آثار

حركة الأسود العنسي في ميزان التاريخ (ج3)

هناك عناصر عديدة في قصة الأسود، مثله مثل غيره من المتنبئين والمرتدين. وعامة الدوافع قد ذكرت قديما، ولكنها تجددت اليوم بلباس يدعي المنهجية والعلم.

ومن الدوافع المذكورة قديما: الارتداد عن الدين والتنصل عن التكاليف الدينية، وبعضهم للتنصل عن الزكاة، وبعضهم لا يريد أن يكون تابعا للمدينة، وبعضهم حقدا وحسدا أن يكون هناك نبي له أتباع…. إلخ.

ولكن يبدو أن العامل الأساس لحركات الردة عموما – هو: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاد ضعفة الإيمان ممن أسلم حديثا أن الدين انتهى بموت النبي. فانقلبوا على أعقابهم. ولذلك قال الأشعث، كما في الفتوح لابن أعثم الكوفي حين أراد الارتداد وعدم مبايعة أبي بكر فقال له ابن عمه: أنشدك بالله وبإيمانك وبقدومك على النبي إن رجعت عن دين الإسلام، فالناس تبع لك. وإن هذا الأمر لا بد له من قائم يقوم به. فقد علمت بما نزل من خالف أبا بكر ومنع الزكاة. فقال الأشعث: إن محمدا قد مضى لسبيله، وإن العرب قد رجعت إلى ما كانت تعبده. وانفرق الناس فرقتين بعد محاورة بينهما.

ولأن ارتداد العرب ارتبط بوفاة النبي أو بمرض موته؛ فقد ظهرت دعاوى النبوة لدى المرتدين، اعتقادا منهم أن الأمر كهانة وادعاء، وأنهم سوف يسوسون الناس بذلك، وأن النبي ما ساس الناس إلا لاعتقادهم أنه يزعم أنه نبي، فليزعموا هم كما يزعم.

وبذلك اعتقدوا أنهم سيرجعون إلى ما كانوا عليه قبائل متناحرة، فوضوية، همجية. يقتل بعضهم بعضا.

قد يقول قائل: كانت الكهانة معروفة في العرب، فما الجديد؟

الجديد أن المتكهنين ادعوا النبوة، وأنهم يوحى إليهم… واعتقدوا أنهم بهذه الدعوى سوف يسيطرون على الناس، كما سيطر محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ اعتقدوا أنه كاهن مثلهم!! سجاح مثلا، كانت كاهنة من قبل.. فلما مات النبي ادعت النبوة!!

ولذلك فقد حاولوا مضاهاة القرآن بأسجاع ليقولوا للناس: ونحن معنا قرآن كمحمد!!

فحركتهم كانت تعبر عن طموحات شخصية بالمقام الأول، ساندتها تعصبات قبلية جاهلية، وهدفت إلى عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الإسلام ديناً ونظاماً، فكل قبيلة يتسلط عليها شيخها – وقد يلقب نفسه ملكا، ويستغل ضعفاءها، ويسوقها لحروب عبثية، وثارات شخصية.

ولكن دعونا نناقش الدوافع والمقولات الحديثة:

هل الأسود العنسي كذاب أم ثائر؟

الأسود العنسي ادعى النبوة في أواخر عهد النبي محمد ﷺ، ويعد من أبرز الشخصيات التي أثارت جدلاً تاريخياً حول دوافعه وحقيقته. فهل كان كذاباً يسعى للنفوذ السياسي والديني؟ أم كان ثائراً يستخدم الدين لتحقيق أهدافه؟ لفهم هذه القضية، نعتمد على مصادر أساسية في السيرة والتاريخ، مع التحليل النقدي لروايات الأحداث.

أولا: النصوص النبوية التي تصف الأسود العنسي

تصريح النبي ﷺ بالكذب وادعاء النبوة:

في صحيح البخاري: أشار النبي ﷺ إلى ظهور “كذابين” بعده، منهم الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب.

جاء من طريق عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ اليَمَامَةِ». وقال أبو هريرة: أحدهما العنسي، والآخر مسيلمة.

النصوص النبوية تصفه بـ”الكذاب”، مما يدل على ادعاء النبوة لا الكذب العادي. وقد تحققت نبوءة النبي ﷺ بزوالهما سريعاً، فلم يلبث الأسود أكثر من أربعة أشهر حتى قُتل، كما تنبأ النبي ﷺ. كما أن جمع الحديث بين الأسود ومسيلمة، يوحي بنمط مشترك بينهما: استخدام ادعاء النبوة لمقاومة الإسلام وتوسيع النفوذ السياسي.

ثانيا: الروايات التاريخية حول الأسود العنسي

بالرجوع إلى المصادر التاريخية، نجد روايات القصة تتواطأ على أن الأسود دجال، وأنه كان يتكهن، وكان يدعي أخبار الغيب. ومن مؤرخي اليمن: الهمداني في الإكليل ج8: أشار إلى قتل قيس بن مكشوح وفروة في قتل “الأسود بن كعب العنسي، الذي ادعى النبوة”، وكذلك الكلاعي (سليمان بن موسى بن سالم بن حسان الكلاعي الحميري، في كتابه: “الاكتفاء بما تضمنه من مغازي الرسول والثلاثة الخلفاء”).

كما ذكر البلاذري أنه كان له حمار معلم يقول له: اسجد لربك فيسجد، ويقول له: ابرك فيبرك؛ فسمي ذا الحمار.

وحين رمى قيس بن مكشوح المرادي برأسه كبر بقوله: (الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأن الأسود كذاب).

ثالثا: اتباع القبائل له بسبب كهانته:

لم يكن الأسود العنسي معروفا قبل ادعاء النبوة وخروجه، ولم يعرف عنه أنه زعيم قبلي. ولذلك فثمة مفتاح نقدي آخر يفسر حقيقة سلطة الأسود العنسي واتباع القبائل له، ذلك أن دعوى النبوة كانت وسيلة شائعة للتنافس السياسي والديني في تلك الحقبة. واعتقاد بعض العرب أن النبوة امتداد للكهانة. كما حكى الله عنهم (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ). و(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)). فمن الواضح أنه فرض نفوذه من خلال كهانته، بالمقام الأول. ثم صادف ذلك هوى عند بعضهم لحسابات متعددة. فبعضهم حسبها مقاومة لنفوذ بعض القبائل اليمنية المناوئة التي دخلت في الإسلام.

ويشير البلاذري إلى أن اتباع عنس وبعض القبائل له كان بسبب تأثيره ككاهن مدعٍ للنبوة. واستناداً إلى الروايات، فإن صعود الأسود العنسي لم يكن بسبب زعامة قبلية واضحة، بل بفضل استغلاله لكهانته وادعاء النبوة لجذب الأتباع، مع وجود جو عام في الردة لدى قبائل عربية. وقيادته للقبائل خلال التمرد لا تعكس مهارات سياسية وشخصية قيادية، بقدر ما تعكس وجود تأثير ديني كهني استطاع من خلاله التأثير… وتسند هذا نصوص عديدة، كما يرويه قائد جنده: قيس بن مكشوح وغيره من إشاعته وجود شياطين معه ينقلون له الأنباء (والروايات في تاريخ الطبري وغيره)!!

هل الأسود فعلا خطيب وكان يسبي القلوب بمنطقه؟

وبالمناسبة يقول بعض المؤرخين إن الأسود العنسي استطاع التأثير في الناس بمنطقه الذي كان يجذب الاتباع.

ولكنني أشكك في مقدرة العنسي على الخطابة أو التأثير بمنطقه؛ قهو مجرد كاهن. ولم تورد له كتب التاريخ عبارات خطابية مؤثرة، سوى عبارة عنصرية واحدة (أيها المتوردون … )، وهذا يوضح أنه لم يكن يعتمد سوى الكهانة والشعوذة (كإخراج النار من فمه، أو سجود حماره) للتأثير على أتباعه، مستغلا العصبية القبلية الجاهلية، والشحن الطائفي الشعبوي. ولو قيل إن المؤرخين المسلمين تجاهلوا أقواله، فإننا نقول: لقد أوردوا مقولات مسيلمة الكذاب، وأوردوا كثيرا من شعر قريش الذي هجت به المسلمين وتطاولت على النبي. فلو أن له أقوالا مؤثرة لأوردوها. غياب أقوال الأسود في هذه المصادر لا يُفسر إلا بأنها لم تكن ذات أهمية أو تأثير يستدعي توثيقها، وأنه لم يكن يتميز بأي مقدرة خطابية.

هل الأسود ليس مرتدا؛ لأنه لم يسلم؟

قضية الأسود العنسي، الذي ادعى النبوة في اليمن، تُثار حولها تساؤلات عدة، منها: هل كان الأسود مسلماً ثم ارتد؟ أم أنه لم يدخل الإسلام أصلاً؟ وهل قبيلة عنس كانت مسلمة قبل تمرده؟

وفي هذا يقول أحد المستشرقين: ليس لدينا أي خبر عن إسلام الأسود العنسي. وخلاصة أدلة هؤلاء تتمثل في: غياب الدليل القاطع على إسلامه؛ فلا توجد روايات صريحة تشير إلى إعلان الأسود العنسي إسلامه قبل تمرده، ووصفه في المصادر التاريخية كشخصية معارضة للإسلام منذ البداية يدعم هذا الاحتمال. كما أن المصادر الإسلامية لم تقدم قوائم دقيقة لمن أسلم من اليمنيين، ما يجعل من الصعب إثبات إسلام الأسود العنسي أو قبيلته.

ولكن ثمة تفنيدات لتلك الحجج، تبين تهافتها أمام النقد التاريخي، ومن ذلك:

إن الاحتجاج بعدم ذكر الأسود ضمن من أسلم؛ حجة ضعيفة؛ ذلك أن الروايات التاريخية لا تقدم معلومات تفصيلية عن أسماء الأفراد الذين أسلموا. ووصفهم له بالردة يرجح احتمالية دخوله في الإسلام ضمن قبيلته التي أسلمت، كما أسلمت غيرها من القبائل.

بل إن ادعاء الأسود النبوة وتحديه للنظام الإسلامي يعكس معرفته بالإسلام وتأثره به. وحركته كانت رد فعل عليه. وادعاء النبوة يشير إلى محاولة منافسة الإسلام، وهو ما يدل ضمنيًا على أن الإسلام كان قد وصل إلى منطقته.

فهذا الزعم زعم واه؛ فإذا كان الأسود لم يسمع بالإسلام ولم يعتنقه، فما الذي دفعه إلى ادعاء النبوة ومحاكاة الإسلام؟ هذا يشير إلى أن دعوته كانت حركة مضادة للإسلام وليست مجرد تمرد محلي.

وأما الادعاء بعدم إسلام قبيلة عنس: فيفنده أن المصادر التاريخية تتحدث عن إسلام اليمن بشكل عام: فالنبي ﷺ أرسل معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الدعاة للدعوة في اليمن، وأسلمت معظم القبائل طواعية، بما فيها قبيلة مذحج، التي كان الأسود ينتمي إليها. وقبائل اليمن التي أسلمت اعتُبرت جزءاً من النظام الإسلامي الجديد. وهذا ما تؤكده المصادر التاريخية المختلفة.

كما أن سرية خالد بن سعيد بن العاص ومعه فروة بن مسيك المرادي إلى سرو مذحج، واصطدامه مع بني زبيد وإذعانها إلى الإسلام، وكذلك سرية علي التي عززت سرية خالد، كل ذلك يدل على إسلام عامة قبائل مذحج، ومنها قبيلة عنس، بل إن ذكر المصادر أن زبيد اصطدمت مع سرية خالد دون عنس يعني أن عنس دخلت طواعية.

وتذكر بعض المصادر كالإصابة أن سرية خالد أيضا كانت تمشيطية لليمن، ووجهه النبي بقتال أي قبيلة لم يسمع منهم أذانا، ولا تذكر المصادر إلا قبيلة زبيد، التي سرعان ما أذعنت. وهذا دليل على أن عنس وغيرها كان قد دخلها الإسلام.

وغياب ذكر وفود قبيلة عنس لا يعني عدم إسلامها، لا سيما أن المصادر لم توثق جميع وفود القبائل إلى النبي ﷺ. كما أن انتشار الإسلام بين القبائل كان يتم أحياناً عبر الدعوة المباشرة أو التأثير الفردي، وليس بالضرورة عبر وفود رسمية. ولا يلزم أن تعلن القبيلة إسلامها رسميًا عبر وفد حتى تصبح مسلمة. دخول أفراد القبيلة أو زعمائها في الإسلام يجعلها تحت مظلة الإسلام؛ فإن ثاروا أو ارتدوا لاحقًا، فهم في حكم المرتدين.

وبالمناسبة ذكر د نزار الحديثي في كتابه أن وفد عنس قدم على النبي، وهذا وهم منه، فلا يوجد أي إشارة تاريخية لقدوم وفد عنس وكل ما ذكره المؤرخون والسير قدوم رجل من عنس على النبي، والمحققون يعنون بـ”وفد عنس” فمن يقرأ العنوان يتوهم أن ثمة وفدا لعنس.

وأما حركة الأسود العنسي؛ فإن جميع المصادر التاريخية التي تناولت القضية، وصفت حركة الأسود العنسي بأنها ردة عن الإسلام. ثم إن ادعاء الأسود النبوة يُعد خروجاً عن الإسلام، وهو من أفعال الردة.  كما أن تحركاته العسكرية ضد عمال النبي ﷺ تدل على رفضه للإسلام كدين ونظام سياسي، كما أن قيامه بإقناع القبائل التي دخلت في الإسلام – وفقا للمصادر التاريخية، ومنها زبيد، والحارث بن كعب – يعد ارتدادا صريحا لتلك القبائل نتج عن حركة الأسود.

ولذلك فسواء كان الأسود مسلماً وارتدّ، أو لم يسلم أصلاً، فإن حركته حملت طابعاً مزدوجاً: سياسي (تمرد على السلطة الإسلامية) وديني (ادعاء النبوة). وبذلك فهي حركة ردة.

والخلاصة أنه بالنظر إلى شمولية دخول اليمن في الإسلام، وادعاء الأسود النبوة، وتحركاته العسكرية ضد الإسلام، فإن الأرجح أنه كان مسلماً وارتد عن الإسلام. وأما قبيلة عنس وزبيد وبني الحارث بن كعب التي ارتدت مع الأسود فقد كانت جزءا من الإسلام دينا ونظاما. وحتى إن لم تكن قبيلة عنس قد دخلت الإسلام أصلاً، فالموقف الإسلامي منها سيكون الدعوة للإسلام، أو القتال إذا أبت، كما حدث مع القبائل الوثنية الأخرى. وهذا الإجراء يعكس وحدة الموقف تجاه المرتدين وغير المسلمين في سياق نشر الدعوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى