أشتات

هل انتصرت المقاومة ؟

الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر جنده، وأرغم أنوف الأعداء وحده، وبعد:

ما إن أُعلن عن اتِّفاق إطلاق النار، بين الكيان الصهيوني الغاشم وبين المقاومة الفلسطينية (بكلِّ فصائلها)، وتراجع دخان المعركة حتَّى ثار غبار اللوم والعتاب، على إثر الحوار والجدل عن مدى ما حقَّقته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مِن وراء عملية “طوفان الأقصى”، والمكاسب التي يمكن اعتبارها لترجيح صوابيَّة قرار القيام بعملية بهذا الحجم. ورغم أنَّ الجراح لا تزال تنزف، والنفوس لا تزال مكلومة، والواقع الغزَّاوي تحت تأثير الصدمة التي تشكَّلت مِن عدوان وخذلان استمرَّا لأكثر مِن (450) يومًا، في ظلِّ مرأى ومسمع مِن العالم العربي والإسلامي والإنساني، إلا أنَّ إثارة التساؤلات انطلقت على أثير مواقع التواصل الاجتماعي لتوجِّه تفكير المتلقِّين والمتابعين مِن التجاوب مع ظروف غزَّة الحالية إلى جدل بيزنطي، لا يدخل فيه عمل نافع وواجب الوقت.

هنا، نحتاج أن نتأمَّل هذا الواقع وطبيعة المشهد الذي يراد تشكيله في المرحلة القادمة. لهذا سنحاول أن نجيب على عدَّة أسئلة لتوضيح الرؤية في هذا الشأن.

مَن السائل؟

التساؤلات هي أمر اعتيادي ومشروع، مِن حيث هي، فهي تعبير عن غريزة إنسانية تبحث عن إجابة للإشكالات التي ترد أو تورد في ظروف معيَّنة، وبالتالي فهي تمثِّل عادة حالة صحِّيَّة إذا وجِّهت توجيهًا صحيحًا، ولغايات صحيحة.

والذين يسألون عن مدى انتصار المقاومة الفلسطينية، أو هزيمتها، عقب أكثر مِن (450) يومًا مِن العدوان الغاشم، أصناف عدَّة:

– هناك سائلون صادقون: لديهم إخلاص، وشعور بالمسئولية، ولديهم شعور بحجم المأساة والمعاناة، ويحملون عاطفة جيَّاشة تجاه الحالة الإنسانية في غزَّة، ومِن ثمَّ فتساؤلهم ينطلق مِن خلفيَّة بريئة ومِن حساسية لحجم الخسائر التي تراها. وهذا الفريق يدخل فيهم، مَن هو صاحب وعي ومعرفة وخبرة، وآخرون ليس لديهم وعي ومعرفة وخبرة كافية، وبالتالي سيكونون نهشًا للإجابات الملغومة. 

– هناك سائلون فاشلون: لديهم رغبة في التنفيس غن إخفاقاتهم، مِن خلال صرف الأنظار عنهم إلى غيرهم، وإهالة اللوم على العاملين والمبادرين، وهم لا يقدِّمون -عادة- كشف حساب عن إنجازاتهم في مثل هكذا أوضاع، وكلَّ ما يملكونه هو لسان ذرب في “التنمُّر” على الآخرين، وجعلهم مادَّة للوم والعتاب. 

– هناك سائلون بنوايا خبيثة: وهم المنافقون، المعادون للقوى الإسلامية بمختلف توجُّهاتها، ومشاربها، وللجهود الإسلامية بغضِّ النظر عمَّا تواجهه مِن تحدِّيات ومخاطر، فهم يحاولون إدانتها واتِّهامها وتشويهها وإلقاء اللائمة عليها في كثير مِن الملفَّات. وهؤلاء طوائف، مِنها أحزاب علمانية وأنظمة عميلة وتيَّارات معادية للتديُّن والمتديِّنين. 

– هناك سائلون لديهم خلافاتهم مع تيَّارات إسلامية بعينها: فهم ينفِّسون عن خلافاتهم بطرق مختلفة، مِن باعث الخصومة والخلاف، وضمن محاولات الإدانة لها، ولفت الأنظار إليهم باعتبارهم الأسلم نهجًا والأنجح طريقة. 

– هناك سائلون ليس وراءهم حمولة أيديولوجية، مِن ذوي الاهتمامات بقضايا الأمَّة، فهم يستمعون لوجهات نظر مختلفة، وفي حيرة مَن حجم الجدل الدائر، وليس لديهم الخبرة للتعامل مع هذا الواقع. 

– هناك سائلون مِن داخل المجتمع الفلسطيني، ممَّن أصيبوا بخسائر فادحة في الأرواح والممتلكات والأحوال، وباتوا تحت ضغط هذه النتائج التي تدفع بهم للسؤال عن مدى الانتصار الذي تحقَّق بالفعل، إذ أنَّ مشهد الدمار والخراب والأشلاء والدماء لا يمكن اعتباره انتصارًا.

هذه مقاربة يمكن الإضافة لها، لكنَّها تستعرض الشرائح الكبرى في خضمِّ النقاشات الجارية، حيث يمكن رصد أصناف أخرى، لكنَّ هذه هي الشرائح الأهم. وبالتالي، لا يمكن التعامل والتجاوب مع هؤلاء جميعًا، بمختلف شرائحهم، بمنطق واحد، ومِن خلال إجابة واحدة، لأنَّ الحكمة تقتضي إجابة كلِّ شريحة بما يناسب منطلقاتها ومرجعيَّاتها ومدى وعيها وفهمها، وقربها وبعدها مِن المعركة.

قضيَّة عقيدة إسلاميَّة .. الأدلَّة والنقاشات2 هل انتصرت المقاومة ؟

ما المقصود بالسؤال؟

السؤال في ظاهره المتَّفق عليه بين جميع الشرائح يقول: هل انتصرت المقاومة الفلسطينية بعد هذه الحرب؟ وما ملامح هذا الانتصار؟

لكنَّه يحمل في بواطنه أسئلة أخرى تخفيها بعض الشرائح، مِن قبيل:

– إذا كانت المقاومة الفلسطينية قد انتصرت فأين المكاسب والغنائم لهذا الانتصار؟ 

– وإذا كانت المقاومة الفلسطينية قد خسرت فما هي التبعات التي ينبغي أن تتحمَّلها نتيجة لذلك؟ 

– وإذا كانت الخسارة بهذا الحجم فما جدوى المقاومة المسلَّحة؟ 

– وهل كانت عملية “طوفان الأقصى” التي تسبَّبت في هذه الحرب مشروعة؟ 

– وإذا لم تكن عملية “طوفان الأقصى” مشروعة فهل يمكن محاسبة المقاومة الفلسطينية عليها؟

أما المخلصون، الذين يوردون التساؤل عن براءة، فهم يبحثون عن إجابة تشفي جراحهم وتقنع شكوكهم حول ما يثار عن جدوى المقاومة، ومواجهة المحتل، في ظلِّ خسائر بهذا الحجم. فهم يريدون إجابة لتثبيتهم والشدِّ على أيديهم، ولإغلاق الظنون التي يثيرها المنافقون في نفوسهم.

وقد تعاطى القرآن الكريم مع هكذا أسئلة في الزمن الأوَّل، فقد قال تعالى: ((ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيكُم مِّن بَعدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُم وطَائِفَةٌ قَد أَهَمَّتْهُم أَنفُسُهُم يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيرَ الْحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِن الأَمرِ مِن شَيءٍ قُل إِنَّ الأَمرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَو كَانَ لَنَا مِن الأَمرِ شَيءٌ مَّا قُتِلنَا هَاهُنَا قُل لَّو كُنتُم فِي بُيُوتِكُم لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيهُم القتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِم وَلِيَبتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُم وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ))، آل عمرن: 154؛ وقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخوَانِهِم إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرضِ أَو كَانُوا غُزًّى لَّو كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسرَةً فِي قُلُوبِهِم وَاللَّهُ يُحيِي وَيُمِيتُ واللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ بَصِيرٌ))، آل عمران: 156.

وعندما عقد الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- الصلح مع مشركي مكَّة، في الحديبية، ورأى فيه المسلمون هزيمة وخضوعًا لمطالبهم، ثبت رسول الله في المضي فيه، حتَّى نَزَلَت سُورة الفَتح، فلما نزلت وقَرَأَها رسول اللَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- على عُمَر بن الخطاب -رضي الله عنه، إلى آخِرِها، قال عُمر: “يا رَسولَ اللَّه.. أَوَفَتحٌ هُوَ؟”. قال: (نَعَم)(1) . فأشكل على عمر أن يكون الصلح الذي رأى فيها إجحافًا بالمسلمين فتحًا كما وصفه الله.

إنَّ السؤال الذي يبحث عن إجابة سيطلب كلَّ مظان الإجابة، ومِن ثمَّ سيتواصل مع أصحاب الشأن والمعنيِّين به، ومع الخبراء والمختصِّين، ومع أهل العلم والرأي، بعيدًا عن الإثارة التي تلقي في نفوس المؤمنين الشكوك والظنون، وتبعث على الخلاف والجدل، وعن استغلال المنافقين لها للطعن في أهل الحقِّ وأصحاب القضية.

الأقصى غزة مدمرة 2 هل انتصرت المقاومة ؟

ماذا وراء السؤال؟ وما دلالات التوقيت؟

بعد خذلان الأمَّة للفلسطينيين لأكثر مِن (450) يومًا، لا يليق بها أن توجِّه لومًا وعتابًا، فضلًا عن طرح تساؤلات تحمل في طيَّاتها الإشكالات والألغام النفسية والعاطفية، خصوصًا وأنَّ المجتمع الفلسطيني اليوم بحاجة إلى المواساة والإغاثة والعون، والكثير مِن الجهود لتعويض خسائره التي تسبَّب بها العدوان الصهيوني، مع خطاب يثني على ثباتهم وصمودهم وتضحياتهم وصبرهم ورباطهم، ويشدُّ على أيديهم وعلى عزائمهم، ويحافظ على وحدتهم واجتماع كلمتهم، خصوصًا أنَّ هناك مَن يتربَّص الفرصة لبثِّ الفرقة والتحريش بين أبناء فلسطين، وإيجاد قضية للخلاف والخصومة والانشغال الداخلي.

ومِن المعلوم أنَّ التوقيت شرط في صحَّة كثير مِن الأمور، وأساس في نجاحها، كما أنَّ اختيار بعض التوقيتات يشي بالخبث والدهاء، لأنَّها تستهدف استغلال حالة الغليان أو اليأس أو الخصومة. وهناك مِن الأسئلة ما ينبغي تركها إلى حين، واختيار المستهدفين مِن رواءها. وهذا يجرُّنا للقول إنَّ كثيرًا مِن الأنظمة العربية، وأدواتها الاستخباراتية، تعمل عند كلِّ محطَّة انتصار أو تحوُّل على صرف الأنظار إلى غير الوجهة الأهم، والقضايا ذات الأولوية.

فهناك أسئلة ملحَّة يفرضها الوقت، وهي مِن قبيل:

ما مدى دور الأنظمة العربية في الانخراط، بشكل أو بآخر، في حصار غزَّة، ودعم الكيان الصهيوني، والتآمر على المقاومة؟

وما مدى حضور النخب المثقَّفة والأحزاب والجماعات ومنظَّمات المجتمع المدني في مشهد المقاومة؟ ولماذا أخفقت في التحرُّك نصرة للفلسطينيين إزاء حرب إجرامية متوحِّشة؟

وما مدى قيام الأفراد -مِن عموم الأمَّة- بمسئوليَّاتهم الشرعية والأخلاقية والإنسانية تجاه إخوانهم في فلسطين، وغزَّة خصوصًا؟

هذا ما كان ينبغي طرحه ومناقشته في ظلِّ الثبات والصمود الأسطوري الذي أظهره مقاومو قطاع غزَّة أمام آلة القتل والتدمير الصهيونية، وكلِّ تقنيَّات الرصد والتعقُّب والقصف.

لقد كان مِن الواضح أنَّ الأمَّة قصَّرت بشكل ملحوظ إزاء العدوان الذي جرى على غزَّة، وفشلت في الحركة والتأثير على مستوى الأقطار المحلِّية، وعلى المستوى الإقليمي. وكان ينبغي إيقاظها واستحثاثها للاستعداد والإعداد لهكذا حالة اشتباك ينال فيها الأعداء مِن أبنائها. خصوصًا وأنَّ التقصير كان واضحًا، مقارنة مع ما قامت به شعوب ونخب غير إسلامية على الصعيد الدولي.

لقد كان مِن الأولى طرح الأسئلة عن واجبات الوقت الراهن، واجبات الدعم والإسناد والإغاثة والعون، على مستوى الاقتصاد والتنمية والبنى التحتية والخدمات والاحتياجات الفردية (الغذاء، الدواء، الكساء، السكن)؛ خصوصًا وأنَّ العدو الصهيوني أسرف في البطش والتنكيل والتدمير.

فإذا كان لا بدَّ مِن السؤال كانت هناك قضايا أكبر ومواضيع أكثر إلحاحًا؛ لكن يبدو مِن الواضح أنَّ بعض هذه الأسئلة تريد توجيه البوصلة وتثبيط العزائم وتشكيك النفوس، خصوصًا أنَّ وراءها ما يسمَّى بـ”الذباب الإلكتروني”، وشخصيَّات محسوبة على أنظمة معيَّنة، وأشخاص ليس لهم اهتمام غير الطعن على الجهود الإسلامية، الدعوية والسياسية والعسكرية والإنسانية.

مَن المعني بالإجابة؟

وعلى افتراض أنَّ السؤال المطروح مِن قبل البعض سؤال ملحٌّ، فمَن المعني بالإجابة عليه؟ هل العامَّة على وسائل التواصل الاجتماعي؟ هل الأنظمة وأذنابها؟ هل النخب الفاشلة والفاسدة وذات الخصومة الموروثة مع التيَّار الإسلامي؟!

في الحقيقة، المعني بالإجابة على هذا السؤال هم أصحاب الشأن والاختصاص العلمي والخبرة العملية والرأي، أمَّا مَن دونهم فسؤالهم لا يزيد الجاهل إلَّا جهلًا وضلالًا. لهذا، ينبغي على الصادقين الاستماع إلى:

– أصحاب الشأن الفلسطيني مِن داخل الفلسطينيين أنفسهم، ممَّن يرون آثار الأحداث على الكيان الصهيوني بالتوازي مع رؤيتهم لآثار الأحداث على الفلسطينيين. 

– المختصِّين في العلوم السياسية والعسكرية والإستراتيجية، ممَّن يملكون المعرفة الدقيقة بهكذا أمور، فالمختصِّين أكثر دراية مِن أصحاب المعارف العامَّة. 

– أصحاب الخبرة العملية، وفي طليعتهم رجال المقاومة الفلسطينية الذين خبروا تجارب سابقة مع الكيان الصهيوني، ويعرفون مدى آثار هذه الأحداث على الطرفين، فالخبرة تكرِّس المعرفة الصحيحة وعلى مستوى التنزيل لا التنظير. 

– أصحاب الرأي، ممَّن يمتازون بالقدرة الفقهية والاستشرافية الواعية، حيث أنَّ تفكيرهم وتأمُّلاتهم ونظرهم للأمور يتجاوز اللحظة الراهنة والخبرة التاريخية نحو آفاق المستقبل، بحيث يُعرف عنهم التنبُّؤ بالاحتمالات المستقبلية.

وأيُّ إجابة خارج هذا الصنف مِن الناس لن يشفي عليلًا ولن يروي غليلًا.

الهوامش:

  1. انظر: البخاري، رقم: (3182).

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى