلى عمله، وشكره الأخ محمد وكان قد رفع إليه قصيدة فيها استعطاف وقال فيها إننا نطلب محاكمة أخينا فإذا قضت عليه الشريعة بالإعدام فأعدموه ونحن راضون بحكم الشرع، إننا نريد أن نحتكم معكم إلى القرآن. ولما استقبله قال له بل نعفو عنه ونحسن إليه فقال له أخي تكرموا إذن بفك القيد عنه حتى يحين عفوكم فأمر بفك القيد عني وعن الأخ المعلمي، وجاء الأخ محمد للزيارة ومعه الأمر بفك القيد وكما هي العادة فقد ماطل الجائفي في التنفيذ حتى دفع له مبلغا من المال. وقد كان هذا الأمر مصدر سرور الجميع المساجين وكان فيهم الشيخ علي بن محسن باشا والشيخ عبد الواحد بن حميد والشيخ أحمد بن حسن باشا فأبدوا من السرور أكثر مما يعطيه الأمر فقلت لهم اقتصدوا في التفاؤل فقالوا: ولم وقد انقلب الأمر من الإنذار بالإعدام إلى الأمر بفك القيود هذا بالنسبة لكم فكيف بنا. وقال أحمد بن حسن وكان يحفظ شيئا من الأدب:
إذا تاب الإمام على ابن ضاوي
فبشر كل عاصي بالسلامة.
سجن حجة مرة أخرى:
ومرت الأيام وأهلّ علينا شعبان (يونيو ٤٨) وهو الشهر الرابع الذي يهل علينا ونحن في السجن بتعز، وكانوا قد جاءوا بالسيد أحمد بن يحيى الخباني سجينا. ولم يكن له نشاط في أيام الثورة وإنما أخذ بسابقة صداقته مع الوزير، وقد كان هو أول من يغادر السجن فقد أمر الإمام بإطلاق سراحه بمساعي السيد محمد بن يحيى الذاري، وكان رحمه الله من السعاة بالخير. وبرغم أن السيد أحمد يختلف عنا كثيرا فقد كان إطلاقه مبعث أمل في الخلاص لأمثاله على الأقل. واندفع الأمل بقوة حينما دخل علينا في إحدى الليالي سيف الإسلام علي بن الإمام يسألنا عن حالنا ويطلب منا أن نقدم ضمانات بالتوبة النصوح وأن من عاد منا إلى العمل ضد الدولة فقد أباح دمه وماله، وعليه بعد ذلك أن يتقدم بها إلى الإمام ويشفع لنا، وأسرع كل واحد منا ليحرر الضمانة المطلوبة وبالنص المطلوب وسلمناها إلى الجائفي ليسلمها إلى سيف الإسلام على ليقدمها إلى الإمام مصحوبة بشفاعته ولكنه سلمها إلى الإمام رأسًا، ويبدو أنه لم يكن قد أخذ إذن الإمام في هذا السعي الخيري وأخذها الإمام واطلع على بعضها ثم رماها بعد أن مزقها. وخاب الأمل الكبير، وليس ذلك فقط بل لقد جاء بعد يومين شاعر قبلي من الحيمة وألقى قصيدة شعبية نارية يحرض الإمام على التنكيل بقتلة أبيه وأعداء الإسلام وعبدة الشيطان الذي سموه الدستور. وقد تأثر بها الإمام وحركت أضغانه فدعا الجائفي إليه وقال جهز من لديك للسفر إلى سجن حجة وسنعين من يصحبهم. وجاء الجائفي وقبل أن يخبرنا بالسفر لنأخذ أهبتنا له دعاني ودعا الأخ المعلمي وأمر بإعادة القيود إلى أقدامنا ولم نفهم في البداية المغزى من ذلك ولكني قلت للإخوان إنه السفر إلى حجة فأعدوا أنفسكم، وكانوا بين مؤيد للحدس ومستبعد له.
وقبيل الغروب جاءونا بالسرات فرجوناهم أن يفكوا عنا القيود إذ ليس من المعقول أن نقوى على السفر ونحن مكبلون بالقيود بأرجلنا ومغلولون بالأغلال بأعناقنا، فرفضوا وقالوا لن تسافروا على أقدامكم بل على السيارات، ونادوا علي أنا والأخ المعلمي والقاضي محمد الأكوع وأخيه القاضي إسماعيل والمشائخ علي بن محسن وعبد الواحد بن حميد وعبد الحميد بن مقبل وأحمد الجلال أحد حراس الإمام الذين نشطوا في الثورة وقرنوا بعضنا في غل والبعض في غل آخر ونزلوا بنا إلى سجن الشبكة وضموا إلينا حمود الجائفي وأحمد المروني ومحمد حسن غالب ومرشد المروله أحد العكفة، والسعيدي وهو من العكفه أيضا وحشرونا جميعا في سيارة شحن واحدة ومعنا أكثر منا من الجنود أهل حجور يرأسهم عامل الحيمة السيد حمود الخاشب. وكان الإخوة مقيدين كل واحد منهم بقيدين وليس عليهم أغلال وكان من حسن حظهم أنهم لم يجدوا غلا في حبس الشبكة فأضافوا قيدا للتسوية. وقد يكون العدل مطلوبا حتى في الظلم ولكن هيهات أن تستوي حالتنا بحالتهم فالغل مع القيد لا يقدر قدرها إلا من جربها وخاصة عند محاولة الطلوع إلى السيارة والذهاب إلى دورة المياه والوضوء للصلاة.
وغادرنا تعز وسألنا السيد أحمد المروني والمقدم محمد حسن غالب عما بلغنا من محاكمتهما فقال السيد أحمد المروني: إنها محاكمة الذئب للحمل والغرض منها التوصل إلى إعدامنا. وأردت أن أطمئنه وقد كان في حالة يأس فقلت له: ولم المحاكمة إذا وقد أعدموا العشرات بدون محاكمة وأنا أرى عكس ما استنتجته وأنهم يريدون إعفاءكم من الإعدام، فقال عسى الله وعليه علائم اليأس والقنوط، وقد غاضت منه النكتة التي يعتادها ولم يبق له أي أمل في الحياة. وكذلك كان المقدم حمود الجائفي إلا أنه لا يتكلم وقد أراد أن يعبر عن يأسه بطريقة أخرى غير طريقة الكلام والتوجع وذلك عند وصولنا إلى الحديدة فقد طلب من أحد عارفيه من الجنود الموجودين في الحديدة موسا ليستن به على حد قوله ولكن كان أحد الإخوة قد سمعه يبدي عزيمته على الانتحار. وجاءوا إلي لإبلاغي الخبر وقمت إليه أنا وزملائي في السرة فقلت له ماذا بلغنا عنك؟ فقال: لا شيء ما دمنا نسير إلى الموت فلتخلص إذا من هذا الإذلال والتعب اللذين نقاسيهما من السفر ومن هؤلاء الجنود. فقلت له: يا أخي إن الانتحار يعبر عن أقصى درجات الجبن لماذا تنتحر فتخسر الدنيا والآخرة وتكون قاتلا؟ دعهم يقتلوك لتكون شهيدا من شهداء الوطن، وإذا خسرت الدنيا فقد ربحت الآخرة. أما التعب والإذلال فكل ذلك له حساب وجزاء عند الله تعالى ومازلت به أذكره وأنصحه وأعظه حتى صرف النظر ولم أدعه حتى استحلفته بالله ألا يفعل. ولا شك أنه يذكر لي ذلك بعد أن نجا من الإعدام وخرج من السجن وتقلبت به المناصب في أيام الإمام أحمد، ثم سجن مرة أخرى وفر وعاد ثم جاءت الثورة فرأت له حقه وعمل في عدة مناصب سفيرا في القاهرة ورئيسًا للوزراء كنت أنا نائبه في تلك الفترة وعضوا في المجلس الجمهوري.
وواصلنا السير من الحديدة إلى حجة، وصعدت بنا السيارة على جهد كبير في طريق شقت في تلك الجبال الشامخة التي لا يتصور المرء أن من الممكن أن تسير عليها سيارة. وكم كنت أتمنى مما قاسيناه من التعب أن تهوي بنا السيارة من إحدى الشوامخ لنستريح مما نحن فيه. ووصلنا حجة واستقبلنا أهلها بالسب والشتم. وكان سجن حجه الرهيب نافع أرحم بنا مما قاسيناه من حمل الأغلال والقيود والطريق المتعبة. وكان الجنود يوسعوننا تأنيبا وسخرية وسبا ولكن العامل الخاشب هو الذي لم نسمع منه كلمة نابية. ودخلنا نافع واستقبلنا الحاشدي مدير السجن وناصر على جرامه أحد الرسم المشهود لهم بالقسوة والغلظة. وقال الحاشدي: وأنت معهم يا إرياني الله المستعان، ثم وجه خطابه إلى ناصر علي قائلا له ابدأ به تخير له السك الكبير، وجاء بالسك وهو عبارة عن حلقتين توضعان في الرجلين بينهما عمود موصول يتعذر معه الجمع بين الرجلين ويصعب معه المشي جدا، وقد فكوا عنا الأغلال وأبقوا لنا مع السك قيدا واحدا بينما أضافوا للإخوان الذين كانوا يحملون قيدين وليس عليهم أغلال سكا فوق القيدين. وقد حملوني إلى الزنزانة التي أعدت لي حملا لعدم قدرتي على المشي كما حملوا الكثيرين ممن معنا. وقد كان المكان الذي نزلت فيه أنا والأخ المعلمي مكانا مظلما وبجانب الكنيف المكشوف التي تفوح منه روائح لا تطاق. وكان قد سبقنا إلى هذا المكان وزير المالية في حكومة الثورة الشيخ الخادم غالب الوجيه رحمه الله وهو في نفس الوقت من كبار التجار الذين أسهموا بأموالهم في مساعدة حركة الأحرار في عدن وكان صديقا حميما للشهيد أحمد المطاع. وقد استقبلنا أحسن استقبال خفف الكثير من متاعبنا ووزع علينا ما كان لديه من الفراش وكنا ننام على التراب، وأطعمنا وأسقانا وأمدنا بدفعة مما يتمتع به من صبر وتحمل ورضى وتسليم.
كان وصولنا صدمة عنيفة لكل من في السجن في نافع وفي القاهرة، لأنهم كانوا قد سمعوا عن إطلاقنا في تعز وعن انفراجات كبيرة، كما بلغهم تمرد بعض القبائل على الإمام أحمد، فقد كانوا يعيشون على الأمل الذي أثبت لهم وصولنا أنه أمل خائب وتفاؤل متسرع، وقد أبدع الشاعر إبراهيم الحضراني في وصف اليأس الذي قضى على الأمل بقصيدة طويلة مطلعها :
الآن آن لمقلتي أن تدمعا
ولقلبي المحزون أن يتصدعا
وكان قد رأى ناصر علي جرامة وهو يدق السك على قدمي فأشار إلى ذلك بقوله:
ويجر رِجلا لو يقاس نعالها
بجبين سيده لكانت أرفعا
لم نتمتع بمرافقة الشهيد الخادم غالب كثيرًا فقد جاء أمر بنقله إلى القاهرة واعتبرنا ذلك رفقا به وعطفا عليه وتخفيفا عنه لأن الفرق بين السجنين واسع جدا. ولكنه لم يمض عليه يومان في القاهرة حتى صعقنا لخبر يقول إنه قد أنزل مع الأمير علي بن عبد الله الوزير إلى ساحة الإعدام لإعدامهما. ولم نصدق وظننا أننا نستهدف لحرب نفسية من قبل الحاشدي وجنوده، ولكنا سمعنا صوت الموسيقى وهي تنشد السلام الملكي، وكانت لا تفعل ذلك إلا في أعقاب الإعدام. وجاء المقاطيع الذين كانوا مسجونين معنا في مكان واحد وهم أهل الجرائم من قتلة ولصوص ونحوهم، وكانوا يسمحون لهم بالخروج ليأتوا بالماء من الزعبلي جاءوا ليؤكدوا لنا الخبر ويقولوا إنهم رأوا بأعينهم إعدام الخادم غالب والأمير علي الوزير، وقد أعدمهم أحد الأخدام المقاطيع المجرمين ويدعى علي عياش كانوا يعطونه عشرة ريالات على كل رأس يقطعه، وجاء علي عياش وقلنا له كيف أعدمتهم يا علي وهم الذين قاموا بما قاموا به من أجلك ومن أجل أمثالك؟ فقال سامحوني يا أسيادي لقد أعطوني عشرين ريالاً على الرأسين وأنا محتاج كما تعلمون، وأنا مستعد أن أعدم كل من يطلبون مني إعدامه إذا أعطوني عشرة ريالات على كل رأس، وصدمنا صدمة كبيرة للحادث وعرفنا أن الشوط بطين وأن الجميع مرشحون للإعدام وإنما الإمام يريد التوزيع للإعدام بين الفينة والفينة ليستمر الرعب والإرهاب. وهذا هو شأن السجين الذي يعيش في الأماكن المظلمة أنه يبلغ به اليأس إلى حد القنوط ويبلغ به التفاؤل إلى حد انتظار الفرج بين أونة وأخرى.
كان الإمام أحمد بعد أن اطمأن أن أعداءه قد أصبحوا في قبضة يده وتحت رحمته، قد بدأ مجزرة الإعدامات بإعدام الإمام عبد الله الوزير والسيد زيد الموشكي في القاهره بحجة. ثم توالت الاعدامات في اوقات متفرقة في ساحة الإعدام بحجة فأعدم الأمير علي الوزير ومحمد بن محمد الوزير ومحمد بن علي الوزير وعبد الله بن محمد الوزير والنقباء محمد حسن أبو راس وعبد الله بن حسن أبو راس وحسن بن صالح الشايف والشيخ محسن هارون وعزيز يعني والخادم غالب الوجيه والأستاذ محمد صالح المسمري والسيد أحمد المطاع والسيد حسين الكبسي والأستاذ محي الدين العنسي الذي أنشد وهو يواجه الموت في ساحة الإعدام:
كم تغربت في سبيل بلادي
وتعرضت للحِمام مرارا
وأنا اليوم في سبيل بلادي
أبذل الروح راضيا مختارا
كما أعدم الأستاذ أحمد حسن الحورش وأحمد البراق والشيخ عبد الوهاب نعمان وأحمد ناصر القردعي. كما أعدم في صنعاء وتعز علي سنهوب وعلي محسن هارون ومحمد ريحان ومحمد قائد الحسيني وحسين الحسيني وعلي العتمي وجمال جميل العراقي والأميرالاي محمد سري الشايع والعنجبة. وقد مرت الأعوام الأولى على الأحرار في السجن وكلهم ينتظرون أن يدعوا للإعدام ويمثل حال كل واحد منهم قول الشابي:
يمشي على صدري الزمان
ويزحف الكون الكبير
بعد وصولنا نافع بفترة انتقلنا من ذلك المكان المظلم إلى مكان آخر في الطابق الثاني ينزله السيد الشاعر محمد المطاع رحمه الله وكان هو والشيخ نعمان محمد نعمان والشيخ صالح المقالح والأستاذ قاسم غالب من بقايا سجناء سنة ١٣٦٣هـ (١٩٤٤م). وقد نقل السيد المطاع من القاهرة إلى نافع تنكيلا به لأنه بعث إلى الإمام أحمد، وكان لا يزال وليا للعهد، قصيدة فيها الكثير من الاحتجاج الذي اعتبره أحمد غير مؤدب. كان المكان صغيرا يمكن أن يكون مترين في ثلاثة ومع ذلك فقد ضمني أنا والأخ المعلمي والمطاع والقاضي عبد الله عبد الاله الأغبري وابن أخيه ياسين محمد عبد الاله وكنا نقاسي من الزحام ونتأسى بقول الشاعر:
سم الخياط مع الأحباب ميدان
وقد تضيق مع الأعدا خراسان
[مذكرات القاضي عبد الرحمن الإرياني/ الجزء الأول من صفحة 153-167]