تناهت صور المنكوبين إلى مرأى العالم، وقرعت صيحات استغاثاتهم سمع أهله، فانزووا كلّ في ناحية، وأجهشوا في البكاء، ثمّ انفجرت منهم الدموع بحاراً. انفجر العالم في البكاء وهو بالملايير، فلم يطعم جائعاً، ولا روى عطشان، ولا ستر مرتجفاً من برد، ولا آوى طريداً خرّ بيته من نيران القذائف التي خطفت بعض ساكنيه، وتركت بعضاً لأوبة قريبة، ولا هو أخذ على أيدي المعتدي الظالم القاهر، وإلى الله تُرجع الأمور. وقديماً قال الشاعر:
وإِذا حصلتَ من السِّلاحِ على البُّكا
فَــحَــشــاكَ رُعــتَ بِــهِ وخَــدَّكَ تَـــقــرَعُ
وفي أرض عربيّة ليست بالقصيّة قد ألقت الظلمات عليها بظلالها- وقف إبليس يضرب كفّاً بكفّ؛ قد ركبته الحماسة حتّى ذهبت بعقله، وإلى جواره رجال؛ منهم من يرتدي الجلابيّة الخليجيّة والعقال، وآخرون شخصوا في بدلات رسميّة، قد ظهرت خوافي بواطنهم على صفحات وجوههم، فهم من سواد الوجوه كغِربان المزابل، وعلت تلك المخازي ابتسامات تثبت بأنّ الكذب لا يقتصر على الكلمة تُنطق، بل قد يتشكّل ابتسامة تفضح.
التفت إبليس إلى يمينه ناظراً إلى رجل في زيّ عربيّ، ورماه بسؤال بلسان صارم: “ما فعلتم لإطالة عمر هذه المذبحة، وسلب مزيد من أرواح الأبرياء، ونهب بيوتهم، وأسر عوائلهم، وسرقة أرضهم؟” فقال الرجل ذو الزيّ العربيّ: “لقد أمددنا المجرمين بالمال والغذاء، وأطلقنا عليهم أقلام المشكّكين السُّفهاء.”، فحدجه إبليس بنظرة حادّة تكاد من حدّتها تقفز إلى الرجل فتنحره من الوريد إلى الوريد، وقال: “لا أبا لك! فأين السلاح والرجال؟ وأين العهود والمواثيق بإيمانهم من كلّ خوف؟!”، فارتعد الرجل في أرضه، وخرجت الكلمات تتخبّط من فمه: “حالاً أطلق الأمر، سيّدي!”.
ثمّ التفت إلى يساره مقطّباً حاجبيه، ينظر باحتقار إلى رجل في بدلة رسميّة ثمّ سأله ساخراً: “وأنتم يا “رَيّس”، بأيّ شيء تعينون أوليائي الملاعين على إهلاك أهل تلك البلاد المستضعفين؟” فطأطأ الرجل رأسه في خشوع، وقال بنبرة كلّها خضوع: “لقد أقفلنا الحدود، فليس يخرج من تلك الأرض من الناس سوى صدى بكائهم، وأسلمنا المعبر لأبنائك”، فهشّ له إبليس، ولمس كتفه لمسة الأب الفخور بأنجب أولاده، ثمّ قال: “إنّ مواطني بلادك كثير، فما هيّأت لردعهم إن هم ثاروا لدعم إخوانهم؟” فقهقه الرجل ثمّ قال: “حبست عقلاءهم، فهم لا يهتدون إلى الثورة سبيلا، ثمّ شغلتهم بالفقر وغلاء الأسعار، فهم من همّ قوت عيالهم في شغل عن هموم إخوانهم، ثمّ شرعت في هدم تراثهم أمام أبصارهم؛ فهم من تغييب العقلاء، ووطأة الغلاء، وهدم البناء في حيرة وحزن وهمّ ليس بعده همّ!”. فأشار إبليس إليه بيده أن انصرف.
وبينما هم على حالهم إذ برجل قد امتزج الخبث بالقلق في ملامحه يغشى المجلس، ينحني لإبليس ثمّ يقول: “سيّدي، لقد أنزلنا بهم من القوارع ما من شأنه أن يخلع قلوبهم من أجسادهم، ولقد تكفّل القتل والرعب والجوع بفريق منهم، فهم يطلبون ترك البلاد، ويحضّون المجاهدين على الاستسلام لنا والنزول على أمرنا، غير أنّ الأعمّ الأغلب منهم يأبون ذلك، ويصرّون على الموت في مدنهم وبيوتهم الخرِبَة، ولئن قتلناهم جميعاً فلن نفلت من قبضة القانون الدوليّ، وسيُحال عُمّالك وأولياؤك إلى المحاكم والسجون، وقد تنامت أعداد عمليّات القتل والخطف بحقّ أبناء مستعمرتك، وقلبت لنا دول الشرق والغرب ظهر المجنّ، فانظر أمرك!”
تلفّت إبليس من حوله لا يهدأ له بال، ثمّ تمتم يقول: “أين وليّ العهد ذاك؟” ثمّ رفع صوته صائحاً: “ايتوني به الساعة!”، ليضجّ المجلس بعامريه؛ هذا يرفع هاتفه ليتّصل، وذلك يشيح بنظره إلى غير وُجهة، وكلّ يدّعي شُغلاً لينجو من سورة العقاب. وفُتح الباب، ودخل منه رجلٌ سمينٌ دميم، يلبس ثوباً عربيّاً، فانحنى لإبليس خاضعاً، ثمّ استوى فقال: “لقد أمرتَ بحضوري، سيّدي”، فقال إبليس بنبرة توبيخ: “ما فعلتَ في مملكة أبيك؟”، فقال: “لقد سجنت الشيوخ العالمين الصادقين، وطاردت المثقّفين العاقلين، وسلبت المملكة أموالها، وأنفقتها في مشروعاتنا، وجلبت إلى البلاد كلّ فاجرٍ وفاجرة، وأطلقت للجهلة العِنان؛ فهم يتراقصون ويتحاببون بغير دينٍ يردع، أو عُرفٍ يمنع.” فهزّ إبليس رأسه برضاً ثمّ قال: “أحسنت، ولكنّنا نحتاج إلى المزيد، لا بدّ من تضليل الناس وإشهار دعمكم للمستضعفين، حتّى يتخفّف احتقانهم، فإنّ الظُّلم وإن قويتْ قبضته واهٍ ضعيفٌ أمام العدل إذا انتفض أهله.”، هزّ وليّ العهد رأسه وقال: “أمرك، سيّدي”، ثمّ التفت وذهب يؤمّ الباب يشتدّ.
وبعد سويعات خرج الرجال الثلاثة كلٌّ على منبر يخاطب الإعلام، يتحدّثون عن ضرورة إنهاء الحرب عاجلاً، وضمان حقوق المستضعفين، وإعادة السلام إلى البلاد، والغوغاء من ورائهم يصفّقون، وإبليس، أيضاً، شوهِد مبتسماً يصفّق.