معركتان في فجر الإسلام غيّرتا خارطة الأمة حتى يومنا هذا: معركة القادسية في العراق، التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الفارسية، ومعركة اليرموك، التي مهّدت الطريق لجيوش الفتح الإسلامي نحو دمشق. وعندما فتح الصحابة دمشق، سُلِّمت لهم مفاتيح بيت المقدس دون أن يُوجِفوا عليها خيلًا ولا ركابًا.
وهكذا أدرك الصليبيون محورية دمشق. فعندما دخلها الجنرال اللنبي عام 1918م، قال عند قبر صلاح الدِّين: (ها قد عدنا يا صلاح الدِّين). وقد أتقنَ الفرنسيون اللعبة، فأسسوا ما عُرف بـ”جيشِ المشرق” في سوريا، وهو جيشٌ مكوّن من الطوائف الخارجة عن الأمَّة، التي كانت بمثابة جيوب تحمل حقدًا وحنقًا عليها، مثل النُّصيرية وبقايا الحشاشين. إذ كانت العلاقة بين الاستعمار وهذه الطوائف في شهر عسل دائم. ويكفي أن تتأمل رسالة سليمان الأسد – جد الرئيس السُّوري حافظ الأسد – التي وجهها عام 1936م إلى رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك، حيث رفض فيها الوحدة مع سوريا الكبرى وطالب باستمرار الانتداب الفرنسي، لتدرك مدى التلاحم بين المشروع الصَّليبي والنصيرية في تلك الديار.
وعندما غادر الاستعمار الفرنسي، واستلمت المخابرات الأمريكية زمام الأمور في المنطقة، لم تجد حليفًا أوفى من “جيش المشرق” لتنفيذ انقلاب على الحكومة السورية المنتخبة آنذاك، مما مهَّد الطريق لتسليم البلد تدريجيًّا للطائفة.
وقد زادت الأزمة تعقيدًا بفشل النخبة السنية آنذاك، التي بدلاً من اغتنام الفرصة التاريخية لتأسيس دولة الأغلبية، انصرفت إلى إشراك الأقليات الباطنية في العملية السياسية من خلال حزب البعث العربي. وكانت هذه إحدى أخطاء أكرم الحوراني، الزعيم السُّني العلماني، الذي تجاهل الفواصل العقدية بين المسلمين والطائفة النصيرية، فأدخلهم إلى العملية السياسية من خلال حزب البعث.
لم تمر سوى سنوات قليلة حتى تحالف النصيريون مع الإسماعيليين، وأقصوا العناصر السنية المؤثرة من الحزب، ثم استأثروا بالسلطة بعد التخلص من حلفائهم الإسماعيليين. وقد أفرزت هذه التجرِبة نظام حكم فريدًا، لكنه كان كارثيًا على شعب الشَّام. فقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اغتصاب أكثر من 8000 مسلمة في السنوات الأخيرة، ومقتل نحو مليون شخص، وتهجير نصف الشعب السوري، بالإضافة إلى خنق الحريات وكبت أصوات هذا الشعب العظيم.
لقد فار دمي وأنا أتابع شهادة (الرئيس السوري الأسبق) أمين الحافظ في برنامج شاهد على العصر، وهو يردد عبارته المتكررة: “عيب أن أنقلب على قيادة البعث”. فبادله أحمد منصور قائلاً: “الضباط العلويون يدبرون انقلاباً لاختطاف الدولة من أمامك، وأنت تردد عيب عيب؟!”.
وهكذا ضاعت سوريا على يد النخبة السنية العلمانية التائهة، لتصبح لقمة سائغة للطائفة النصيرية. وعندما صعد النصيريون إلى الحكم، أفرغوا حمولتهم العقدية المنحرفة، وأطلقوا حقدهم الطبقي، ليقدموا واحدة من أسوأ تجارب الحكم التي عرفتها المنطقة في العصر الحديث.
من المشاهد التي أذهلتني وأنا أتابع شهادة الأستاذ حسان الصفدي (نائب رئيس علماء سوريا)، أنه في السجن وُضع السجناء أمام بركة من الديزل. سألهم السجانون عن مهنهم، وكانت الإجابات بين مهندس، وطبيب، وأستاذ جامعي، فأنزلوهم إلى البركة وانهالوا عليهم بالسياط الحديدية. أما حسان، فقد قال إنه “قهوجي يقدم القهوة في الدكان”، فاستثنوه من ذلك الجحيم، إذ كان قريبًا من طبقة السجانين!
لقد تجمعت في النظام النصيري كل ملوثات العصر: عقيدة باطنية خبيثة، فكر اشتراكي دموي، وعقدة طبقية تجاه الأغلبية السنية. وبكى السوريون دمًا على أيام الاحتلال الفرنسي، إذ يرصد أحد المؤرخين أن المساجد لم تُنتهك طيلة تلك الحقبة. أما مع طلائع الحكم النصيري، فقد بدأت عمليات اقتحام المساجد وهدمها على رؤوس ساكنيها. وما مأساة “حماة” 1982م عنا ببعيدة، حيث أُبيد ربع سكان المدينة خلال 27 يومًا، وأُلقي بالمعتقلين في المسالخ البشرية لعقود، ومات الكثير منهم تحت التعذيب.
قدمت سجون الأسد في سوريا نموذجًا أسطوريًا في البشاعة، حتى أصبحت علامة أرضية تذكّر بجهنم. وقد روى طبيب سوري، ساقته الأقدار إلى تلك السجون عن طريق الخطأ، أنه كان يتشكك في وجود جهنم لأن الله رحيم، ولا يرضى لعباده كل هذا العذاب الأليم. ولكنه، بعد أن عاش تجربة السجون وتعرّف على طبيعة السجانين، أيقن بعدالة الله، وأن جهنم هي الجزاء العادل لتلك الفئة من البشر التي فاقت الشياطين إجرامًا وتوحشًا.
يكفي القارئ أن يتأمل الصور المسربة من قبل ( قيصر)2014م، التي كشفت عن هياكل بشرية ذابت في مسالخ الأسد، أو أن يطالع تقرير منظمة العفو الدولية الذي وثّق وفاة 13 ألف معتقل تحت التعذيب في سجن “صيدنايا” سيئ السمعة. هذا إلى جانب “جحيم القرن العشرين”، سجن “تدمر”، الذي وصفه بعض الأدباء السوريين بأنه نسخة حقيقية من جهنم.
لقد تدثّر النظام النصيري خلف عباءة القضية الفلسطينية، رغم أن سجلّ نظام الأسد مع هذه القضية مخزٍ وفاضح. فقد كان ياسر عرفات يتلوّى من الألم وهو يغادر بيروت فارًّا إلى تونس، يلعن حافظ الأسد صباح مساء. فحافظ الأسد، بجيشه، حسم المعركة في لبنان لصالح الصليبيين واليهود ضد القوات الفلسطينية، وأخرج آخر مقاتل فلسطيني يقاوم إسرائيل من لبنان.
هذا النظام، الذي سلّم الجولان هدية باردة لليهود مقابل صعوده إلى الحكم(1967م)، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل في فلسطين طيلة نصف قرن.
وهو النظام ذاته الذي زعم الانحياز لمحور “الممانعة”، بينما كان في الواقع أحد الخناجر المغروسة في قلب الشام لوأد أي صحوة تحررية. وحينما احتاجت غزة إلى دعمه، رفض حتى منح المقاومين مترًا واحدًا من الجولان ليقاوموا منه. بل تمرد حتى على حلفائه من إيران وحزب الله اللبناني، ورفض السماح لهم بإطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل من جهة الجولان.
بسقوط هذا النظام، ستنتعش الآمال بتحرير فلسطين، لأنه كان الدرع الأكثر تحصينًا لليهود في المنطقة. كما أن سقوطه يعني انكماش المشروع الصفوي الجديد في المشرق العربي.
إنَّ فتح دمشق سيكون له أبعاد كبيرة، فهو مفتاح لتحرر المشرق العربي من المشروع الصفوي، شريطة أن نتعلم من دروس التاريخ.
لقد رفع اليهود بعد الحرب العالمية الثانية شعار “لن يتكرر هذا أبدًا” (Never Again) تعبيرًا عن عزمهم على منع أي تكرار للجرائم ضد الإنسانية التي تعرضوا لها، والعرب السنة مطالبون برفع شعار مشابه: “لن يتكرر هذا أبدًا”، في وجه مشروع التطهير الباطني الذي عانت منه دمشق، وتعاني منه بغداد وصنعاء حتى اللحظة.
سقوط رأس الحربة لهذا المشروع في دمشق وبيروت مؤذن بفجر جديد للمنطقة، (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا )الإسراء:51.