يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس شركاء في ثلاث الكلأ والماء والنار)
في الأزمنة التي تكسر فيه الحروب والأزمات الآمال وتفرغ الأرض من أحلامها، لا شيء أكثر إلحاحًا من إعادة البناء والتأسيس، ليس فقط ما تهدم من البنى التحتية، بل أيضًا ما تهدم من قلوب وعقول. في سوريا اليوم، حيث يئن الشعب منذ سنوات طويلة من الظلم والدمار والفقر والإقصاء، يكمن التحدي الأكبر في بناء اقتصاد جديد يُحاكي آمال الشعب ويستعيد الحياة التي سلبها الاستبداد. وسرعان ما تختفي لحظات الفرح- التي نتمنى لو أنّها لا تتوقف- بعد الخلاص من دولة الاستبداد والظلم، وما إن يطلع الفجر حتى تبرز أمامنا أسئلة حاسمة: كيف نعيد بناء سوريا اقتصادياً؟ وما هي الأسس التي تضمن استدامة النهوض؟ وماذا نحتاج لنشيد دولة تعيش على مبادئ العدالة والمساواة؟
إعادة الإعمار: خلق فرص العمل وتطوير البنية التحتية
لا يخفى على القارئ الكريم أنّه لا يمكن لسوريا أن تنهض اقتصادياً ومعيشياً دون إعادة بناء من الداخل لأنّ التغيير الذي لا يبدأ من الذات تغيير شكلي، وقد ذكر ذلك الاقتصادي بول كوليير في كتابه ذائع الصيت المليار الأدنى، إذ قال: “يجب أن يأتي التغيير في المجتمعات في أدنى مستوياتها من الداخل في المقام الأول؛ ولا يمكننا فرضه عليه”. إذن، ليست المسألة مجرد ترميم وترقيع للواقع الحالي، وليس كذلك الأمر مجرد إصلاح للطرق المتهالكة ومدّ الجسور والارتفاع بالبنيان فحسب، بل إعادة بناء أسس الاقتصاد نفسها. ولعلَّ أول خطوة نحو هذا المسار هي تركيز الجهود على مشاريع إعادة إعمار المرافق العامة الرئيسية، والتي -بدون أدنى شك- تشمل الإنسان السوري ابتداءً. هذه المشاريع يجب أن تكون واسعة النطاق، من إنشاء بنية تحتية قادرة على دعم نمو مستدام، إلى استحداث صناعات جديدة توفر فرص العمل لملايين العاطلين عن العمل، إلى الاستثمار في جميع القطاعات الأساسية في حياة الناس: كالإسكان، والنقل، والطاقة، والتعليم، على أن تكون هذه المشاريع موجهة لتحسين جودة الحياة أولًا، وتوفير فرص عمل حقيقية لشباب سوريا ثانيًا.
ومن أهم الخطوات المهمّة والحيوية في هذا السياق تشجيع الاستثمار، وإعطاء ضمانات للمستثمرين السوريين في الخارج لجذب رأس المال وإعادة الاستثمار داخل سوريا. من أجل ذلك ينبغي على الحكومة السورية الجديدة أن تضع استراتيجيات واضحة لضمان حماية أموال وأفكار المستثمرين، سواء كانوا داخل أو خارج البلاد. وهذه الاستراتيجيات تشمل تسهيل إجراءات نقل الأموال، وتوفير أطر قانونية لحماية حقوق المستثمرين، وضمان أن البيئة الاستثمارية في سوريا الجديدة ستكون آمنة ومستقرة، وكذلك توفير حوافز استثمارية، وتقديم تسهيلات في عملية بدء المشاريع، ودعم العمليات القانونية، وتعزيز ثقافة الشفافية والثقة، ممّا سيُساهم في تدفّق الاستثمارات وجذب رجال الأعمال السوريين المغتربين إلى وطنهم الأم. خصوصًا وأنّ العديد من المستثمرين السوريين في الخارج يمتلكون مستوى عالٍ من الخبرة والابتكار، ولديهم القدرة على تطوير مشاريع تساهم بشكل كبير في تحسين الوضع الاقتصادي السوري.
الاقتصاد المستدام: نمو يراعي البيئة والمصادر المحلية
أيًا كانت حجم المشروعات التي ستنفذ في سوريا، فإنه من الضروري أن يتم بناء هذه النهضة على أسس اقتصادية مستدامة، والاقتصاد المستدام هو الاقتصاد القائم على رأس مال قوامه ابتكارات وإبداعات الإنسان ذاته، ويخدم أهداف التنمية المستدامة ويسعى جهده لرفع مستوى الأفراد في المجتمع على كلّ الأصعدة. ولذا فإنّ اقتصاد سوريا بعد سنوات الجدب والظلم يجب أن يرتكز على مبادئ تحترم التوازن بين الاستدامة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية، وتعتمد على الموارد المحلية. هذه الاستدامة تراعي جودة الصحة والخدمات المقدّمة من قبل مؤسسات الدولة كما تُراعي دخل الفرد واحتياجاته المادية، فلقد تبيّن وفق الإحصائيات والأرقام – كما ذهب جيفري ساكس في كتابه ثمن الحضارة – أنّه بالرغم من أن الولايات المتحدة تُعدّ من بين أغنى دول العالم من حيث متوسط دخل الفرد، إلا أنها لا تحتل مركزًا متقدمًا في مؤشرات الرضا عن الحياة، حيث تأتي في المرتبة السابعة عشرة. ولا يقتصر تفوّق دول مثل فنلندا والنرويج والسويد عليها في هذا الجانب، بل تسبقها أيضًا دول أقل توقعًا مثل كوستاريكا وجمهورية الدومينيكان. ويذهب ساكس إلى أن العوامل الأكثر تأثيرًا في مستوى الرضا عن الحياة لا تتعلق بالضرورة بالدخل، بل بالصحة وطول العمر، وهما عنصران يمكن تحقيقهما حتى في الدول ذات الدخل المتوسط للفرد، مما يعني أن مستوى السعادة والرضا لا يرتبط دائمًا بالثراء المادي. وقد عبّر أحد خبراء التسويق عن هذه الفكرة بعبارة لافتة قائلا: “أساسيات العيش متاحة بأسعار زهيدة، لكن متطلبات الاستعراض الاجتماعي وإرضاء الذات مكلفة. فالحياة بذاتها لا تحتاج إلى ثروة طائلة، لكن التفاخر بها يفعل ذلك.”. وهذا يُؤكّد أنّ الاقتصاد النامي عليه أن يحترم الأولويات والاحتياجات الأساسية، حتى ننتقل به من النمو المؤقت للنمو المستدام المطلوب.
التنمية الشاملة: العدالة الاقتصادية لكافة الفئات
وحتى نُحقّق النمو الاقتصادي فمن غير الممكن الحديث عن نهضة حقيقية في سوريا دون أن تكون هذه النهضة شاملة وعادلة. فلا تنمية تنجح إذا كانت محصورة في فئة دون أخرى، أي ثراء فئة ما على حساب فئات المجتمع الأخرى، كما كان يصنع النظام البائد، والذي تعامل مع سوريا باعتبارها مزرعة خاصة يفعل بها ما يشاء، يقتات على خيرها ثم يُجوّع الشعب المكلوم حتى الرمق الأخير. إنّ التنمية الاقتصادية المُستدامة يجب أن تكون مدفوعة بمبدأ العدالة الاجتماعية، بحيث تضمن لجميع شرائح المجتمع فرصة المشاركة في التنمية. وهذا لن يتمّ بصورة سليمة من غير وضع سياسات تهدف إلى توفير فرص متساوية للفئات الأكثر تضررًا من الفترات السابقة، والفئات الأكثر فقراً وعوزاً. إنّه الفقر الذي استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرنه بالكفر: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت).
والحقيقة أنّ الإسلام يتميز برؤية مختلفة عن النظام الرأسمالي فيما يتعلق بقضية توزيع الثروة وضمان العدالة الاجتماعية. فهو لا يعتبر الفقر مجرد نقص في المال، بل يربطه بمستوى الكفاية ومدى قدرة الأفراد على تلبية احتياجاتهم الأساسية. ولهذا، يلزم الإسلام الدولة بتوفير حد الكفاية لكل فرد، وهو الحد الذي يضمن له مستوى معيشي كريم، يُعرف أحيانًا بحد الغنى. ويرى الإسلام أن انخفاض مستوى المعيشة يرتبط بظاهرتين أساسيتين: الفقر والبطالة، حيث لا يمكن معالجة الفقر دون التطرق إلى مشكلة البطالة. وتُقسم البطالة إلى نوعين؛ إجبارية، وهي تلك الناجمة عن ظروف خارجة عن إرادة الفرد، ويستحق صاحبها المساعدة من الزكاة والدعم والتنمية، واختيارية، حيث يختار الفرد عدم العمل رغم توفر الفرص، وفي هذه الحالة لا يجوز له الاستفادة من أموال الزكاة. في المقابل، يعتمد النظام الرأسمالي على فرض الضرائب كوسيلة لمعالجة الفقر، إلا أن هذا الحل لم يثبت فاعليته كوسيلة مستقلّة، حيث أصبحت ظاهرة التهرب الضريبي إحدى المشكلات الأساسية التي تعيق تحقيق العدالة الاقتصادية، والعجيب في الأمر أنّ أكثر المُتهرّبين ضريبياً هم من أصحاب الملايين، الذين يحصلون على تخفيضات ضريبية كبيرة، وبرغم ذلك يبحثون دائماً عن مخارج قانونية للتهرّب من دفع مُستحقاتهم، وهذا يزيد المسافات بين أصحاب الثروات وطبقات المجتمع الأخرى. ويرجع ذلك إلى أن النظام الرأسمالي قائم في الأصل على أسس مادية بحتة، مما يجعله عاجزًا عن تحقيق التوازن الاجتماعي. وقد أقرّ الاقتصادي الشهير اللورد كينز، أحد أبرز منظري الرأسمالية، بفشل هذا النظام في بلاده (إنجلترا)، مؤكداً الحاجة إلى حلول بديلة لمعالجة هذه القضايا.
في هذا السياق، يمكن أن تكون صناديق دعم المشاريع الصغيرة أحد الأدوات المهمة والضرورية، فالمشاريع الصغيرة تعد من الركائز الأساسية لبناء المجتمعات النامية، حيث تساهم في تعزيز الإبداع وتفتح الأبواب للاستثمار والمشاركة الاقتصادية لجميع الأفراد، لا سيما فئة الشباب. فالتشجيع على تأسيس هذه المشاريع يمكّن الأفراد من التعبير عن طاقاتهم الإبداعية وتحقيق استقلالهم المالي، مما يساهم في بناء حالة اقتصادية متساوية بعيدة عن الاحتكار والظلم. ولقد كان لنموذج البروفيسور محمد يونس في بنغلاديش، الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في عام 2006م أحد أبرز الأمثلة الناجحة في مجال دعم المشاريع الصغيرة وتحقيق النمو الاقتصادي في البلدان النامية. إذ أسس يونس بنك الفقراء (Grameen Bank) عام 1983م، وهو مشروع مبتكر يهدف إلى تقديم قروض صغيرة للمحتاجين، خصوصًا للفقراء الذين لا يستطيعون الحصول على قروض من البنوك التقليدية. اتّبع يونس نموذجاً يعتمد على القروض الصغيرة (Microfinance) لدعم المشاريع الصغيرة التي تقوم بها الأسر الفقيرة، وتحديدًا النساء. كانت القروض الصغيرة تُقدّم بدون ضمانات مادية، وتعتمد على الثقة والضمان الاجتماعي الذي تُوفّره المُجتمعات المحلّية. وقد استطاع هذا المشروع رفع ملايين الناس من براثن الفقر من خلال تمويل مشروعاتهم متناهية الصغر مثل الحرف اليدوية، والتجارة المحدودة، والزراعة، ما أدّى إلى خلق فرص عمل ودخل منتظم لأسر فقيرة في المناطق الريفية. وقد كانت فكرة يونس قائمة على مبدأ بسيط، لكن ثوري في الوقت نفسه: التمويل للجميع، حتى لمن لا يمتلكون أية ضمانات مادية. واليوم، يعد البنك البنغلاديشي للجرامي أحد أكبر المؤسسات المالية الصغيرة في العالم، ويُعتبر نموذجًا دوليًا يحتذى به في مجال التمويل الأصغر ودعم المشاريع الصغيرة.
التعليم والتدريب المهني: تجهيز الشباب لمستقبل مشرق
وفي قلب هذه النهضة الاقتصادية المنشودة، يقبع العنصر الأهم: الشباب. والمنطقة العربية – كما يعلم القارئ الكريم – تُعدّ من أكثر مناطق العالم التي تتميز بتركيبة سكانية فتية، حيث يشكل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عامًا ما يقارب نصف إجمالي السكان، وتكشف الإحصاءات عن أن نسبة كبيرة من الشباب في العالم العربي يواجهون تحدي البطالة، حيث تعاني ثلث القوى العاملة الشابة من عدم توفر فرص العمل، مما يجعل معدل بطالة الشباب في المنطقة الأعلى عالميًا. الشباب، هؤلاء الذين ظلوا يحملون الأمل في خبايا قلوبهم، والذين حلموا بسوريا أفضل، هم اليوم من أجل صنع المستقبل بحاجة ماسّة إلى التعليم الذي يفتح أمامهم آفاق العمل والإبداع. وهذا يتطلب إعادة بناء منظومة التعليم الحالية، بحيث تركز على المهارات الحديثة مثل تكنولوجيا المعلومات والهندسة والذكاء الصناعي واقتصاديات التنمية والعلوم السياسية وإدارة السياسات العامة مع تعزيز التدريب المهني ليشمل كافة القطاعات.
من المهم بمكان أن تتضافر جهود الحكومة الجديدة في دمشق مع القطاع الخاص لبناء مراكز تدريب مهني وتأهيل الشباب السوري لمواجهة تحديات السوق الجديد. وإحدى أهم الأبعاد التي يُمكن العمل على تطويرها لمواكبة النهضة الاقتصادية لدى الشباب هو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة. فالشباب السوري لطالما كان معروفًا بعقوله المبدعة، خاصة في المجالات التقنية. ومن الممكن استثمار هذه العقول في بناء قطاع رقمي قوي يعزز من قدرة سوريا على المنافسة في السوق العالمي. إنّ العقول الشابة التي تملك القدرات التقنية والتوازن الأخلاقي يمكن أن تكون الأساس لاقتصاد جديد يعتمد على الابتكار والتكنولوجيا في خدمة الإنسان والمجتمعات. إذا وضعت الدولة دعمها الكامل نحو القطاعات التكنولوجية مثل الذكاء الاصطناعي، يمكن لسوريا أن تصبح مركزًا إقليميًا للابتكار، في وقت أصبحت فيه التكنولوجيا أحد أكبر محركات النمو الاقتصادي اليوم.
اختتامًا: الاستثمار في الإنسان أساس النهضة الاقتصادية
ختاما، إنني على يقين أن سوريا التي ستنهض من جديد هي سوريا التي تضع الإنسان في صميم استراتيجياتها الاقتصادية، فتستثمر في رأس المال البشري، وتعيد بناء بنية تحتية قوية تحترم كرامة الإنسان، وتضمن العدالة الاقتصادية لجميع أبنائها. إن بناء سوريا جديدة يتطلب استثمارًا حقيقيًا في الشباب – باعتباره عماد المستقبل- وفي مهاراته، وأخلاقياته، وحقوقه. فلا يمكن للنهضة الاقتصادية أن تكون ممكنة ما لم يكن كل فرد في المجتمع شريكًا في هذه المسيرة. وبذلك، نخطو خطوة أولى نحو بناء دولة قوية، قائمة على أسس العدالة والمساواة. فالاستثمار في الإنسان هو الأساس الذي يقوم عليه المستقبل، وهو الضمان الوحيد لاستدامة الاقتصاد، ولإقامة دولة مستقرة وقوية. ولكن، لا يمكن تحقيق ذلك عبر اجتهادات فردية فحسب؛ بل يتطلب عقد العديد من ورش العمل والمؤتمرات التي تجمع بين أصحاب الخبرات والاختصاصيين من مختلف المجالات. ومن المهم أيضًا دعوة الخبراء لتقديم دراسات تسهم في توجيه صانعي القرار نحو خطوات مدروسة، تستند إلى أسس علمية، لتحقيق الانتقال الفعلي إلى سوريا الجديدة. إضافة إلى ذلك، يجب أن نطّلع على التجارب الناجحة في المنطقة للاستفادة منها وتطبيق ما يتناسب مع واقعنا.
دعونا نلتقي مجددًا، ولكن هذه المرة على مائدة موضوع آخر بالغ الأهمية، لا يقلّ تأثيرًا عن النهضة الاقتصادية: الهوية الوطنية في سوريا الجديدة، وكيف نخطو معًا نحو بناء وطنٍ جامعٍ للجميع. فإلى لقاء قريب، حيث تظل الأسئلة حية والأفق مفتوحًا.