المدونة

صراع الطبقات في رواية الحرب في بر مصر (ج3)

الشخصيات وطبيعة الصراع: الشخصية “هي كل مشارك في أحداث الحكاية، سلبًا أو إيجابًا، أما من لا يشارك في الحدث فلا ينتمي إلى الشخصيات، بل يكون جزءًا من الوصف، الشخصية عنصر مصنوع، مخترع، ككل عناصر الحكاية، فهي تتكون من الكلام الذي يصفها، ويصور أفعالها، وينقل أفكارها وأقوالها “(1). ركز يوسف القعيد على الشخصية أكثر من المكان وأكثر من الحوار، فهو يجول بتركيز القارئ على الشخصية، يبحر في أعماق كل شيء حوله ظروفه ونشأته وبيئته، مستوى تفكيره.. كل شيء.

العمدة نموذج الطبقة المهيمنة ـــ الاستغلال ــــ والفساد المهدِد، الرشوة، الأنانية، والظلم، ذلك الرجل القوي المسيطر تسيطر عليه آفة العجز، والضعف وتأسره المخاوف، يؤمن أنه وأولاده من أصل شريف، وأن الفلاحين ما هم إلا “أولاد الكلب” العمدة في الرواية معجبًا بقوة أبيه وتصرفه القوي مع الشدائد، يبدو أنه تعلم من والده الكثير، وأنه يحتذي به ويحب أن يصبح على مثاله، وورث عنه عقيدته الطبقية أن الناس في بر مصر نوعان: أولاد الناس، وأولاد الكلب “(2). والعمدة الذي يسرد لنا كيف يحب وطنه وأنه يحب أن يُذهب أبناءه للجهادية، لكن الخطأ كان بإعفاء ابنه الأكبر وتبعته الحكاية، العمدة يرى نفسه (مظلومًا) والزمان يجور عليه، ويكرر حديث مظلوميته مع كل موقف تراه، وسرده يبين أنه رجل حسود رغم كل ما في يديه، يحسد الناس على كل شيء حتى النوم وراحة البال، وحب التملك لكل شيء وكأن الدنيا حيزت له من دون الناس، العمدة وأبناؤه ينعمون في رغد الوطن فلماذا لا يدافعون عنه؟ أوليس المغرم على قدر المغنم ؟، أم أن المغانم لهم، والمغارم على الفقراء والبسطاء، المغانم لـ”أولاد الكلب” هم أهل الوجاهات والسلطة يقدمون أرواح الفقراء قرابين، لتخلص لهم الأمجاد فهي حق فطري لهم.

المتعهد رمز المكر والدهاء والرشوة، الذي يهرب من عالمه بالنوم، ليحلم ذلك الحلم الذي عاد فيه للتربية والتعليم. “مع أني لم أظلم أحدًا طوال عمري، حياتي كلها خدمات للناس” كنت أطالب بحق في وضوح الشمس، ومع هذا وجدت هناك بئرًا اسمه فم الحكومة المفتوح دائما”، شخص ذكي له مهارة متميزة في الإقناع، ألقى على المحقق مبررات كثيرة وأن الأمر لا يستدعي تحقيقًا، أن ما حدث هو مصالح مشتركة وأن الأمر مسألة اقتصادية، وكان برضى الطرفين.. وذوبان اسمه القديم ولصوق اسم المتعهد عليه دليل على ذوبانه في عمله “كمتعهد” حتى تلاشى شخصه القديم، والخطة التي حكاها في السرد دليل على إحكامه وإتقانه ومن المفارقات أنه كان يعمل أستاذًا للمرحلة الابتدائية، مربٍ فاضل، ومنشئ قيم وأخلاق، أصبح يمارس العمل من تحت الطاولة، ويضرب على الأخلاق والضمير أستارًا وحجبًا من المبررات.

الخفير، يمثل القهر والذل ـــ شخصية مستسلمة ــــ من المفارقات أنه خفير ولا يمتلك شجاعة لمواجهة أي شيء، يخاف الطرق على الأبواب، يشعر أن طرقات الباب إنما هي طرقات على رأسه، شخصية سلبية، فقد هانت عليه نفسه، فهان عند الناس، وهوانه تابع لثقافة الفلاح ووعيه الفكري في ذلك الوقت، وفي نهاية الرواية نلتمس من حديثه أنه نادم وآسف، متحسر، على موافقته يقول: “أنني لو اطلعت على الغيب، ما كنت اخترت ما حصل لي أبدًا ” (3)

الصديق: رمز الوفاء في الرواية، نلاحظ الصديق بدأ سرده بتأريخ استشهاد مصري بالتاريخ القبطي والمسيحي والإسلامي، لعله يرمز بهذا إلى وجود “الضحايا” في كل عصر من العصور، وأن مصر قدمت شهداء في كل زمان، وأن الفساد قديم وباقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الصديق لم يسم لأنه يمثل كل صديق، ولأنه موجود في الرواية بصفته “صديق مصري” لا بصفته وشخصه وحياته، يبدأ حديثه من النهاية “أمامي صندوق خشبي بداخله مصري “(4)  ثم يتدفق علينا بسيل الذكريات وتيار الوعي، فسيرد ذلك اليوم البعيد الذي تعرف فيه على مصري، تشعر أن الصديق يتحدث عن مصري بشجن، ويتلذذ بذكر اسمه وصفته، ويصف لنا خوالج نفسه فتلتمس حزن ذلك الصديق، ومحبته الخالصة لمصري. والضابط رمز الدقة والتحري والشرف، يقص علينا حاله مستعملًا كل ألفاظ الارتباك والخوف والقلق، وجد الضابط نفسه في مشكلة، يقول: “تشابكت المعاني في ذهني، وعصفت بي الحيرة، فكرت في العودة إلى الوحدة، رائحة الجثة منعتني “(5). أما هو المحقق رمز العدل، المحقق اسمه يدل على صفته، كان يود إظهار الحقيقة ويسعى حثيثًا لمحاصرة العمدة كي يعترف، ومصري رمز التضحية ــــ شخصية مقاومة ــــــ قدمه أبوه الخفير، لم يستطع أن يتقبل أنه توفيق ابن العمدة، كان ينسى اسمه، وتثقله خطوته، ويثقل كاهله حمل ذاك السر، ويود أن يخبر الجميع أنه ليس توفيقًا، احتفظ بشهادة نجاحه في الإعدادية وأخذها معه في جيبه. وتوفيق العمدة لا يتذكر أسماء أولاده، توفيق الوحيد الذي ذكر اسمه من بين من أبناء العمدة، “بل هو الشخصية الوحيدة التي ذكر اسمها في الرواية” رمزية اسم توفيق لعلها سخرية من يوسف القعيد وأن الاسم لتلك الشخصية “الدلوعة” “الفاشلة” من أسماء الأضداد فهو غير موفق في شيء، التوفيق الوحيد الذي حالفه هو الهروب من الجيش.

أما أمه الزوجة الجديدة: التي تمثل “عقدة العمدة في الرواية”، ولعل أزمة مصري كانت بسببها هي وابنها، وكاتب حجرة التلفون ذلك الناصح للعمدة، ومستشاره، هو الذي نصحه باللجوء للمتعهد، وهو الذي تكفل بشرح الأمر للمتعهد، الذي أقنع العمدة بأن مصري هو الشخص المناسب، وأقنعه أنه بذلك يخدم مصري وأبوه الخفير.

اللغة: لغة الكاتب “لغة محلية فصيحة سهلة” اللغة لم تكن موغلة في الفصاحة، بل ملائمة للفلاح ولثقافته البسيطة، اللغة في الرواية من أهم مقومات نجاحها، نرى يوسف القعيد يستخدم التعبيرات التي تناسب المستوى الاجتماعي والثقافي للقرية مثل” إما أن يكون في بياض الحليب، أو في سواد هباب الفرن ـــــ “الناس الذين يكملون عشاءهم نومًا حمروا لنا أعينهم” ـــــ “أصبحت أرملة أو هجالة بلغتنا نحن أبناء الريف” ــــ “وأن الناس تداريها الحيطان” ــــ طريق أبو زيد كله مسالك ـــــ الكلام عن الأتعاب سابق لأوانه ــــ الجوع كافر ــــ الطبخة معدة للعمل ـــ وكانت الدنيا قد ليلت ــــ الإنسان يربط من لسانه ـــ العين بصيرة واليد قصيرة.. وغير ذلك، ولكن تختلف اللغة عند سرد الصديق، والضابط والمحقق” تناسب المستوى الفكري لتلك الفئة، واستخدام المصطلحات العسكرية واللغة الحادة، وبذلك جاءت اللغة والتعبيرات في حلة جميلة تبين عن المستوى الاجتماعي لطبقة المتحدث، فألفاظ المتعهد الأستاذ تختلف عن ألفاظ الخفير، وإن كان الرداء العام للغة بسيط وريفي.

يتبع في الحلقة الرابعة..

الهوامش:

  1. لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان، دار النهار للنشر، بيروت الطبعة الأولى ص144
  2. الرواية ص 19
  3. الرواية ص 77
  4. الرواية ص80
  5. الرواية ص129

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى